أبحاث ودراسات

الذكاء الاصطناعي بين مساعد للعدالة ومعيق لها/بيا برشان

بيا برشان:
تشكّل التكنولوجيا اليوم عاملًا مهمًّا من العوامل التي تؤثّر في الأنشطة اليومية لحياتنا. فقد دخلت جميع المجالات بما فيها القانوني وقلبت النمط التقليدي للمهن كافة، حيث إنّ تطوّر استخدامها وبروز الذكاء الاصطناعي – الموضوع الأكثر تداولًا- يمكن أن يؤمّن إمكانات عملية تساعد المحامين على الإحاطة بالتقنيات المهنية المطلوبة، لمواكبة تحدّيات العمل في بيئة رقمية معقّدة، كما تساعدهم في إيجاد فرص عمل جديدة.
وممّا لا شك فيه، أنّ استخدام الذكاء الاصطناعي يتصل بعدد من جوانب تطبيق القانون، وتفسيره، وتحليله، إضافة إلى إدارة أعمال القضاء والوصول إلى العدالة، وتسهيل أو تنظيم مهام مكاتب المحاماة. وهذا ما يدفعنا للبحث في مدى تأثيره على المهن القانونية، واحتمال تحوّله من أداة إلى بديل عن القانونيين.
من هذا المنطلق، لا بدّ من التطرّق بدايةً، إلى علاقة التحوّل الرقمي بالذكاء الاصطناعي، وتطبيقات هذا الأخير في المجال القانوني، كما أهمّيته في إدارة العدالة، علمًا أنّ هذه الاستخدامات لا تخلو من التحدّيات المتعلّقة بالأمن وحماية البيانات.
والذكاء الاصطناعي مصطلح يؤشّر إلى التطبيقات التي يمكنها تنفيذ مهام معقّدة تتطلّب تدخّل العقل البشري، كالإتصال مع المعنيين بالقرار، واتخاذه، وتقييم المعطيات التي يبنى عليها، وقياس فاعليته وصحّته. وللذكاء الاصطناعي مجالات فرعية، منها التعلّم الأوتوماتيكي والتعلّم العميق، اللذان يرتكزان على استخدام البيانات لتحسين الأداء. وإذا كان من غير الجائز القول، إنّ جميع أنظمة وبرامج التعلّم، هي أنظمة ذكاء إصطناعي، إلّا أنّ الأكيد هو أنّ جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي تقوم على التعلّم، وتحليل البيانات، بهدف تمكين أنظمة الحواسيب، من إحراز القدرة على اكتساب مميّزات الذكاء البشري.
وعليه، ترتكز فاعلية تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ومصداقية الحلول أو الآراء التي يقدّمها على نوعية البيانات التي يزوّد بها النظام. وتقدّم هذه التكنولوجيا، خدمات عديدة ليس أقلّها: أخذ القرار بشكل مفيد وفاعل، كشف المناطق الضعيفة في الإدارة والتحليل، رفع معدّل دقّة التوقّعات الخاصة باتجاهات السوق وآفاقه وبنوعية الخدمات وجوانب تطويرها، وبتحديد المنافسين في سوق العمل وكيفية التعامل معهم.
أوّلًا: التحوّل الرقمي كوسيلة ممهّدة للذكاء الاصطناعي:
يعتبر التحوّل الرقمي، من الميادين التي تضيء بشكل هام على استخدامات وإمكانات الذكاء الاصطناعي، في القطاعين العام والخاص، بما يعزّز فرص المنافسة بالنسبة للمؤسّسات الخاصة والشركات، وإمكانات تقديم فرص أفضل لإدارة الخدمات بالنسبة للإدارات المعنية في القطاع العام.
لقد شكّل إنتشار وباء كورونا أحد العوامل التي سرّعت في اعتماد التقنيات الرقمية في العديد من المجالات، لاسيّما منها إدارة الشؤون الصحيّة للمواطنين، وعمليات توزيع اللقاحات وتوفيرها، وتنظيم الجرعات، والتحقّق من الحصول عليها، ومن الوضع الصحّي للمسافرين والموظّفين، بما يتناسب مع تأمين متطلّبات إستمرارية الحياة اليومية خلال الحجر وأثناء عمليات الإنتقال. كما ساعدت في قياس الوضع الصحّي العام لبلد ما، ومعدّل الحماية والمناعة فيه.
وهكذا، اهتمت الشركات، بتوفير التقنيات المناسبة لتفعيل إنتاجية العاملين معها ولديها، بما يؤمّن استمرارية التواصل، والتفاعل بين فريق العمل، ويمنع التأثير السلبي على معنويات العاملين نتيجة انقطاع اللقاءات الإنسانية بينهم وبين الشركة وزبائنها، من جهة أولى، بينما يساعد على ضمان آلية فاعلة لاتخاذ القرارات بطريقة سهلة وسريعة، سواء عبر تبادل المعلومات والأفكار، أو عبر أنظمة تسمح باستخراج الحلول الأنسب بعد تحليل البيانات المخزّنة في قواعد المعلومات.
فقد شهدنا خلال هذه الفترة إعتمادًا كبيرًا للمنصّات الإلكترونية كالحسابات المصرفية التي يمكن الوصول إليها عبر الهاتف الشخصي، وهي خير مثال للإنتقال الى النشاط الرقمي لاسيّما في المعاملات التي تفرض الاثبات، كالإمضاء الالكتروني أو إرسال العقود والمعاملات.
