أبحاث ودراسات

تداعيات الحرب الإسرائيلية على القضاء(تحقيق لنادي قضاة لبنان – إعداد لور أيوب)

تنشر “محكمة” تحقيقاً لنادي قضاة لبنان عمّا شهده القضاء خلال فترة الحرب الإسرائيلية على لبنان بدءًا من شهر أيلول 2024 إلى حين إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024 والذي يواصل العدو الإسرائيلي خرقه يومياً براً وبحراً وجواً. وهذا التحقيق من إعداد لور أيّوب، وهنا نصّه الحرفي:

أتت الحرب الإسرائيلية على لبنان لتضع القضاء اللبناني أمام تحدٍّ غير مسبوق، وخصوصًا في الشهرين الأخيرين ما بين 23 أيلول 2024، تاريخ توسع الحرب، إلى 27 تشرين الثاني 2024 تاريخ دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. عشرات من القضاة والمساعدين القضائيين وعائلاتهم نزحوا من المناطق التي تعرّضت للقصف، وتعطّل بالتالي العمل في محاكم تلك المناطق، وفقدوا الوصول إلى الملفات، وبات العديد من القُضاة عاجزين عن أداء مُعظم مهامهم. وترافق ذلك مع تعرّض عشرات من مكاتب كتّاب العدل والمحامين للقصف وتدمير أرشيفها.

وعلى الرغم من المؤشرات الكثيرة التي كانت تنبّه إلى وجوب اتخاذ تدابير لحماية عمل القضاء خلال الحرب، إلّا أنّ أيًا من ذلك قد تحقق. وافتقرت الإجراءات التي اتخذها رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل إلى رؤية شاملة تُراعي تطورات الأوضاع وتأثيرها على المحاكم. فالحرب لم تندلع بشكل مفاجئ في 23 أيلول 2024 تاريخ بداية التصعيد الذي أدّى إلى إغلاق المحاكم، بل سبقها عامٌ كامل من العدوان كان كافيًا لتحفيز السلطات على إعداد خطة طوارئ واضحة وقابلة للتنفيذ لتأمين استمرارية العمل القضائي فيما لو تفاقمت الحرب.

فكيف أثّرت هذه الحرب على القضاء، وخصوصًا في الشهرين الأخيرين منها؟

في محاولة لفهم تداعيات الأزمة، تواصلنا مع عدد من القضاة في القضاء العدلي والإداري والمالي والعسكري، بمن فيهم قضاة منفردون، قضاة تحقيق ومستشارون في محاكم الاستئناف، ورؤساء محاكم الأحداث والأحوال الشخصية، ورؤساء غرف ومستشارين في مجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة، في محافظات بيروت، لبنان الجنوبي، النبطية وبعلبك الهرمل. وقابلنا أيضًا كاتب عدل تعرّض مكتبه للقصف وسألناه عن تداعيات الحرب على عمل كتّاب العدل وكيفية مُقاربتهم للحلول. وكان الهدف استكشاف كيفية عمل المحاكم خلال الحرب، والصعوبات التي واجهها القضاة والقاضيات للقيام بمهامهم. كما سألناهم عن انطباعهم عن الخطوات التي اتخذها رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل لمواجهة هذه الأزمة المتفاقمة، وكيف ينظرون إلى الحلول المطلوبة لتمكين القضاء من مواجهة الأزمات. ونقل عدد من القضاة صورة عن التحديات التي يواجهونها، سواءً كأفراد مهجّرين يحاولون التكيّف مع ظروف الحياة المستجدة أو كقضاة يتحملون مسؤولية ملفات المتقاضين، بما في ذلك الموقوفين الذين ينتظرون إخلاء سبيلهم.

الحرب تُعطل عشرات المحاكم 

منذ بداية الحرب في 8 تشرين الأول 2023، أي قبل ثلاثة عشر شهرًا، دخل القضاء اللبناني مرحلة جديدة شهد خلالها تعطيلًا محصورًا في المحاكم القريبة من الحدود في محافظتي الجنوب والنبطية، وتعطيلًا محدودًا في المحاكم الأبعد عنها. ولكن في 23 أيلول 2024 بعد تصعيد إسرائيل للأعمال الحربية ضدّ لبنان، توسعت دائرة التعطيل لتشمل كامل محافظة النبطية، ومحاكم صور وجويّا التابعتين لمحافظة لبنان الجنوبي، بالإضافة إلى محاكم بعلبك الهرمل التابعة لمحافظة البقاع، واستمرت محاكم زحلة وصيدا بالعمل بالحدّ الأدنى. كما تأثرت محاكم جبل لبنان وبيروت إثر نزوح لعدد من قُضاتها وموظفيها ممن يقطنون في الضاحية الجنوبية إلى مناطق خارج العاصمة، وارتفاع أعداد الملفات أمام القضاة جرّاء حركة النزوح نحو بيروت.

