الموجبات المتتابعة وغير المتتابعة والموجبات الإيجابية والموجبات السلبية/حسام البرناوي
حسام الدين محمّد البرناوي:
تعتبر الموجبات إحدى الركائز الأساسية لكلّ نظام قانوني، وبدونها لا يمكن أن يقوم أيّ تصرّف قانوني. إذ لا يتصوّر العقل أن يكون هناك أيّ تصرّف أو عقد أو عمل قانوني دون نشوء موجب يلازمه في قيامه ويندمح في آثاره القانونية.
إنّ اختلاف النشاطات المالية والاقتصادية بين الناس كان له أثر كبير على اختلاف مجمل الأعمال القانونية (الأعمال المنظّمة قانوناً) التي يقومون بها كشراء السلع والخدمات، ممّا شكّل اختلافاً في طبيعة الموجبات المتعاملة بين الناس، الأمر الذي دفع المشرّع وكلّ مشرّع إلى تصنيف الموضوعات على أساسه.
إنّ الموجب وبصفته المؤقّتة أعدّ أصلاً لتنفيذ موضوعه المرتبط به ارتباط الجسد بالروح من خلال ترتيبه حقّاً شخصياً يخوّل صاحبه مطالبة الفريق الآخر بإنفاذه، ويتضمّن هذا الموضوع أيّ موضوع الحقّ الشخصي بموجب المادة 187 من قانون الموجبات والعقود اللبناني، إمّا القيام بعمل(موجب الفعل/الموجب الإيجابي)، وإمّا امتناعاً عنه (الموجب السلبي)، وإمّا موجب أداء شيء معيّن (الموجب الإيجابي).
ومن زاوية أخرى، تتنوّع الموجبات وفقاً للمعيار الزمني إلى موجبات متتابعة وموجبات غير متتابعة(المادة 44 موجبات وعقود اللبناني)، فالموجبات المتتابعة هي تلك التي يتمّ تنفيذها على دفعات أو على مراحل مستقبلية، أمّا الموجبات غير المتتابعة، فهي تلك التي لا تتمّ على مراحل أو على دفعات واحدة (التنفيذ الآني).
وانطلاقاً من كلّ ذلك سوف نتطرّق في بحثنا هذا إلى القسمين الآتيين، أيّ الموجبات المتتابعة وغير المتتابعة، والموجبات الإيجابية والموجبات السلبية.
القسم الأوّل:تصنيف الموجبات وفقاً للمعيار الزمني.
الجزء الأوّل: مفهوم الموجبات المتتابعة وغير المتتابعة.
إنّ المبدأ في الموجبات لا يقضي بأن تنفّذ في آنٍ معاً (أيّ على مرحلةً واحدة)، بل يمكن أن تنفّذ على عدّة مراحل أو دفعات ضمن مرحلة زمنية معيّنة أو غير معيّنة بحسب الاتفاق الحاصل.
إنّ عبارة الموجبات المتتابعة تعني لغةً: الموجبات وهي جمع موجب، الالتزام أو الباعث(الدافع) على العمل. أمّا كلمة المتتابعة فهي مشتقة من الفعل”تابع” أيّ مشى خلفه وأمضى معه، والفعل”تبع” يعني أنّه سار مع الشيء وألحقه، أمّا التتبّع أيّ طلب الشيء وبحث عنه مليّاً، أمّا عبارة “المتتابعة” فتعني طلب العمل والمواظبة على الإستمرار في تنفيذه.
أمّا شرعاً: فيورد أهل الشرع الإسلامي أنّ كلمة “متتابع” انبثقت من كلمة “تابعي” وتعني من لقي الصحابي مؤمناً ومات على الإسلام، أيّ الذين آمنوا أصحاب النبي محمّد(ص) وتابعوه بتبعيته أيّ بهديته.
أمّا قانوناً: فقد عرّف المشرّع اللبناني في المادة 44 من قانون الموجبات والعقود اللبناني الموجبات المتتابعة والموجبات غير المتتابعة حين نصّت على يكون الموجب متتابعاً إذا كان تنفيذ موضوعه لا يتمّ بعمل واحد دفعةً واحدة، بل يتمّ بالإمتناع أو بعمل مستمرّ أو بسلسلة من الأعمال.
