تسريب التحقيقات وتركيب الملفاّت وتلفيق الاتهامات.. فيلم لبناني قديم/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
لم تكن قضيّة توقيف الممثّل المسرحي زياد عيتاني بتهمة التعامل مع العدوّ الإسرائيلي على يد جهاز أمن الدولة، ثمّ إطلاق سراحه من قبل قاضي التحقيق العسكري الأوّل رياض أبو غيدا بعد تحقيقات موسّعة قام بها”فرع المعلومات” في قوى الأمن الداخلي، الأولى في لبنان في مسلسل فبركة الملفّات وتركيبها، ذلك أنّ القضاء اللبناني شهد الكثير من هذه القضايا المصنّفة في خانة “التلفيق”، وبعضها انتهى بطريقة موجعة لأصحابها، لم تقدر الأيّام على إزالتها من الوجود، ومن الوجدان، ومن الذاكرة الجماعية لوطن مترهّل بالخضّات على كلّ الصعد السياسية والإقتصادية والمعيشية والإجتماعية.
فبعد توقيفه 115 يوماً متواصلاً بين 23 تشرين الثاني 2017 و18 آذار 2018، خرج عيتاني من إقامته الأولى في زنزانة التحقيقات الأوّلية إلى رحاب الحرّية، لتدخل مكانه الرئيسة السابقة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية في قوى الأمن الداخلي المقدّم سوزان الحاج حبيش و”عميلها” المقرصن إيلي غبش الذي تبيّن أنّه خبير محترف في اختراق حسابات الناس على مواقع التواصل الإجتماعي، والمصارف والإدارات الرسمية على الشبكة العنكبوتية، والتلاعب فيها، واستفادت المقدّم الحاج من خبرته الطويلة وشغّلته لمصلحتها وذلك بدافع الإنتقام كما اتضح من قصّة الممثّل عيتاني الذي قيل إنّه تسبّب بإقالتها من مركزها في قوى الأمن الداخلي بسبب وضعها إعجاباً (LIKE) على تغريدة للكاتب والمخرج شربل خليل تسخر من المرأة السعودية.
ويومها نشرت “محكمة” على موقعها الإلكتروني أنّ مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان لم يكتف بإعفاء الحاج من منصبها، بل أتبعه بعقوبة تأديبية مدّتها “عشرون يوماً توقيفاً صارماً” عن الخدمة، وقد نفّذت هذه العقوبة في منزلها.
وادعت النيابة العامة العسكرية على الحاج وغبش بجرائم اختلاق أدلّة مادية وإلكترونية غير صحيحة حول تعامل عيتاني مع العدوّ الإسرائيلي، وتقديم إخبار خطّي يحتوي مستندات مزوّرة إلى المديرية العامة لأمن الدولة عزي فيه إليه إرتكاب أفعال جنائية بحسب قانون العقوبات اللبناني، مع المعرفة ببراءته منها، وشنّ هجمات إلكترونية وقرصنة مواقع وزارات لبنانية ومؤسّسات أمنية لبنانية ومصارف لبنانية ومواقع اخبارية ومواقع أخرى مختلفة محلّية وأجنبية على شبكة الانترنت.
وتمّ الإدعاء أيضاً على المقرصن إيلي غبش في ملفّ ثان، بجرم الإفتراء الجنائي والتزوير وتلفيق جرم التعامل مع العدوّ الإسرائيلي للمعاون في الجيش اللبناني ا.د.
وإذا كانت رواية قرصنة حساب عيتاني صحيحة بحسب ما شاع بعد اختلاط العوامل السياسية والقضائية والأمنية لتنتج هذا الإخراج الذي قرصن بدوره صدمة الرأي العام وأغرقه في مسلسل طويل من الضياع وتفكيك الشيفرات، فإنّ هذه الحالة ليست وحيدة، كما أنّها ليست المرّة الأولى التي ينجرف فيها التحقيق القضائي إلى الهاوية السياسية في ملفّات أمنية شائكة ودقيقة وتحتاج إلى عناية خاصة عند مقاربتها من كلّ الزوايا.
فيلم لبناني قديم
وليس خافياً على أحد أنّ تسريب التحقيقات وتركيب الملفّات وتلفيق الاتهامات هو فيلم لبناني قديم، وهذا ما تشي به رحلة بحث عادية وليست صعبة على الإطلاق في رحاب العدليات والمحاكم حيث لن يستغرق نبش هذا الصنف من الدعاوى، الكثير من الجهد والوقت، بسبب كثافتها، على مرّ الأزمنة القضائية، وفي عهود سياسية مختلفة، ولا يمكن إيجاز هذه الملفّات أو سردها كاملةً، لأنّها تحتاج إلى كتب عديدة بمئات الصفحات، ولكن يمكن الإضاءة على عيّنة بسيطة كمثال وليس للحصر، وذلك على الشكل التالي:
أولّاً: تلفيق تهمة الجنون للأديبة اللبنانية الكبيرة مي الياس زيادة(1886- 1941) ووضعها في مستشفى المجانين في العصفورية، بفعل مؤامرة من إبن عمّها للإستيلاء على مالها، وقد جرى استدراجها من مصر حيث كانت تعيش إلى بيروت، بفعل خدعة قانونية سمجة، وتواطأ ضدّها أطباء إلى أن تمكّن وكيلاها المحاميان حبيب أبو شهلا(1902- 1957) وبهيج تقي الدين(1909- 1980) من الدفاع عنها أمام المحكمة الإبتدائية المدنية في بيروت والمؤلّفة يومذاك من القضاة بشارة الطبّاع رئيساً وأكرم عازار وإحسان بيضون مستشارين ومثّل النيابة العامة الإستئنافية القاضي راجي الراعي الذي قدّم مرافعة من أهمّ المرافعات في تاريخ القضاء اللبناني دافع فيها عن زيادة ورفض بشكل واضح لا لبس فيه الحجر عليها، وهو ما فعلته هيئة المحكمة بحكم تاريخي قضى بردّ دعوى الحجر.. ويومها كان ما يسمّى بـ”مفتّش وزارة العدل” قد ضغط لمصلحة الجهة المدعية، غير أنّ القضاة خالفوه الرأي فحفظهم التاريخ ودخل هو طيّ النسيان والإهمال.