وفي حين كانت المحاكم العدلية الأكثر تأثرًا، انخفضت وتيرة العمل نسبيًا في مجلس شورى الدولة في ظل الانخفاض القسري لفترات الحضور إلى المجلس وبالتالي اقتصر العمل على الملفات الضرورية والمستعجلة. وطال التأثير عمل ديوان المُحاسبة بشكل محدود، فيما استمرت المحكمة العسكريّة في العمل بشكلها المعتاد من دون أن يطالها أي شكل من التعطيل.

وترافقت هذه المشاكل مع تضرر عشرات من مكاتب كتّاب العدل وتضرر الأرشيف أو تلفه بالكامل. وهذا ما أدّى إلى فقدان المستندات والوثائق المتصلة بالدعاوى المنظورة أمام المحاكم. إذ توقف عدد كبير من كتّاب العدل عن العمل بسبب القصف أو النزوح، ما أثار المخاوف من فقدان أرشيفات مهمة أو صعوبة التحقق من صحة الوكالات الصادرة عن الدوائر المُغلقة. ويُشير أحد كتّاب العدل، الذي تعرّض مكتبه للاستهداف وتدمير أرشيفه بالكامل، إلى أنّ “كتّاب العدل يتجنبون التحفيظ الإلكتروني خشية الاستهداف الرقمي لملفات حساسّة، ما يزيد من تعقيد الإجراءات”. ويلفت إلى أنّه في الفترة السابقة، قبل التصعيد الاسرائيلي، “واجهنا صعوبة في المراجعة للتأكد من صحّة المستندات من الدوائر الصادرة عنها، وذلك بسبب نزوح كتّاب العدل من المناطق التي كانت تتعرّض للقصف، وذلك من دون أن يتمكنوا من نقل الأرشيف الخاص بهم”.

من تعطيل جزئي إلى تعطيل شامل 

عانت محاكم محافظتي النبطية ولبنان الجنوبي والبقاع وبعلبك الهرمل طويلًا من مشكلات متعلقة بتعذر التبليغ نتيجة توقف القوى الأمنية عن تنفيذ هذه المهام، إضافة إلى توقفها عن سوق الموقوفين، ما حال دون انعقاد الجلسات. كما فاقم النقص بأعداد القُضاة الناجم عن تشكيلات قضائية لا تُراعي الحاجات الفعلية للمحاكم وتوقف عدد من القضاة عن العمل بعد الأزمة الاقتصادية وتقاعد آخرين، من صعوبة الأزمة. وأتت الحرب لتزيد من مصاعب العمل القضائي في هذه المُحافظات، إذ واجه هذا العمل متغيرات ملحوظة أبرزها في مرحلتين، الأولى ما بين 8 تشرين الأول 2023 إلى 23 أيلول 2024، والمرحلة الثانية هي ما بعد 23 أيلول 2024 أي آخر شهرين من الحرب.

المرحلة الأولى، بدأت مع الأعمال العسكريّة عند القرى الواقعة على الحدود مع فلسطين المحتلة جنوب لبنان في 8 تشرين الأول 2023 وخلال أشهر توسعت الحرب تدريجيًا ليصل القصف الإسرائيلي إلى مناطق متفرقة في الجنوب. وطال القصف الاسرائيلي محافظتي البقاع وبعلبك الهرمل في مناطق متفرقة. وخلال هذه المرحلة قلّص القُضاة حضورهم إلى المحاكم في محافظتي النبطية ولبنان الجنوبي، وأُرجئت مُعظم الجلسات بسبب تغيّب المتقاضين.

