تعليق على قرار القاضي نجاة أبو شقرا عن موت موقوف تحت التعذيب والتنكيل بآخرين/جان تابت
المحامي جان تابت:
بعد اطلاعنا على القرار الصادر عن حضرة قاضي التحقيق العسكري القاضية نجاة أبو شقرا (المنشور في موقع مجلّة “محكمة” الإلكتروني بتاريخ 4 كانون الأوّل 2022)، وجدنا أنّه من القرارات الفريدة والمتميّزة سيّما وأنّه للمرّة الأولى نقرأ إتهاماً لخمسة مدعى عليهم من أفراد الضابطة العدلية إرتكبوا أفعالاً جرمية تتعلّق بواجباتهم العسكرية، والمتمثّلة بضروب التعذيب، التي أودت بحياة أحد الموقوفين، مخالفين بذلك أحكام قانون معاقبة التعذيب رقم 2017/65.
إنّ المتّهمين هم نقيب وثلاثة معاونين ورقيب، وكان مفترض بهم تأمين العدالة ومكافحة الظلم، وملاحقة الظالمين، والاقتصاص منهم وفق أحكام القانون وضمن إطار وحدود المبادىء العامة الأخلاقية والإنسانية، كما السهر أيضاً على رعاية سلامة الأشخاص والممتلكات.
إنّ القانون الرامي إلى الدفاع عن حقوق الإنسان وحرّياته الشخصية والفردية، وإلى صون الحرّيات العامة والصالح العام، نصّ على ضرورة معاقبة المجرمين الذين يشكّلون خطراً على الحقّ العام والخاص، وعلى ضمان سلامة مجريات التحقيق على اختلاف مراحله، حيث لا يمكن استعمال أساليب العنف والتعذيب مع أيّ كان، مهما بلغت خطورته، إذ إنّ القانون لم يميّز بين شخص وآخر عندما أقرّ نصوصاً قانونية مختلفة لحماية الصحّة الجسدية والنفسية وتأمين سلامتها. وإنّنا وجدنا وجوب التعليق على القرار بالآتي:
أولاً- في أنّ القرار هو سابقة قضائية لا بدّ من التوقّف عندها وتهنئة القاضية أبو شقرا على ما قضت به:
إنّ القرار موضوع التعليق هو سابقة قضائية، وأقلّ ما يُقال فيه، إنّه قرار مبدئي، جدير بالتقدير، وهو بمثابة تذكير لمتولّي التحقيقات الأوّلية والاستقصائية والقضائية، بما تمليه عليهم موجباتهم الرسمية، وما تُحيط بها من ضوابط إنسانية وأخلاقية نصّت عنها مواثيق وإعلانات دولية وعالمية متعارف عليها في جميع البلدان على اختلاف ثقافاتها وتعدّد أنظمتها، إذ إنّ مادة الحقوق هي مادة إنسانية وليست مادة علمية ومختبرية، فلا يُمكن أن يختلف حولها إثنان، ولا يُمكن أن تتشعّب حولها الآراء أو تعدّد بخصوصها النظريات، فلا نسبية إلّا في المواضيع غير الأكيدة وغير المؤكّدة، وهي غالباً ما تكون علمية بحتة، أو بطبيعتها مرنة تتبدّل مع تبدّل الأوقات والأزمان والأماكن.
لكنّ، الكرامة الإنسانية، والقيم الأخلاقية، هي مفاهيم عالمية واحدة، تتبلور حولها النصوص، وترمي إلى الحفاظ عليها، ومهما تشعّبت هذه النصوص، فالدوافع إليها هي ذاتها، والأسباب الموجبة وراء إقرارها هي أوّلاً وآخراً، الإنسان الذي هو محور جميع القرارات، ومصدر جميع التشريعات، إذ إنّ كلّ القوانين والأنظمة والقرارات والأحكام ترمي إلى تنظيم المجتمع ككلّ، وترتيب العلاقات بين أفراده، من أجل اجتناب الفوضى والحدّ قدر الإمكان من الشرور، وتدارك المشاكل والخلافات، وسنّ القواعد التي تحكم الفصل بهذه الاخيرة إن نشأت، مع مراعاة قصوى لمبادىء العدالة والإنصاف وحسن النيّة، لإحقاق الحقّ، ونصرة المظلوم، والإقتصاص من الجاني، ضمن حدود وضعية وعالمية لا يمكن تجاوزها، وإلّا لأضحينا محكومين بشريعة الغاب، ولأمسى “الإنسان ذئباً للآخر” كما كتب توماس هوبز.
من هنا، وضع المشترع قانون معاقبة التعذيب رقم 2017/65، لقمع ضروب التعذيب والقسوة والتعنيف اللاإنسانية والمهينة، والتي تكون مرتكبة في معرض تولّي الوظيفة، اثناء التحقيقات والاستقصاءات، والتي ينتج عنها ألم شديد أو عذاب شديد، جسديًا كان أم عقليًا مقصودًا، بهدف الحصول على اعتراف أو معلومات.