يفهم من هذا النصّ أنّ الموجبات المتتابعة هي تلك التي يتمّ تنفيذها على عدّة دفعات أو تلك التي يستغرق تنفيذها على عدّة دفعات أو تلك التي يستغرق أو يتطلّب تنفيذها وقتاً من الزمن(سنة أو ثلاث سنوات مثلاً)، وتتابع في التنفيذ سواء تمّ تحديد المدّة أو لا.
وانطلاقاً من نصّ المادة 44 موجبات وعقود، نرى بأنّ هناك ثلاث حالات للتابع متمايزة عن بعضها البعض؛ الحالة الأولى، عندما يتناول الموجب موجباً بالإمتناع عن القيام بعمل ما، أو سلسة أعمال متتالية من خلال اتخاذ موقف سلبي تجاه عمل إيجابي(مثال: امتناع التاجر عن عدم فتح مؤسّسة تجارية منافسة لأخرى)، وهو يتمثّل بالإمتناع المتتالي المتتابع عن فتح مؤسّسة تجارية منافسة.
أمّا الحالة الثانية، فهو عندما يتمّ تنفيذ الموجب الذي يحكمه صفة العمل المستمرّ(المتواصل) ضمن إطار زمني معيّن(مثال:قيام الوكيل بمتابعة أعمال الوكالة بموجب عقد الوكالة).
أمّا الحالة الثالثة، فهي تقوم على استغراق الموجب زمناً معيناً نتيجة تناوله سلسة أعمال متقطّعة(متقطّعة من حيث التنفيذ)؛(مثال: قيام موزّع المحروقات بتزويد كمّيات كبيرة بشكل محدود في أوقات متتابعة وفقاً للإتفاق الحاصل). ولقد أطلق الفقه الأميركي على هذا النوع من الموجبات تسمية الموجبات المتتالية-المتعاقبة-المتواصلة.
يشار إلى أنّه بالإمكان تضمين العقد كلّ الموجبات المعروضة آنفاً(أيّ من الحالات الثلاث المذكورة أعلاه)؛ مثال: دفع المستأجر بدلات الإيجار بشكل دوري، أو بشكل متواصل على شهر أو على سنة مثلاً، هنا تناول الموجب مرحلة التتابع في سلسة من الأعمال، وموجب امتناع المستأجر في التنازل عن الإجارة لآخر(موجب امتناع عن القيام بفعل التنازل)، وموجب تمكين المستأجر من الانتفاع في المأجور طيلة مدّة الاجارة(موجب متتابع مستمرّ ومتواصل).
أمّا الموجبات غير المتتابعة، فهي تلك التي يتمّ تنفيذها بعملٍ واحد دفعةٍ واحدة، ويطلق عليها تسمية “التنفيذ الآني للموجب”، مثال: دفع مبلغ من النقود لقاء شراء سيّارة،هدم عقار مخالف للقانون، إزالة التعدّي الواقع على الملكية. ويتميّز هذا النوع من الموجبات بعدم وجود فاصل زمني أو وقتي بين لحظة نشوء الموجب(نشوء العقد) وبين لحظة تنفيذه، بحيث لا تطول السنوات على قيام كلّ طرف بموجباته. ففي حال اتفق الطرفان على وضع مهلة زمنية لتنفيذ الموجب(موجب معلّق على أجل)، الأمر الذي يحتّم القول تأجيله، تأجيل تنفيذه ولو لمدّة قصيرة لا يمحو عنه صيغة الموجب غير المتتابع، لأنّ الموجب ارتبط بأجل معيّن(مدّة سنة أو ثلاث سنوات مثلاً)، وإذا تحقّق هذا الأجل يتمّ تنفيذ الموجب آنياً وعلى دفعة واحدة.
إذاً، المعيار واضح، وهو يقوم على الصفة الزمنية القائمة بين مرحلتي النشوء والتنفيذ، فإذا كانت إرادة الفرقاء اتجهت إلى وضع مهلة زمنية للتنفيذ بعد نشوء العقد عندها يكون الموجب غير متتابع، أمّا إذا لم يضعوا مهلة معيّنة أو محدّدة التنفيذ بحيث تمّ الاتفاق على أنّ التنفيذ يتمّ على مراحل معيّنة أو على دفعات معيّنة عندها يكون الموجب متتابعاً.