والمرحلة الثانية بدأت مع تصعيد الأعمال العسكرية في 23 أيلول 2024 لتشمل مناطق واسعة ما أدى إلى تعطيل كامل لمحاكم محافظتي النبطية، وبعلبك الهرمل، وتعطيل جزئي في محافظتي البقاع ولبنان الجنوبي، وبيروت وجبل لبنان. فواجه القضاء تحديّات غير مسبوقة إذ اقتصر العمل على معالجة الملفات المتوفرة بحوزة القُضاة، في حين ظلّت الملفات الأخرى داخل المحاكم وعجز القُضاة عن البتّ بها. وعليه اقتصرت الجلسات المنعقدة في دوائر التحقيق على قضايا الموقوفين التي أُجريت عبر الإنترنت، بمبادرة من القُضاة أنفسهم لعدم تأخير البت بطلبات إخلاء السبيل. وكذلك تعطلت العديد من الإجراءات القضائية بالنسبة لمحاكم الأساس في هذه المحافظات، كعقد الجلسات ومذاكرة الأحكام. وبات من الصعب البت بطلبات إخلاء السبيل في القضايا الجزائية الخطيرة كقضايا القتل وتجارة المخدرات الموجودة أمام محاكم الجنايات ومحكمة التمييز كونها تتطلب دراسة معمقة ومذاكرة بين القضاة الذين يشكّلون هيئة المحكمة في هذه المحاكم.

القاضي حسن حمدان

● محافظة لبنان الجنوبي – صيدا

يتحدّث القاضي حسن حمدان، قاضي تحقيق في صيدا – لبنان الجنوبي، عن تداعيات الحرب، مشيرًا إلى أنّ “أبرز التحديات تمثلت في تعذّر التنقل من وإلى المحاكم، خاصّة في محافظتي لبنان الجنوبي والنبطية”. ويُشير إلى بعض المشاكل التي نشأت خلال الحرب، من بينها: “صعوبة التبليغ بسبب تغيّر أماكن إقامة المتقاضين إلى وجهات مجهولة للمحاكم. كذلك، توقف “سوق الموقوفين إلى المحاكم نتيجة مخاطر التنقل ونقل السجناء إلى مناطق آمنة”.

● البقاع وبعلبك الهرمل

ويُشير قاضٍ في البقاع إلى أنّ هناك عدداً هائلاً من الملفات في هذه المحافظة ملقى على عاتق عدد قليل من القضاة. ووصف القاضي وضع العمل خلال الحرب بأنه “عمل بالتي هي أحسن”، مؤكدًا أنّ “القُضاة تمكنوا من إنجاز نسبة مقبولة من العمل، بدأت من 20٪ ووصلنا إلى 50٪”.

القاضي فاطمة ماجد

● بيروت

شكّل الشهران الأخيران من الحرب واقعًا صعبًا على القضاء في مُعظم المُحافظات بما فيها محاكم بيروت. إذ تأثرت هذه المحاكم نظرًا لقربها من منطقة الطيّونة التي تعرّضت للقصف بشكل متواصل خلال آخر شهرين من الحرب. كما أدّى نزوح عدد من قُضاتها وموظفيها ممن يقطنون في الضاحية الجنوبية إلى مناطق خارج العاصمة إلى تعطيل جزئي للعمل القضائي، بعد عجزهم عن الحضور إلى المحاكم بشكل يومي. وكذلك واجه القضاء في بيروت تحديّات على صعيد الملفات التي ينظر فيها القُضاة، وفقًا لما تنقله القاضية فاطمة ماجد التي تتولى محكمة الأحوال الشخصية ومحكمة الأحداث في بيروت.

وتُجسد تجربة القاضية ماجد نموذجًا عن تأثير الحرب على عمل القُضاة العدليين في بيروت. إذ تشرح القاضية ماجد أنّ مشكلتين رئيسيتين تفاقمتا نتيجة النزوح من المناطق التي تتعرّض للقصف في محافظات البقاع، بعلبك الهرمل، النبطية ولبنان الجنوبي: الأولى تتعلق بدعاوى تصحيح سجلات القيود أمام محكمة الأحوال الشخصية، والثانية تتصل بقضايا الأحداث أمام محكمة الأحداث في بيروت.

في ما يخص قضايا الأحوال الشخصية، تؤكد القاضية ماجد أنّها لاحظت “زيادة كبيرة في دعاوى تصحيح القيود المقدمة من نازحين من مختلف المناطق، مثل الجنوب والبقاع”. وتوضح أنّ “السجلات المتعلقة بهؤلاء الأشخاص غير متوفرة إلكترونيًا، ما يجعل من الصعب على القضاة الموجودين خارج المحافظات المعنية البتّ في هذه القضايا”. وتلفت القاضية ماجد إلى أنّ “هذا التأخير منع المواطنين من تصحيح سجلاتهم، وبالتالي منعهم من إصدار جوازات سفر ما شكّل عائقًا كبيرًا أمام الذين يسعون إلى مغادرة البلاد”.