في الحالة هذه، تكون الأجهزة الأمنية والضابطة العدلية وكذلك قضاة التحقيق، هم المستهدفين بقانون معاقبة التعذيب، إذ إنّهم، وبحكم صفتهم كمؤازرين للنيابة العامة في عملها، وكمسؤولين عن مكافحة الظلم ومحاربة الفساد وقمع الإرهاب، وملاحقة المجرمين لبناء مجتمع أفضل، تكون انطلاقاً من ذلك مسؤوليتهم أكبر وأعظم في تنفيذ المهمّة وإتمام واجبات الوظيفة، دون أيّ تجاوز، ووفقاً لما يمليه الضمير الحيّ، حيث يقتضي بهم تأمين مقتضيات العدالة بعدالة، والدفاع عن الحرّيات باحترام حرّية الآخر، فلا يُمكن أن نتصوّر حكماً عادلاً من قاضٍ ظالم يتخطّى النصوص ويحكم بإمره، مخلاًّ بمبدأ الفصل بين السلطات، حيث يكون قد صيّر بذلك السلطة القضائية “ذئباً” للسطلة التشريعية، فلا يتولّد عن ذلك سوى الخراب والفوضى السامّة المودية إلى الهلاك.
ثانياً- في وجوب أن يكون القرار بمثابة وثيقة مكتوبة تعمّم من الضابطة العدلية بواسطة النيابة العامة للحؤول دون تكرار هكذا نوع من الجرائم:
إنّ قاضي التحقيق مصدرة القرار المنوّه عنه في المتن، قد جسّدت بالأحرف المكتوبة هاجسها الإنساني والراقي بأخلاقياته وأدبياته، بصون العدالة وإرسائها على برّ الأمان، بدءاً من متولي هذه الحماية، وصولاً إلى المعتدين عليها، فإن كان حارس العدالة غير أهل للمهمّة الحمائية التي يتولّاها، فلن يتمكّن من بناء مجتمع أفضل، ولن يستحوذ ثقة الشعب الذي هو مكلّف بالحفاظ على أمنه واستقراره.
فكيف للضابطة العدلية اللجوء إلى أساليب العنف والتعذيب الشنيعة، لدرجة التسبّب بوفاة أحد الموقوفين، كما أكّده تقرير الطبيب الشرعي، وصدر الاتهام والظنّ على أساسه، في وقت أنّه من أولى واجباتها الاقتداء بالتعاليم العالمية والمحلّية بعدم سلوك أيّ معاملة من معاملات التعذيب والعنف والقسوة والإيذاء، ضدّ أي كان، حيث إنّ مبدأ المعاملة بالمثل، والعين بالعين والسنّ بالسنّ والبادي أظلم، وجميع هذه الأفكار البالية والرجعية والبدائية، المنبثقة من العصر الجاهلي والحجري، تدمّر ولا تبني، تعتّم ولا تُضيء، تُظلم ولا تُنصف!
كما أنّ حبّة الحنطة لا تُثمر في أرض عقيمة، فكذلك الحال يكون أيضاً في حقل التحقيقات القضائية، حيث لا يمكن لحبّة الإتهام أن تُثمر في أرض التعذيب، بل ينبغي أن تكون الأرض التي تُزرع فيها العدالة محاطة بسياج من الحقوق والحرّيات البديهية المنصوص عنها عالمياً، إذ لا يُمكن منطقياً أن ينال المتهم الجزاء الذي يستحقّه ممّن يتوجّب عليه الجزاء.
من هنا، لا بدّ للنيابة العامة التشدّد أكثر وأكثر في ممارسة سلطاتها ورقاباتها على أعمال موظّفي الضابطة العدلية والأجهزة الأمنية، لتدارك أيّ عمل يقوم به أيّ من رجال الضابطة العدلية يكون مخلاًّ بواجبات الخدمة العسكرية ومناقبيتها، حيث يكون مستحبّاً أكثر تواجد النيابة العامة أثناء التحقيقات وفي مراكزها لضبط أيّ تجاوزات قد تصدر عن متولّي التحقيق والإستنطاق لتأمين انتظام التحقيق وحسن سيره.
بالفعل، إنّ هذا القرار المبدئي– موضوع التعليق- هو بمصاف القرارات التمييزية من حيث تعليله وحيثياته، وهو يضيء على الجانب الأخلاقي للقوانين، وعلى ضرورة تمسّك جميع متولّي الخدمة العامة بالمبادىء والقيم الإنسانية والأخلاقية العالية والحميدة، والتحلّي بقدر من الوعي والحسّ السليم لتفادي إرساء العدالة على برّ اللاعدالة. وحبّذا لو يقتدي متولّو التحقيقات والمسؤولون عن الاتهام والظن بمضمون هذا القرار للسير بخطى ثابتة نحو عدالة ناصعة البياض ككفّ الشرفاء والأنقياء.
ونختم قائلين إذا كان لدينا قضاة مثل القاضية أبو شقرا فلا خوف على العدالة في لبنان، وإن مرّت مؤقّتاً وبسبب الظروف الإقتصادية بأزمة عابرة، فسوف تعود إلى سابق إنتاجيتها وعملها كالسابق وأكثر أيضاً.
“محكمة” – الإثنين في 2023/1/2