في بعض الأحيان، تكون طبيعة الموجب الملقى على عاتق أحد فرقاء العقد فيوصف بأنّه موجب غير متتابع بمجرّد قيام أحد أطرافه بتنفيذ موجبه آنياً(مثال:تسليم الشقّة فوراً من شركة عقارية)، إلاّ أنّه في المقابل، يكون الموجب الملقى على عاتق الطرف الآخر(المشتري) هو غير متتابع تمثّل موجبه بدفع أقساط متتالية ومستمرّة على فترة زمنية معيّنة. ففي هذه الحالة يكون مفهوم التمييز بين الموجبات المتتابعة والموجبات غير المتتابعة أدقّ من مفهوم التمييز بين العقد الآني والعقد المستقبلي، ممّا يدعونا إلى القول إنّ توصيف العقد في هذه الحالة يؤكّد لنا أنّه موجب متتابع ومستمرّ خلال فترات زمنية متفق عليها لأنّه قام على إنشاء موجبات تمثّلت بدفع أقساط مالية ضمن فترات معيّنة.
الجزء الثاني: المقارنة القانونية بين الموجبات المتتابعة والموجبات غير المتتابعة.
للمقارنة القانونية بين الموجبات المتتابعة والموجبات غير المتتابعة خصائص عملية لناحية كيفية زوال الموجبات، ممّا يستدعي ذلك دراسة أنظمة الإبطال والإلغاء والفسخ.
بالنسبة لإبطال العقد الذي يتضمّن موجبات معيّنة، فإنّه ذلك النظام الذي يعيد الحال إلى ما كانت عليه قبل التعاقد، أيّ أنّه يبطل جميع التصرّفات القانونية وقت وأثناء التعاقد، وتعتبر كأنّها لم تنشأ ولم تنفّذ أصلاً. ففي الموجب المتتابع والذي يتخذّ صفة العمل أو الأعمال المتتالية التنفيذ، لا يمكن ما بدأ بتنفيذه أن يتمّ إبطاله؛ مثال: عقد العمل:لا يمكن لربّ العمل أن يسترجع عمل الأجير في حال تمّ إبطال عقد العمل؛ ففي هذه الحالة يطبّق نظام فسخ العمل نظراً لطبيعة الموجب الذي تمّ تنفيذه، ممّا يستدعي اعتبار كلّ الأعمال التي تمّ تنفيذها في مرحلة سابقة على الفسخ، صحيحة. أمّا في العقود غير المتتابعة التنفيذ أيّ العقود ذات التنفيذ الآني، فإنّه لا مشكلة تثار في هذا الصدد بحيث يطبّق نظام الإبطال، فإذا كنا أمام مشكلة في تكوين العقد نطبّق الإنعدام والإبطال، أمّا إذا كنّا أمام مشكلة في تنفيذه، فنطبّق الإلغاء والفسخ وفقاً للأحكام العامة المنصوص عنها في قانون الموجبات والعقود اللبناني.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ نظام الفسخ يطبّق على تلك العقود المتتابعة التنفيذ التي وجدت في النواة الأساسية لكلّ عقد بحيث شكّل الزمن عنصراً أساسياً فيه كعقد الوكالة والإيجار والعمل والضمان والشركة، أمّا إذا كانت إرادة الفرقاء اتجهت نحو إلزام أنفسهم بوضع مدّة زمنية معيّنة للتنفيذ كوضع مدّة معيّنة لدفع أقساط على بيع السيّارة، عندها تبقى الموجبات المتتابعة قائمة ولكن لا يطبّق عليها نظام الفسخ المذكور بل تستردّ مفعول الإبطال الرجعي (مثال: ورد عن عقد العمل على لسان محكمة التمييز الفرنسية عام 1927).