أمّا بالنسبة لمحكمة الأحداث، تُشير القاضية ماجد إلى أنّ “النزوح الكثيف إلى بيروت أدّى إلى زيادة كبيرة في أعداد ملفات حماية الأطفال المعرّضين للخطر، ما زاد من الضغط على المحكمة”. في المقابل، أصبح من الصعب متابعة ملفات الأطفال الذين كانت المحكمة تُشرف على قضاياهم في بيروت قبل أن ينزحوا إلى مناطق أخرى. إضافة إلى ذلك، واجه قضاء الأحداث أزمة متفاقمة تتمثل في نقص عدد الجمعيّات القادرة على تلبية الطلبات المتزايدة لحماية الأطفال. وتُشير القاضية ماجد إلى أنّ “نزوح الموظفين العدليين من المناطق المتضررة نتيجة القصف يُعيق العمل الإداري ويُبطئ إنجاز القضايا، إضافة إلى صعوبة الحصول على معلومات كافية حول الملفات من المحاكم الواقعة في مناطق القصف والتي ينبغي الاستمرار بمتابعتها، مثال ملفات حماية الأحداث”. ورغم محاولتها تأمين الحلول بما هو متاح، عبر تسريع القضايا ذات الأولوية والتعاون مع الجهات المعنية، تؤكد القاضية ماجد بأنّ “الظروف جعلت هذه المهام بغايّة الصعوبة”.

● مجلس شورى الدولة – بيروت

أثّرت الحرب أيضًا على مجلس شورى الدولة الذي يقع في قصر العدل في بيروت، لناحية وتيرة العمل وحضور قُضاته وموظفيه، بحسب ما ينقله قُضاة.  فخلال أول أسبوعين من بدء تصعيد الحرب انخفض بشكل كبير عدد القضاة والموظفين الذين حضروا إلى المجلس، ما أدى إلى تأجيل البت بالملفات. ووفقًا للمعلومات التي ينقلها قُضاة، فإنّ العمل بدأ يعود بشكل تدريجي، أسبوعاً تلو الآخر. واعتمد حضور القضاة إلى المجلس على مكان إقامة كل قاضٍ، إذ اضطر القضاة الذين يأتون من مناطق الجنوب وجبل لبنان الجنوبي والبقاع إلى تقليص تنقلهم إلى الحد الأدنى بسبب استهداف المسالك التي تؤدي إلى المجلس في بيروت، ومثلهم القضاة الّذين كانوا يسكنون في الضاحية الجنوبية لبيروت أو على مشارفها، وقد نزحوا منها خلال الحرب.

أمّا القضاة الذين يأتون من بيروت وجبل لبنان الشمالي والشمال فقد كانوا يحضرون ليومٍ أو يومين أسبوعيًا لعقد جلسات المذاكرة، علمًا أنّ طبيعة العمل في مجلس شورى الدولة توجب على القضاة التواجد حضوريًا للمذاكرة وإصدار الأحكام، فلا يمكنهم بالتالي اتخاذ هذه الإجراءات عن بُعد. وطيلة الشهرين الأخيرين من الحرب أعطى قُضاة مجلس شورى الدولة الأولوية للبت في الملفات الملحّة والمستعجلة. وكان القضاة يغادرون باكرًا في الأيام التي كان يستجدّ فيها تصعيد عسكري خلال النهار، خاصّة أنّ الاستهدافات طالت المناطق القريبة من قصر العدل في بيروت، مثل الشياح والطيونة. أما في ما يتعلق بالأرشيف، يُشير قضاة إلى أنّ القرارات التي يصدرها المجلس يتم حفظها إلكترونيًا، إلا أنّ ذلك لا ينفي ضرورة حماية الملفات الورقية التي تُشكل جزءًا أساسيًا من تاريخ المجلس وأرشيفه القانوني.

