المجلس الدستوري يعيد كرة النصاب إلى مجلس النواب/نقولا ناصيف
نقولا ناصيف*:
باتت «سقطة» المجلس الدستوري، تبعاً للصفة التي أضفاها على نفسه وعلى الأعضاء الآخرين رئيسه طنوس مشلب، وراء الجميع، كي تذهب بهؤلاء إلى الانتخابات النيابية المقرّرة في أيار 2022. إما ما خلّفه المجلس الدستوري وراءه، فأسوأ مما لم يفعله.
الفضيلة الوحيدة غير المقصودة للمجلس الدستوري في عدم اتخاذه في 21 كانون الأول قراره، أن تحفظ للمسجلين غير المقيمين حقهم في التصويت الوطني في قانون الانتخاب النافذ. ما عدا ذلك، ليس لأي أحد أن يفهم كيف تمكن الأعضاء العشرة الملتئمون بنصاب كامل أن يكحّلوا العمى ويعموا المكحّل. عوض حل مشكلة، تسبّبوا في أخرى أسوأ وأكثر تعقيداً.
أخرج المجلس الدستوري نفسه من الاشتباك الدائر من حول قانون الانتخاب، إلا أنه أدخل الطرفين المعنيين بالنزاع في مجلس النواب في مشكلة، يتداخل الدستوري بالسياسي فيها، من دون التيقن من إمكان حلها أو توفير توافق عليها. بات قانون الانتخاب نافذاً، وأمراً واقعاً يفرض على الأفرقاء جميعاً الانخراط في الانتخابات النيابية العامة على أساسه. غير أن المشكلة المستجدّة لا تقتصر على هذا الاستحقاق فحسب.
حتى الآن لم تنته كل الجولات. ربح رئيس البرلمان نبيه برّي ثلاث مرات: بإقرار القانون في المرة الأولى، ثم بالإصرار عليه في المرة الثانية في رد على استخدام رئيس الجمهورية ميشال عون المادة 57 من الدستور، ثم بعدم صدور قرار المجلس الدستوري الذي أكد إنفاذ قانون الانتخاب كما أقره البرلمان في المرة الأولى مع أنه لم يكن قد علّق أحكام تطبيقه. بدوره الفريق الآخر الممثَّل برئيس الجمهورية وحزبه التيار الوطني الحرّ ربح ثلاث مرات: بوضع النصاب الدستوري لانعقاد مجلس النواب وتصويته على لائحة الجدل السياسي غير المتفق عليه، ثم باللجوء إلى المادة 57 لرد قانون الانتخاب، ثم أخيراً بالطعن في القانون المختلف عليه. عملاً بما لم يتخذه المجلس الدستوري في 21 كانون الأول، وهو آخر الجولات المعلنة، فإن برّي كان الرابح الأخير.
بيد أن الجولات لم تنته تماماً. لم تعد المعضلة في قانون الانتخاب، بل في النزاع على الأرقام المفترضة في احتساب نصاب الأكثرية المطلقة في مجلس النواب: 59 نائباً (باستقالة أو وفاة 12 نائباً) أم 65 نائباً من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً؟ معضلة ستستمر طوال السنة الأخيرة من ولاية رئيس الجمهورية إذا التأم البرلمان في عقد استثنائي- المستبعد إلى الآن – أو في العقد العادي الأول والأخير في ولايته الحالية.
لأن المجلس الدستوري تنصّل من اتخاذ قرار في مراجعة الطعن في قانون الانتخاب، فإن جولة أولى من متاهات جدل دستوري جديد، وربما طويل، باتت حتمية:
أول أسبابها، أن نفاذ قانون الانتخاب وذهاب الأفرقاء جميعاً إلى الانتخابات النيابية، يشير إلى التسليم بالنصاب القانوني المصوَّت به على هذا القانون من جهة، وإلى اعتقاد الأفرقاء القائلين بنصاب 59 صوتاً أنه أضحى واقعياً معمولاً به وغير مشوب بأي عيب من جهة أخرى. كان رئيس الجمهورية رفض توقيعه كي لا يعترف بهذا النصاب قبل أن يطعن به التيار الوطني الحرّ. كلاهما خسر الرهان من دون أن يلقيا بعد السلاح.