بالنسبة لإلغاء العقد في الموجبات المتتابعة، فقد أثار هذا الموضوع جدلاً كبيراً في الاجتهادات الفرنسية حول تيّارين أساسين، يذهب الأوّل إلى اعتبار أنّ للإلغاء مفعولاً أساسياً في الموجبات المتتابعة، بينما يذهب الثاني إلى تطبيق مبدأ عدم جواز إلغاء العقد في الموجبات التي بدأ تنفيذها إنطلاقاً من أنّ الموجب المتتابع بحكم طبيعته القانونية لا يعيد الحال إلى ما كانت عليه قبل التعاقد.
إنّ رأينا يميل إلى تطبيق مذهب التيّار الثاني الذي أيّده أكثر من اجتهاد فرنسي (قرار رقم 466 تاريخ 1957/2/23 – صادر عن المحكمة المدنية الفرنسية، وقرار صادر عن الغرفة التجارية في فرنسا في 3م1/1972) مفاده أنّ طبيعة العقود المتتابعة لا تنتج أيّ أثر قانوني على تلك التي نفّذت ما قبل إنهاء العقد، وبالتالي لا يصحّ تطبيق الإلغاء القانوني عليها طالما نفّذت هذه الموجبات على الوجه الصحيح ،حيث لا يبقى لأحد أن يتذرّع بإلغائه نظراً لوجود عيب في التنفيذ، عدا عن ذلك ووفقاً للمسار الطبيعي للأمور فإنّه لا يجوز أن يتمّ طلب إلغاء عقد متتابع التنفيذ أصبح في مرحلة متقدّمة منه (مرحلة التنفيذ)، بحيث إذا طلب ذلك سوف يقع إلغاؤه بطريقة تعسفية ما لم يوجد سبب قانوني آخر وفقاً للأحكام العامة لقانون الموجبات والعقود(المادة 239 موجبات وعقود وما يليها)، كما أنّ مسألة الإلغاء بطريقة تعسفية سوف تخرق مبدأي: العقد شريعة المتعاقدين وحسن تنفيذ العقد، ممّا يدعو إلى عدم وجود أيّ مبرّر لإلغاء العقد الذي نفّذ على الوجه الصحيح ووفقاً لمبادئ حسن النيّة والاستقامة في التعامل على مراحله المستقبلية.
أمّا في العقود غير المتتابعة التنفيذ فتنطبق عليها أحكام الإلغاء المنصوص عنها في المادة 239 من قانون الموجبات والعقود اللبناني وما يليها.
يميّز في حالة الإلغاء بين العقود المحدّدة المدّة وغير محدّدة المدّة في نطاق الموجبات المتتابعة؛ ففي النوع الأوّل لا يتمّ إلغاء العقد المحدّد المدّة والمتضمّن موجبات متتابعة التنفيذ إلاّ بحلول الأجل، أمّا النوع الثاني، فيمكن ووفقاً للأحكام العامة إنهاء العقد بإرادة أحد المتعاقدين شرط عدم التعسف في استعمال حقّ إلغاء العقد ممّا ينهي العلاقة التعاقدية فوراً.
أمّا في العقود غير المتتابعة التنفيذ (الموجبات الآنية) فإنّ الطرف الذي يرجع عن العقد بعد تكوينه يتحمّل مسؤولية التعويض عن العطل والضرر(مسؤولية تقصيرية أو تعاقدية)، إلاّ أنّه في المقابل لحظ المشرّع اللبناني حالة غير إلزامية في أثناء تكوين العقد، أيّ في مرحلة طور تكوين العقد يمكن للمعروض عليه أن يرجع عن العقد مقابل خسارته العربون الذي دفعه الأخير، كاشتراط دفع العربون في العقد مثلاً.
أمّا الفسخ، ففي العقود المتتابعة تطبّق عليها أحكام الفسخ المنصوص عليها في المادة 245 موجبات وعقود وما يليها. وفي مطلق الأحوال يمكن للفرقاء وضع بند فسخ اتفاقي بينهما(الفسخ الإتفاقي-الرضائي). وفي نفس الخصوص شدّد القانون على أنّ الفسخ الاتفاقي لا يتمّ إلاّ برضى جميع الفرقاء (مثال:عقد الشركة) مع الإحتفاظ بالقواعد المتعلّقة بالعقود المحدّدة المدّة، أمّا إذا كان العقد غير محدّد المدّة، فإنّه يعود لأحد الفرقاء وبإرادته المنفردة فسخ العقد وإزالة العلاقة التعاقدية.