القاضي بسام وهبه

● ديوان المُحاسبة – بيروت

على الرغم من الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب على لبنان، فقد بقي تأثيرها على ديوان المحاسبة محدودًا نسبيًّا، إذ تمكن معظم القضاة من استكمال ملفاتهم وإنجاز المعاملات نظرًا لوجود مقرِّ الديوان في قلب بيروت، علمًا أنّ العاصمة تعرَّضت للقصف عدّة مرّات. ففي بعض الأحيان، كان القصف في أماكن بعيدة نسبيًّا عن مبنى ديوان المحاسبة، ما عدا اليوم الأخير قبل توقف إطلاق النار، حيث توسَّعت رقعة الاستهدافات لتصل إلى شارع مصرف لبنان الذي يبعد عشرات الأمتار عن الديوان. ومع ذلك، واجه عدَّة قضاة وعدد غير قليل من الموظفين في الشهرين الأخيرين من الحرب صعوبة في الانتقال إلى مركز عملهم في بيروت، حيث نزح عدد منهم إلى مناطق بعيدة في جبل لبنان والشمال وعكار وزحلة، خارج العاصمة.

ووفقًا لرئيس الغرفة الخامسة في ديوان المحاسبة، القاضي بسَّام وهبه، الذي يشغل أيضًا منصب نائب رئيسة نادي قضاة لبنان، فقد “تمكن الديوان من متابعة العمل، إذ أصدر رئيس الديوان، القاضي محمد بدران، مذكرة تسمح للقضاة الاستعانة بمراقبين ومدققي حسابات من أقسام وغرف أخرى لتعويض غياب زملائهم الموظفين، كما أنه يُمكن تكليف قضاة من المستشارين للحلول محل القضاة الغائبين، عند الاقتضاء”.

واختلف روتين العمل بين غرف محاكم ديوان المحاسبة خلال فترة الحرب؛ “فبعض الغرف شهدت انخفاضًا في حجم العمل بسبب انخفاض الإنفاق في بعض الوزارات نتيجة تأجيل تنفيذ مشاريعها، بفعل الحرب، في حين ارتفع عدد المعاملات لدى غُرف أخرى، لا سيَّما تلك المرتبطة بوزارات مثل: وزارة الصحة العامة، الدفاع الوطني، والداخلية والبلديات، والأشغال العامة، التي تطلبت استمرارية الإنفاق في هذه الظروف الاستثنائية”، بحسب القاضي وهبه. وأكد أنّ “ديوان المحاسبة لا يمكنه التوقف عن العمل، والقضاة ملزمون بالاستمرار في أداء واجبهم مهما كانت الظروف”. ويلفت إلى أنّ “الديوان يعمل بشكل مُمكنن تقريبًا، مما سيُسهم في استمرارية العمل تحت أي ظرف”.

ملفات الموقوفين: مشاكل السوق تُحيي تجربة كورونا

برزت قضايا الموقوفين، الّذين ينتظرون جلسات استجوابهم لتقديم طلبات إخلاء السبيل، كواحدة من أبرز التحديّات التي واجهتها المحاكم الجزائية خلال الحرب. إذ ازدادت الحاجة للنظر في ملفات الموقوفين في ضوء الاكتظاظ الذي شهدته السجون التي نُقل إليها السجناء من السجون المتواجدة في المناطق التي تعرّضت للقصف. وعليه، لجأ العديد من القُضاة إلى الجلسات الالكترونية خلال الحرب، وهي وسيلة بدأ اعتمادها عام 2020 بسبب جائحة كورونا واستمرّ عدد من القُضاة بالاستعانة بها، لا سيما في مُحافظات البقاع، بعلبك الهرمل، النبطية ولبنان الجنوبي خاصّة في ضوء معاناتهم المستمرة من عدم تأمين سوق الموقوفين إلى المحاكم الموجودة في هذه المحافظات.

وتُعاني مُعظم المحاكم من مشاكل سوق الموقوفين، لكنّ محافظتي بعلبك الهرمل والبقاع تشهد الأعداد الأعلى من ملفات الموقوفين، فيما محاكم الجنوب تشهد أعدادًا قليلة. فلم تكن مشاكل السوق جديدة على محاكم بعلبك الهرمل، إذ أوضح قاضٍ أنّ هناك صعوبات عديدة في نقل الموقوفين إلى بعلبك، ترتبط بالخصوصية الأمنية التي تتمتع بها المنطقة، وبُعدها عن معظم السجون، بالإضافة إلى تعطل آليات القوى الأمنية نتيجة الأزمة الاقتصادية. كما أنّ الظروف المناخية، مثل العواصف والثلوج، تزيد من صعوبة التنقل.