ثانياً: تركيب ملفّ الزعيم أنطون سعادة(1904-1949) بتواطؤ مدروس بين محام ومخبرين، واتهامه في العام 1936 بالعمالة للنازية الألمانية والفاشية الإيطالية وإنشاء حزب سرّي، هو الحزب السوري القومي الإجتماعي في 16 تشرين الثاني 1932، فانتفض القاضي حسن قبلان، وكان في مركز المستنطق، لمصلحة سعادة ومنع عنه المحاكمة بعدما استمع إلى الشاعر سعيد عقل المنتسب سرّاً إلى الحزب كشاهد فأدلى بشهادة تاريخية. ثمّ كانت المحاكمة الصورية السريعة لسعادة في العام 7 تموز 1949 بتهمّة مدبّرة عنوانها التآمر على أمن الدولة، والتي انتهت بحكم الإعدام الجاهز للتنفيذ فجر اليوم التالي في 8 تموز 1949 من دون أن يرفّ جفن للسلطة السياسية.
يومها، كانت المحكمة العسكرية الدائمة مؤلّفة من المقدّم أنور كرم رئيساً، والقاضي المدني غبريال باسيلا، والنقيب طانيوس السمراني، والملازم أوّل عزيز الأحدب، والملازم أوّل أحد عرب أعضاء مستشارين،
ومثّل النيابة العامة القاضي يوسف شربل، وتولّى الدفاع عن سعادة الملازم في الجيش اللبناني حبيب بركات بعدما اعتذر المحامي إميل لحود عن القيام بواجب الدفاع إثر رفض المحكمة السماح له بالإطلاع على الملفّ، في إشارة إلى وجود نيّة مبيّتة بإجراء محاكمة صورية وتنفيذ الإعدام فوراً رمياً بالرصاص.
ثالثاً: تركيب الكثير من الملفّات بحقّ مدير عام “هيئة أوجيرو” الدكتور عبد المنعم يوسف وإدخاله السجن بتهم ووشايات ثبت مع مرور الأيّام عدم صحّتها، وصدرت قرارات بمنع المحاكمة وأحكام بالبراءة وإبطال التعقّبات، وتوجّت في العام 2017 بإقالة يوسف من منصبه، وقد تولّى الدفاع عنه في كلّ هذه الدعاوى والملفّات الدكتور المحامي منيف حمدان مؤلّف الكتاب الهام بعنوانه ومضمونه:” :”تركيب الملفّات وثورات الكبار”.
رابعاً: تركيب ملفّ توقيف الضبّاط الأربعة اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بتوافق سياسي وقضائي وأمني شارك فيه كثر، وقد أمضوا ثلاث سنوات وثمانية شهور قيد التوقيف الإحتياطي في مبنى “فرع المعلومات” في سجن رومية المركزي بين أيلول العام 2005 ونيسان العام 2009، قبل أن تطلب المحكمة الخاصة بلبنان إطلاق سراحهم فوراً.
خامساً: توقيف الفلسطيني يوسف شعبان بعدما اتهم زوراً بالإشتراك في قتل المستشار الأوّل للسفارة الأردنية في لبنان نائب عمران المعايطة في العام 1994، وأصدر المجلس العدلي وهو أعلى هيئة قضائية، حكماً قضى بوضعه في الأشغال الشاقة المؤبّدة بعد تخفيضها من الإعدام، قبل أن تلقي السلطات الأردنية القبض على الجناة الفعليين وتحكم عليهم بعقوبات متفاوتة وصولاً إلى الإعدام وتنفيذه. ورفض المجلس العدلي إعادة النظر في حكمه على شعبان إلى أن جرى تعديل القانون بحيث صار بمقدوره إعادة المحاكمة، ومع ذلك ردّ المجلس العدلي في العام 2006 طلب إعادة المحاكمة، ثمّ كان المخرج القانوني بإصدار عفو خاص عن يوسف شعبان في عهد الرئيس ميشال سليمان لتغطية الثغرات القانونية التي اعترت الملفّ والحكم.
أمّا بشأن تسريب التحقيقات الأوّلية والإستنطاقية قبل صدور القرار الظنّي عن القاضي الواضع يده على الملفّ، وليس بالضرورة المحاكمة العلنية أمام المحكمة المختصة، فهو خرق واضح لحقوق الإنسان ولقرينة البراءة، ولا يحقّ لأحد اللجوء إلى هذا الأسلوب الرامي إلى التشهير والنيل من الكرامة، وتشويه السمعة، والإنقضاض على الضحيّة نفسياً ومعنوياً، خصوصاً وأنّ استباق الكلمة القضائية المسؤولة يؤذي ويضرّ ويسيء إلى القضاء نفسه إذا ما كان التسريب منه أو من الضابطة العدلية العاملة بإشرافه وتحت يده، وثمّة نصوص قانونية صريحة تحكي عن إمكانية ملاحقة الناشر والمسرّب، إنْ كان ثمّة قرار في ذلك، وعدم وجود غطاء سياسي قضائي أمني مشترك للحؤول دون حصول هذه المقاضاة.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 28 – نيسان 2018 – السنة الثالثة)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.