القسم الثاني: تصنيف الموجبات وفقاً لموضوع الحقّ الشخصي.
الجزء الأوّل: مفهوم الموجبات الإيجابية والموجبات السلبية.
نصّت المادة 187 من قانون الموجبات والعقود اللبناني بما معناه “على أن يكون موضوع الموجب: فعلاً(موجب الفعل)، أو امتناعاً(موجب امتناع)،أو انتقالاً لملك أو إنشاء لحقّ عيني(موجب الأداء)”.
إنطلاقاً من تصنيف المشرّع اللبناني لموضوع الموجب من ناحية، ومن أنّ الموجب يرتّب تجاه طرفيه حقّاً شخصياً من ناحية أخرى، فإنّ موضوع الحقّ الشخصي ينقسم أيضاً بموجب أحكام الباب الرابع من الكتاب الأوّل من قانون الموجبات والعقود اللبناني إلى موجبات إيجابية وموجبات سلبية.
لقد ميّز المشرّع اللبناني بين موجب الفعل (مادة 50 من قانون الموجبات والعقود) وموجب الأداء(مادة 46 من القانون نفسه) تحت خانة الموجبات الإيجابية، وبين موجب الإمتناع(مادة 51 من القانون نفسه) تحت خانة الموجبات السلبية. فموجب الفعل هو الذي يكون فيه المديون ملزماً بإتمام فعل وخصوصاً فعل تسليم شيء(مثال:موجب بناء منزل). أمّا موجب أداء فهو الذي يكون موضوعه إمّا دفع مبلغ معيّن من النقود أو تسليم أشياء معيّنة من المثليات للدائن، أو إنشاء حقّ عيني عقاري (مثال: نشوء حقّ شخصي للدائن المشتري بالمطالبة في تسجيل العقار في السجلّ العقاري). أمّا موجب امتناع (موجب سلبي) فهو الذي يكون موضوعه الإمتناع عن فعل ما (مثال: امتناع البائع عن تسليم البضائع المتفق عليها في العقد).
في ما يتعلّق بالموجبات الإيجابية، فقد ميّز الشارع وفقاً لأحكام المادة 45 من قانون الموجبات والعقود اللبناني إلى نوعين؛ حين نصّت على “أنّ الموجب الإيجابي هو الذي يكون موضوعه فيه المديون ملزماً بأداء شيء أو بفعله”. إذاً موجب الفعل هو ذلك الذي يكون موضوعه إتمام فعل ما خصوصاً التسليم، أمّا موجب الأداء فهو يتحقّق عندما يكون موضوعه إمّا دفع مبلغ من النقود، أو أشياء من المثليات، أو إنشاء حقّ عيني عقاري. فإنّ هذا الموجب يفرض قيام المدين بنقل ملكية الشيء من خلال تسليمه ويفرض تبعاً لذلك المحافظة على ملكية هذا الشيء إلى حين تسليمه إذا كان معيّناً بالذات(المادتان 47 و49 موجبات وعقود)، وهنالك نوع آخر من موجب الأداء يقضي بتسليم الشيء دون نقل الملكية الشيء موضوع الموجب (مثال: قيام المستأجر بردّ المأجور إلى المؤجّر في نهاية مدّة الاجارة). أما إذا كان موضوع الموجب يقوم على إنشاء حقّ عيني غير منقول(عقار مثلاً) فإنّ هذا الموجب يرتّب للدائن حقّاً شخصياً في المطالبة بإجراء تسجيل العقار على اسمه في السجّل العقاري وذلك وفقاً للمواد 11 من القرار 188 مندوب فرنسي و 204 من قانون الملكية العقارية، وفي المقابل، فإنّ عقد البيع غير المسجّل في السجل العقاري لا ينشئ أيّ حقّ قانوني للمشتري في اكتساب الملكية، إلاّ أنّه يخوّل المشتري التقدّم بدعوى أمام المحكمة المدنية المختصة لإلزام البائع تحت طائلة سقوط الحقّ بمرور الزمن العشري.