القاضي نجاة أبو شقرا

وعلى خلاف المعاناة في ملفات الموقوفين في القضاء العدلي، يتبيّن أنّ المحكمة العسكريّة نادرًا ما تُعاني من هذه المشاكل، إذ توضح رئيسة نادي قضاة لبنان وقاضي التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا أنّ القضاء العسكري بخلاف القضاء العدلي، لم يعانِ من مشاكل تتعلق بسوق الموقوفين، حتّى في الحرب. وأوضحت أنّ “جميع الأجهزة الأمنية التزمت بواجبها في نقل الموقوفين، باستثناء فترة وجيزة توقفت فيها عمليات السوق من سجون البقاع والجنوب بسبب الظروف الأمنية المتوترة. بعدها، تم نقل جميع السجناء إلى سجون تقع في مناطق أكثر أمانًا”. وأضافت أنّ “دائرة التحقيق العسكري اعتمدت على الجلسات الإلكترونية لاستجواب الموقوفين الذين كان يتعذر سوقهم بسبب الظروف الأمنية ما ساعد على استمرارية العمل القضائي في ظل الظروف الصعبة”.

وكان النائب العام التمييزي بالتكليف القاضي جمال الحجّار قد أصدر تعميمًا في 29 تشرين الأول 2024 “تفعيلًا لنص المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وتسريعًا لإجراءاتها” التي تُحدد أمد التوقيف الاحتياطي في الجنح بشهرين، وستّة أشهر في الجناية تُجددان لمرّة واحدة. وأعلن القاضي الحجّار عن “التعاون مع الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، لتسهيل إجراءات تقديم المدعى عليه الموقوف طلب تخلية سبيله”. وعليه تولت هذه الهيئة نقل طلبات إخلاء السبيل من الموقوف إلى المحاكم أو الموظفين العدليين الذين ينقلونها بدورهم للقُضاة. في هذا الصدد، أكدّ أحد القُضاة أنّ هذه الآلية “ساهمت في تسهيل عملية تقديم طلبات إخلاء السبيل”. واعتبر أنّها “اختصرت الإجراءات، حيث أصبح بإمكان الموقوفين تقديم الطلبات مباشرة من السجن”.

في المُقابل، تتساءل القاضية أبو شقرا عن مدى جدوى صدور تعميم يُذكّر القُضاة بتطبيق المادّة 108 المذكورة، بينما المطلوب أن يتم تطبيقها في شتّى الظروف، وفقًا لتعبيرها. وتجد القاضية أبو شقرا أنّ هذا التعميم “يُلقي باللوم على القُضاة بعدم الالتزام بأمد التوقيف، بينما الواقع أنّ القُضاة العدليين يُعانون من تعذر السوق والتبليغ الذي يؤدي إلى إطالة أمد الجلسات وبالتالي تخطي أمد التوقيف الاحتياطي المسموح به”.

الجلسات الإلكترونية، هل هي فعّالة؟

واعتمد قُضاة التحقيق والقضاة المنفردون بشكل خاص في مرحلة الحرب في ملفات الموقوفين على عقد الجلسات عن بُعد. وينقل القاضي حسن حمدان، قاضي تحقيق في صيدا، تجربته في إنجاز ملفات الموقوفين خلال الحرب مشيرًا إلى أنّه عالج “طلبات إخلاء السبيل ضمن إطار صلاحياته مع مراعاة البعد الإنساني لحماية حريّة الموقوفين”. وشرح أنّه “تتم الاستجوابات إلكترونيًا في القضايا التي لا تمسّ بالأمن العام، بعد مراجعة دقيقة للملف وتحديد الكفالات التي تضمن الحق العام. ثُمّ تُحال الملفات، عبر الموظفين المتوفرين، إلى النيابة العامة التي تتمتع بصلاحية الطعن والإشراف على التنفيذ”. وأكدّ القاضي حمدان أنّ “فعالية الجلسات الإلكترونية تظل نسبية وتعتمد على طبيعة الملف، مؤكدًا أنّ الجلسات المباشرة تبقى الأفضل بفارق كبير من حيث القدرة على توفير الأدلة سواء بالإدانة أو البراءة”.