ثانيها، مع أن المجلس الدستوري بعدم إصداره قراره جنّب نفسه الخوض في نصاب الأكثرية المطلقة الحالية، بيد أنه لم يحلّ الخلاف الدستوري عليه، ولم يحسمه حتماً، بل أدخله في سجال إضافي. لم يقل رأيه فيه، ولم يفسّر نصاب الأكثرية المطلقة الحالية. ولأنه لم يرد المراجعة ولم يتخذ قراراً فيها، فإن النزاع على التفسير المزدوج لنصاب الأكثرية سيستمر خارج جدران المجلس الدستوري، وسيعود إلى داخل جدران مجلس النواب، من غير أن يتيح له أن يفسَّر ما هو في صلب صلاحياته الدستورية. في كل جلسة مقبلة يعقدها البرلمان، سيجد نفسه في خضم المشكلة ذاتها، وانقسام الكتل حيال الغالبية المصوِّتة.
ثالثها، لأن المجلس الدستوري المفترض أنه مؤسسة الاحتكام إلى الصواب الدستوري لم يُرِد أن يقول – خلافاً للصلاحية المنوطة به – كلمته في قانون مطعون فيه، أضحى التفسير المزدوج للنصاب القانوني للغالبية المطلقة جزءاً لا يتجزأ من الاشتباك السياسي اليومي. يمنح ذلك رئيس الجمهورية حق استخدامه مجدداً المادة 57 من الدستور في كل مرة يُحال إليه قانون صادق عليه مجلس النواب، خلافاً لوجهة نظره التي باتت تفسّر – على طرف نقيض من تفسير برّي – نصاب الانعقاد والتصويت. يضع ذلك مجلس النواب بين فكي تفسيرين، دونما أن يكون ثمة مَن يُحتكم إليه موثوق به في التفسير.
رابعها، مع أن المجلس الدستوري في عدم اتخاذه قراره في 21 كانون الأول بدا كأنه أنجد نفسه من الوقوع في مشكلة، بيد أنه فقد تماماً دوره:
– لا يملك أن يقول إنه لم يتفق على القرار لأن نصاب الأصوات السبعة لم يتوافر.
– قانونا إنشائه ونظامه الداخلي يلزمانه اتخاذه ما إن يقيّده بمهلة شهر ملزمة لإصداره.
– يصدر القرار إما بالإجماع أو بالغالبية المحددة بسبعة أصوات على الأقل. مَن يعارض له أن يدوّن مخالفته ويوقّعها، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من القرار الذي يصدر حكماً بالغالبية المرجحة. ما يمنحه القانون للمجلس الدستوري اللبناني يحرّمه على المجلس الدستوري الفرنسي الذي يحظر على العضو المخالف تدوين مخالفته، بيد أنه يلزمه القبول بنتائج التصويت وتوقيع المحضر الذي يصدر عنه القرار.
– لأن قراراته مبرمة قاطعة لا تقبل المراجعة، ليس له عدم بت المراجعة المحالة إليه.
– لأنه مؤسسة دستورية لا يملك مجلس شورى الدولة ولا محكمة التمييز صفة مشابهة له، لم يحجم أي منهما يوماً عن اتخاذ قرار بدعوى عدم توافر نصاب التصويت. على نحو مشابه لهما في المقابل، المجلس الدستوري معني بقاعدة إحقاق الحق الذي هو الفصل في دستورية القوانين.
– مع أن أعضاءه ليسوا قضاة، إلا أن القضاة الأعضاء من بينهم خبروا إبان وجودهم في سلك القضاء أنهم عرضة للعقاب إذا أحجموا عن اتخاذ موقف الموافقة أو المخالفة.
الأسوأ في ما فعله هؤلاء، أنهم باتوا صانعي أعراف مؤسستهم. عام 2013 أوجدوا العرف الأول القاضي بعدم صدور قرار من جراء تعطيل نصاب انعقاد المجلس ومذاكرته القرار.
أخيراً أوجدوا العرف الثاني بعدم توافر نصاب الأكثرية الملزمة لإصدار القرار وإن في ظل نصاب مكتمل.
ما رامَ يعنيه كلا العرفين أن عدم صدور قرار سيمسي في تقاليد المجلس الدستوري مستقبلاً، يدرج عليها من الآن فصاعداً. إذا اختلف فريقان أو ثلاثة من المعيِّنين لأعضاء المجلس الدستوري أمسكوا بعنقه.
* المصدر: جريدة الأخبار.
“محكمة” – الثلاثاء في 2021/12/28