أمّا إذا كان موجب الأداء يتضمّن مالاً معيّناً بالذات مملوكاً من المدين، فإنّ ملكية هذا المنقول تنتقل إلى المشتري بمجرّد إتمام العقد (التراضي)، وعندها تنتقل معها مخاطر هذا الشيء إلى المشتري بمجرّد الاتفاق، ما لم يكن هناك ثمّة نصّ مخالف وفقاً للمادة 396 موجبات وعقود.
أمّا بالنسبة للمال المثلي، فإنّه لا يتحقّق فيها موجب أداء نقل ملكيتها إلاّ إذا تمّ تعيينها بالوزن أو بالقياس أو بالكيل حسب نوع الشيء المبيع (أيّ من تاريخ تعيين الشيء) على أن تكون مخاطر المبيع قبل هذا التاريخ على عاتق البائع؛(مثال: الاتفاق على شراء طن من القمح من أصل كمّية موجودة في المخازن، ففي هذه الحالة فإنّ المشتري لا يصبح مالكاً لها من تاريخ الاتفاق، بل من تاريخ تعيين الشيء المتفق عليه كاختيار المشتري طناً من القمح الأميركي مثلاً).
إنّ موجبات الفعل(القيام بعمل) هي تلك الموجبات التي تتضمّن غالباً عنصراً شخصياً، أيّ لا يمكن تنفيذه إلاّ برضى المدين ولو استحصل الدائن على حكم يلزم المدين بالقيام بما تعهّد به؛(مثال:لا يمكن إلزام المهندس بوضع الخرائط التي تعهّد بها إذا رفض ذلك).
لقد قسّم بعض المؤلّفين المعاصرين موجبات الفعل إلى موجبات نتيجة وموجبات وسيلة (الواسطة). يقصد بموجب النتيجة ذاك الذي يكون هدفه تحقيق شيء معيّن من خلال وصول من تحمّل القيام بهذا الموجب إلى نتيجة معيّنة ؛(مثال:تعهّد الشركة الناقلة في نقل ركّابها من مكانِ إلى آخر).
أما موجب الوسيلة (الواسطة) فهو ذلك الذي يتعهّد بموجبه شخصِ بتقديم مساعدة ما للوصول إلى النتيجة المرجوة دون أن يتعهّد بتحقيقها بل لوجود ظروف أخرى تساعد في تحقيقه (ظروف طبيعية مثلاً)؛ مثال: تعهّد الطبيب الذي لا يأخذ على عاتقه شفاء المريض).
أمّا موجب الامتناع بعدم القيام بعمل، فهو دائماً موجب النتيجة لأنّه يهدف إلى التوصّل إلى حالة معيّنة ألا وهي عدم القيام بإجراء معيّن؛(مثال:تعهّد بعدم البناء الذي ينشأ عنه نتيجة الامتناع عن تشييد بناء في المكان المتفق عليه)، ومن ناحية أخرى قضت محكمة التمييز الفرنسية بعدم تحقّق عدم التجزئة في موجبات الإمتناع ؛ كتعهّد بائعي المؤسّسة التجارية بعدم إنشاء المؤسّسة من النوع ذاته في المدينة ذاتها حيث شكّل موجب الإمتناع عن القيام بفعل لا يقبل التجزئة كلاًّ من البائعين.(cass cv-20 decmbre 1948-jcp 1949-21)
الجزء الثاني: آثار التنفيذ على الموجبات الإيجابية والموجبات السلبية
لقد ميّزت المحاكم الفرنسية منذ زمن لجهة التنفيذ العيني بين موجبات الأداء وموجبات الفعل(الموجبات الإيجابية) وبين موجبات الإمتناع (الموجبات السلبية)، فاعتبرت هذه المحاكم أنّ الموجبين- موجب الأداء وموجب الفعل يدخل ضمن مضمون التنفيذ العيني للموجب(تنفيذه عيناً) كما تمّ الإتفاق عليه في العقد (تسليم كمّية من القمح – تسجيل سيّارة).
أمّا موجبات الفعل الإيجابي وموجب الإمتناع، فيكون مضمونهما التنفيذ البدلي(أيّ التنفيذ بدلاً عبر وضع بند جزائي في العقد مثلاً)،أيّ تعويض عن بدل العطل والضرر بسبب عدم التنفيذ العيني، إلاّ أنّ المذاهب الفكرية الحديثة تخالف هذا الاتجاه القديم.(محكمة التمييز الفرنسية، قرار تاريخ 1964/10/14، داللوز العام 1964 صفحة 710).