وتوضح القاضية أبو شقرا أن اللجوء إلى الجلسات الإلكترونية يُعَدّ حلًّا استثنائيًا بسبب عدم وجود قانون ينظم هذا الإجراء. وأكدت أن هذا الخيار يُستخدم بدافع تحسّس الأولوية في البت بملفات الموقوفين، مشيرة إلى أنّ دائرة التحقيق العسكري اعتمدت هذا الأسلوب أيضًا خلال مرحلة الإغلاق العام نتيجة تفشي فيروس كورونا. وتشرح أنّ “الإمكانيات التقنية لإجراء هذه الجلسات تبقى محدودة، حيث يستخدم القضاة والعناصر الأمنية والعسكرية في أماكن الاحتجاز هواتفهم الشخصية لإجراء الاتصالات”. كما تُفاقم المشاكل التقنية مثل الانقطاع المتكرر للإنترنت وضعف جودة الصورة من صعوبة إجراء الجلسات. وأشارت إلى أنّ “الجلسات الإلكترونية لا تكفل كل ضمانات الاستجواب للموقوفين، إذ يتم الاستجواب داخل مراكز الاحتجاز، بحضور عناصر أمنية، ما قد يؤثر على حريّة الموقوف في إعطاء إفادته”. وتُضيف القاضية أبو شقرا أنّ “هذه الطريقة تفتقر إلى الأمان التام، مع مخاوف من احتمالية اختراق الأجهزة المستخدمة، مشددة على الحاجة إلى نظام تقني خاص ومؤمّن لدعم هذا النوع من الإجراءات القضائية”.

ما الذي عرقل استمرارية عمل القضاء خلال الحرب؟

انصرم نحو 11 شهرًا ما بين اندلاع الحرب في 8 تشرين الأول 2023 والتصعيد العسكري الموسّع الذي أدّى إلى تعطيل عشرات المحاكم لشهرين. فترة كانت كفيلة لتفادي دخول القضاء بحالة التعطيل التي دخل فيها في الشهرين الأخيرين. في الواقع، تُظهر الإجراءات المتخذة من قبل رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل والنيابة العامّة التمييزية غياب أي تفكير ذات بُعد استراتيجي لضمان استمرارية عمل القضاء في الأزمة. ومن بين هذه الإجراءات استحداث مكتب في قصر العدل في زحلة لتسيير المراجعات والأمور القلمية العائدة لمحافظة بعلبك الهرمل، ومكتب في بيروت لصالح محاكم النبطية. وعلّق بعض القُضاة أنّ هذا الحل لم يُشكّل حلاً فعالًا بسبب خطورة التنقل إلى زحلة وبيروت وتعذر وصول القضاة بشكل منتظم، بحسب أحد القُضاة. عدا عن أنّ هذه الإجراءات لم تشمل حماية الملفات والأرشيف.

وازدادت أزمة القضاء تعقيدًا مع انتهاء ولاية جميع أعضاء مجلس القضاء الأعلى في 14 تشرين الأول 2024، وبقي رئيس المجلس، القاضي سهيل عبود، وحيدًا في منصبه. ظهرت تداعيات ذلك بعد أن أجّل مجلس الوزراء النظر في مقترح مرسوم نقل محاكم الاستئناف التابعة لمحافظتي النبطية والبقاع إلى بيروت وزحلة، وهو المقترح الذي أحاله وزير العدل القاضي هنري خوري في 31 تشرين الأول. وتَركّز الطلب على محاكم الاستئناف فقط لأنّها تحتاج إلى مرسوم لنقلها، بينما يُمكن نقل المحاكم الأخرى بقرار من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في كل محافظة. استند المقترح إلى موافقة منفردة من رئيس مجلس القضاء الأعلى، علمًا أنّها تتطلب توقيع غالبية أعضاء المجلس، ما أثار تساؤلات لدى عدد من القضاة حول سبب تقديم هذا المقترح رغم احتمالية رفضه. وقد قُدِّم المقترح بعد ستّة أيّام فقط من انتهاء ولاية المجلس، وبعد مرور خمسة أسابيع على التصعيد العسكري، ما أثار التساؤلات أيضًا حول سبب إضاعة وقت طويل قبل اتخاذ أي خطوات استباقية. وانتفت أسباب صدور هذا المرسوم مع انتهاء الحرب، إنما يبقى أنّه يضع من هُم في موقع القرار أمام المساءلة عن أدائهم خلال الأزمة وانتقادهم على عدم أخذ العِبَر من الأزمات المستمرة التي يعيشها لُبنان منذ عقود.

