تدهور دراسة الحقوق يفرض تعديل نظام التدريس/علي الموسوي
علي الموسوي:
لا تبشّر دراسة الحقوق في معظم الجامعات العاملة على الأراضي اللبنانية بما فيها الجامعة الأمّ بالخير، ذلك أنّ المستوى التعليمي في تراجع، وإقبال النسبة الكبرى من الطلاّب على تحصيل المعرفة القانونية غير ذي فاعلية، وسرعان ما تظهر النتيجة العملانية خلال العمل ولاسيّما بعد الانتساب إلى نقابة المحامين وارتداء “الروب الأسود” والتنقّل بين أقلام النيابات العامة ودوائر التحقيق والمحاكم.
ولا يقتصر الحديث هنا فقط على إتقان اللغة العربية الأمّ أو الإلمام بها على أقلّ تقدير، بل يشمل طريقة التدريس وإنهاء المنهاج العلمي الموضوع.
فثمّة طلاّب لا يعرفون التمييز بين المبتدأ والخبر، وينصبون الفاعل، ويرفعون المفعول به، ويخطئون في غير ذلك من الأمور اللغوية البسيطة المعيبة، ممّا يخدش الأذن عند سماعها للكلمات، مع أنّ اللغة العربية سمعية في الدرجة الأولى، وبالتالي فإنّ أيّ خطأ فيها لن يعبر بسلام، الأذن الضليعة باللغة العربية، أو تلك التي تدرك أهميّة التمييز في الصياغة والتعبير بين الفعل والفاعل، وبين الجملة الإسمية والجملة الفعلية، وحركات التنوين وغيرها من الأمور التي يفترض ألاّ يتوقّف المرء عندها لارتباطها بلغته ووجوده ومعاملاته وحياته حتّى ولو لم تكن منسّقة على شكل اللغة الفصحى وارتمائها أكثر في حضن اللغة المحكية شأن الكثير من الشعوب والدول.
أمّا على صعيد النظام الأكاديمي المتبع”L.M.D” أو النظام الفصلي في التدريس، بسنواته الثلاث للإجازة الجامعية، فإنّه يحمل في طيّاته الكثير من الثغرات والشوائب والمعوّقات حتّى أنّه بات مضرّاً بصحّة التعليم السليم، ممّا يقتضي معه العودة إلى النظام القديم القائم على أربع سنوات من الدراسة الجامعية لنيل هذه الإجازة، وبالتالي تعديل المرسوم رقم 2225 الصادر في 11 حزيران 2009، والمتعلّق بالقواعد العامة لنظام التدريس الفصلي في الجامعة اللبنانية.
فهذا النظام لم يحقّق الغاية المرجوة منه، ولذلك عمدت فرنسا إلى إلغائه كلّيّاً، في وقت تثابر الجامعات في لبنان على احتضانه، مع أنّ معظم أساتذتها والمسؤولين فيها يدركون جيّداً أخطاءه ويصرّحون بذلك علناً أمام الطلاّب خلال الحصص التدريسية، من دون وجود رغبة جامحة في إحداث تغيير ما، يعيد الأمور إلى نصابها من أجل مستوى تعليمي راق ومشرق ويُعتدّ به.
فمن سيّئات نظام “L.M.D” وبإجماع الأساتذة الجامعيين بمختلف اختصاصاتهم العلمية، ضيق الفترة الزمنية المحدّدة لشرح واستيعاب مادة قانونية أساسية مثل الموجبات والعقود والمسؤولية المدنية، وأصول المحاكمات المدنية والجزائية، ونظام الشركات. فبعدما كانت المادة الواحدة تدرّس طوال سنة دراسية تمتدّ ثمانية شهور على الأقلّ، جرى اختصار الزمن إلى شهرين ونيّف تقريباً وتشمل الأعمال التطبيقية المساعدة على فهم المادة وتقريبها أكثر من أذهان الطلاّب، وهذا الأمر في غاية الأهميّة، ذلك أنّه أثّر سلباً في مستوى الطلاّب الذين صاروا مضطّرين إلى إنهاء مادة رئيسية في حياتهم العملانية في المستقبل، في فترة زمنية زهيدة لا تشبع النهم وحبّ الاستمتاع بالمادة، وبالتالي فإنّها لم تعد تحفّز على التخصّصية.
وغالباً ما تظهر النتيجة الحتمية في الامتحانات التي تجريها نقابة المحامين في بيروت، أو مجلس القضاء الأعلى، وأكثر من ذلك في الممارسة الفعلية للمحاماة حيث أثبتت التجربة أنّ المساعدين القضائيين وجلّهم غير متخصّص في الحقوق ولا يحمل إجازة فيها، يتفوّقون بسبب الخبرة والمراس والالتصاق اليومي بالملفّات والمراجعات، على الوافدين الجدد الذين لا يعرفون حقيقة التمييز بين نصّ قانوني هنا، ونصّ قانوني هناك، ولا التفريق بين نيابة عامة مالية ونيابة عامة إستئنافية، ويغرقون بشبر ماء على ما يقول المثل الشعبي.
فهل يعقل أن يعتبر طلاّب في كلّيّات الحقوق أنّ حصول رشوة مالية في الانتخابات البلدية هو من صلاحية النيابة العامة المالية للنظر فيها، وذلك لمجرّد ورود كلمة مال في الحادثة، فيما هي من إختصاص النيابة العامة الاستئنافية، ولا يحتاج المشهد إلى كثير عناء لتحديد النيابة العامة الصالحة للبتّ في هذا الجرم؟.
وهل يعقل ألاّ يعرف خرّيّج الحقوق الفارق بين عمل النيابة العامة وقاضي التحقيق، وعبارات الشكوى والدعوى والمراجعة وهذه من الأمور البديهية التي لا تستدعي تعمّقاً؟، فكيف إذا صادفته مسألة قانونية في غاية الدقّة والتعقيد؟ فهل يرفع يده وينسحب لعدم علمه وفهمه بها، أو أنّه يكمل طريقه فيها من دون اكتراث بنتيجة عمله، وغير عابئ بخسارة موكّله وربّما المشاركة في تضييع حقوقه ما دام أنّ أتعابه المالية مضمونة في نهاية المطاف، وقد باتت هذه الأتعاب هي المنظار الإنساني لأيّ عمل قانوني بغضّ النظر عن الرصيد المعنوي الذي يبقى الأهمّ والأرقى والأجمل لما له من مدلولات على الصعيد المهني والنفسي والمادي أيضاً!.
لا يمكن للمسؤولين عن هذا المأزق التعليمي أن يقفوا متفرّجين إزاء ما يحصل على مرأى منهم ويلمسونه يومياً بحكم الاحتكاك بالطلاّب في قاعات التدريس وفي الامتحانات، بل يتوجّب عليهم التحرّك وسريعاً جدّاً للتخفيف من أضرار نظام”L.M.D” وتصويبها بما ينعكس إيجاباً على المستوى التعليمي والأكاديمي لحملة الإجازات والماجستير والدكتوراه، وإلاّ فإنّ المستقبل لا يبشّر بالخير على الإطلاق.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 9 – تموز 2016).