أمّا في القانون اللبناني، فقد أكّد الشارع على مبدأ التنفيذ العيني حيث يعود للدائن حقّ مكتسب في استيفاء موضوع الموجب بالذات (المادة 250 موجبات وعقود). وأضاف في المادة عينها لناحية شمول النصّ التنفيذ العيني كلّاً من موجب الفعل وموجب الأداء وموجب الإمتناع.
يندرج التنفيذ العيني لموجب الأداء من خلال نشوء حقّ عيني عقاري، أو أداء منقول أو نشوء حقّ عيني منقول (سيّارة مثلاً)، ففي حقّ التسجيل في السجّل العقاري هو يصنّف في خانة الحقّ الشخصي الناتج عن موجب أداء إنطلاقاً من قاعدة أنّه لا يمكن التذرّع بالحقوق العينية العقارية والعقارات إلاّ منذ لحظة تاريخ تسجيلها في السجّل العقاري على اعتبار أنّ حقّ الملكية هو حقّ إعلاني لأنّه يعلن الحقوق العينية العقارية على الصحيفة العينية العقارية خاصة بها.
أمّا إذا كان موجب الأداء يتناول مالاً منقولاً من المثليات، فإنّ عملية الإنتقال لا تتمّ إلاّ منذ لحظة الفرز أو القياس أو الكيل أو بحسب نوعية المال المثلي المتفق عليه، ومن بعد التعيين تنتقل ملكية المال إلى المشتري ويتحمّل معها مخاطرها. وفي حالة معمول بها في فرنسا يمكن للمحكمة أن ترخّص للمشتري شراء مال مماثل من نفس النوعية والكمّية على حساب البائع، وبذلك يكون قد تمّ الخلط بين التنفيذ العيني والتنفيذ البدلي.
أمّا بالنسبة للتنفيذ العيني لموجبات الفعل والإمتناع، فقد شملت القاعدة المعمول بها في المادة 250 موجبات وعقود أنّ التنفيذ العيني يشمل موجبات الفعل والإمتناع أيضاً. فبالنسبة لموجب الفعل يتحقّق بالعمل الإيجابي موضوع الموجب، فإذا كان موجب الوسيلة يعتبر موجباً منفّذاً إذا بذل الشخص المدين كلّ ما في وسعه لتحقيق الغرض المنشود، أمّا في حال عدم التنفيذ يتمّ اللجوء إلى التنفيذ الجبري بموجب المادة 2/250 موجبات وعقود.
أمّا في التنفيذ العيني لموجبات الإمتناع، فإنّه يمكن أن يقوم الدائن بالموجبات يتحقّق غرض الإمتناع فيها(الإمتناع من خلال تنفيذ الموجبات الحاصلة حتماً (مثال: إجراء إصلاحات في المأجور مثلاً بسبب امتناع المؤجّر عن القيام بالإصلاحات الكبرى فيه)، ولكن مع الإحتفاظ بكلّ ما يتعلّق بالأعمال التي تحتاج إلى ترخيص (إذن من المحكمة) شرط عدم التضارب مع الحرّية الشخصية والفكرية والفنّية لأنّه لا يجوز التنفيذ على الأعمال الفنية والفكرية أو التي لها ذات طابع أدبي (المادة 860 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني)، ولا شيء يمنع في حالتي التنفيذ العيني لكلّ من موجبات الإمتناع عن الفعل أن يمنح المديون مهلة للتنفيذ أو وضع وسائل إكراه (غرامة إكراهية مثلاً).
المراجع:
• قانون الموجبات والعقود اللبناني.
• قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني.
• خليل جريج، النظرية العامة في الموجبات والعقود، منشورات الحقوقية صادر، الجزء الثالث،الطبعة الثالثة،2004.
• جورج سيوفي، النظرية العامة للموجبات والعقود، الجزء الثاني، طبعة 1994.
• مصطفى العوجي، الموجبات المدنية، منشورات الحلبي الحقوقية، طبعة 2010.
“محكمة” – الأحد في 2020/5/31