وفي هذا الصدد، تُشير القاضية أبو شقرا إلى أنّ “الأزمات المتكررة، مثل جائحة كورونا، أظهرت الحاجة الماسّة لتطوير العمل القضائي في لبنان”. وترى أنّ “هذه المرحلة كانت فرصة لمراجعة الأداء القضائي وتشريع قوانين تسهّل استمرارية عمل المحاكم في أوقات الطوارئ، لكنها لم تُقتنص ممن يفترض أنهم يتولون قيادة السلطة القضائية”. وأوضحت أنّ “تشريعات مثل قوننة الجلسات الإلكترونية وضمان حماية أرشيف المحاكم أصبحت ضرورة لا يُمكن تجاهلها لضمان مرونة القضاء في مواجهة التحديات”. وتتساءل القاضية أبو شقرا عن سبب غياب التخطيط المسبق، مشيرة إلى أنّ “لبنان، الذي شهد العديد من الحروب والأزمات، لم يقم بوضع استراتيجيات تضمن استمرار عمل القضاء في الأوقات الحرجة”. وتعتبر أنّ التعاميم الصادرة عن رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل خلال الحرب، بأنها “إجراءات ترقيعية لا تُعالج جذور المشكلة”. وأضافت “من غير المقبول أن نبقى نعتمد على حلول مؤقتة من دون العمل على خطط شاملة ومستدامة تحمي المؤسسة القضائية من تداعيات الأزمات”.

المطلوب: تشكيلات قضائية وتأمين ظروف العودة إلى العمل

يُطالب القُضاة بتعيينات عاجلة لسدّ الشغور في مجلس القضاء الأعلى  تقوم بها السلطة التنفيذية وفق ما هو منصوص عليه في قانون القضاء العدلي الساري المفعول، معبّرين عن قلقهم من ترك رئيس المجلس منفردًا باتخاذ القرارات، كما هو الحال راهنًا في مجلس شورى الدولة الذي يُواجه وضعًا مشابهًا حيث يختصر رئيس المجلس بشخصه هيئة مكتب المجلس متذرعًا بالظروف الاستثنائية. ويأملون بمجلس ينظر إلى حاجات القضاء ويعمل على تحقيقها ويتخذ القرارات الجدّية والفعّالة. وقبل كلِّ ذلك، فإنّ هذا الأمر يتطلب انتخاب رئيس للجمهورية للتمكن من إصدار تشكيلات قضائية جديدة لسد الشغور في المحاكم.

كما يجد عدد من القضاة أنّه من الضروري وضع خطّة لمعالجة المشكلات الناتجة عن الحرب، خصوصًا تلك المتعلقة بالمدّعين أو المدّعى عليهم الذين فقدوا حياتهم، وأولئك الّذين فقدوا منازلهم التي تحتوي على مستندات ضرورية. وعلى أن تشمل الخطّة “حماية الأرشيف والملفات”، ووضع نظام مكننة للقضاء محمي من الخروقات، وتعزيز قدرة القضاء على التعامل مع الأزمات بشكل أكثر مرونة وفعالية في المستقبل.

العودة إلى العمل

ولفت بعض القُضاة الى أنّ مرحلة ما بعد الحرب ستفتح الباب أمام تحديات جديدة. وسيضطر القُضاة للتعامل مع آثار الحرب على العمل القضائي، مثال وفاة أصحاب العلاقة في الدعاوى الجارية خلال الحرب، وضياع أدلة ومستندات أساسية يملكونها نتيجة تهدّم منازلهم، بالإضافة إلى المشاكل التي ستنشأ عن دمار بعض مكاتب المحامين وكتّاب العدل وتلف أرشيفها.

وقد بدأ القضاة والموظفون بالعودة إلى المحاكم في المناطق التي طالها التعطيل. ومن بينها محافظة بعلبك  الهرمل التي ينقل أحد قُضاتها أنّهم عادوا إلى العمل على الرغم من عدم إجراء الترتيبات اللازمة لهذه العودة. إذ يُشير إلى أنّ “المشاكل القائمة ازدادت نتيجة الحرب، حيث يُضاف إليها تعرّض منازل بعض الموظفين للقصف ما قد يؤخر عودتهم إلى العمل بسبب بقائهم في أماكن نزوحهم”. ويلفت إلى “حاجة قصر العدل لحملة نظافة بسبب انتشار الغبار فيه نتيجة تعرّض الأحياء المُحيطة به للقصف، علمًا أنّه لا يوجد عمّال نظافة منذ أربع سنوات، نتيجة الأزمة الاقتصادية”. كما يؤدي النقص بمادّة المازوت والكهرباء إلى صعوبة تأمين التدفئة ما يجعل العمل في الشتاء مهمة شاقّة. ويرى القاضي أنّ العودة إلى العمل بالشكل الاعتيادي “مرتبطة أيضًا بالوضع الأمني وتماسك قرار وقف إطلاق النار”.

“محكمة” – الأحد في 2024/12/29

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!