في هذا السياق، لم تتأخّر المهن القانونية والعدالة، عن محاولة اللحاق بركب التحوّل الرقمي، حيث أصبحت مكاتب المحاماة تبحث عن أفراد يملكون المهارات التكنولوجية، لأنّ إتقانها يتيح الإفادة من إمكانات تقنيات المعلومات والاتصالات، بما فيها استخدام برامج الذكاء الاصطناعي. فقد أصبح ثابتًا، أنّ للتقنيات المذكورة دورًا أساسيًا في الأعمال والأمور كافة.
ويعتبر تأهيل وتدريب الموظّفين وإدخالهم في العالم الرقمي مرحلة رئيسية تجهّز الأرضية للإستفادة من ميزات برامج الذكاء الإصطناعي، في مرحلة لاحقة، بما يمثّله من حلول وأساليب عمل تشبه تلك التي يقدّمها العقل البشري. بمعنى آخر، لا يمكن إعتماد الذكاء الاصطناعي في شركات بعيدة كلّ البعد عن التكنولوجيا.
وعليه، يرتكز إستخدام الذكاء الاصطناعي، في المجال القانوني، اتخاذ الخطوات اللازمة لجمع البيانات، ذات العلاقة، ومعالجتها، باعتبارها، المادة الأساس سواء في التحوّل الرقمي، كما في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ما يسمح، إضافة إلى اتخاذ القرار الصحيح، تكوين فكرة عن النتائج التي يمكن توقّعها في ما يتعلّق بالنزاعات أمام المحاكم، واحتساب كلفة القضايا، وفهم أفضل للزبائن، عبر تحليل البيانات الضخمة في تكوين أطياف لهم.
ثانيًا: الذكاء الاصطناعي ما بين خادم وبديل:
في المجال القانوني، يعتبر الذكاء الاصطناعي حاجة ملحّة، تساهم في مساعدة المحامي والقاضي على السواء، في إدارة عملية اتخاذ القرار، وفي تجنّب الثغرات التي يمكن أن تؤدّي إلى خسارة الدعوى، أو الخروج بحكم أو بقرار خاطىء.
تتنوّع استخدامات الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، بتنوّع العمليات والنشاطات التي يمارسها المهني، حيث تبدأ من التحقّق من صحّة وسائل الإثبات، كالأدلّة المادية، والوثائق والإفادات وغيرها، لتمرّ باستخراج القضايا المشابهة، ومراجعة العقود والمصادقة عليها عبر تطبيق ClearLaw مثلًا، ما يوفّر الوقت ويقلّص الأخطاء، أو إدارتها عبر استخدام Diligen، وتصل إلى إدارة القضايا، وتنظيم جدول الأعمال من خلال الإتكال على روبوت الذكاء الاصطناعي القادر على إعطاء الأجوبة القانونية الفورية للموكّلين مثل Gideon، وتحليل البيانات.
إنّ اعتماد الذكاء الاصطناعي في الإطار التنظيمي، يمكن من توجيه رسائل البريد الالكتروني إلى وجهتها الصحيحة منعًا من ضياعها وإسراعًا في إجابتها. كما من إستخدام نظام البحث الالكتروني للحصول على النصوص والمعلومات القانونية واجتهادات المحاكم، والبرامج التي تساعد في تحليل المعلومات القانونية، والتأكّد السريع من صحّتها. والمثال الذي يمكن تقديمه، هو Casetext منصّة البحث القانوني، المدعّمة بالذكاء الاصطناعي.
وتحفظ هذه المنصّة الأبحاث وتقسمها حسب المسائل القانونية، وتحلّل المعلومات المنتقاة لمناسبتها مع القضيّة المطروحة. وهكذا، يمكن للمهنيين القانونيين التفرّغ للمهام التي تتطلّب مجهودًا ذهنيًا أكبر.
الإتكال على تلك الأنظمة، يبدأ من إنجاز أصغر مهمّة بدءًا من المعاملات وصولًا إلى الحضور أمام المحاكم، كما شهدنا مؤخّرًا في الولايات المتحدة الاميركية، ضمن دعوى قضائية تتعلّق بمخالفة سرعة. ويستخدم الروبوت لمساعدة المدعى عليه عبر تلقينه الردود التي يجب أن يعطيها للمحكمة، عبر سمّاعات خاصة، وذلك نتيجة قيام التطبيق الاصطناعي أو الروبوت، بمعالجة وتحليل المعلومات التي يستمع إليها في المحكمة .هنا تطرح إشكالية الاستبدال التام للمحامي، الأمر المستبعد حتّى الآن، فالروبوت سيعطي النصيحة حسب ما سمع في الجلسة. ولكن هل له القدرة على التمييز بين الوقائع الصحيحة والمغلوطة كالمحامي البشري؟
الذكاء الاصطناعي يسهّل المشقّات، لكن يبقى لنا مهمّة التأكّد من صحّة المحتوى. على سبيل المثال، عند طرح سؤال من قبل أحد الخبراء على محامي الذكاء الاصطناعي عن المساكنة (غير المنظّمة في القانون اللبناني)، عرض المادة ٥٣٤ من قانون العقوبات اللبناني: المجامعة المخالفة للطبيعة. لقد نجح بإدراج معاملات الطلاق، لكن بكلا الحالتين نصح إستشارة محام مختص للحصول على إجابة أدقّ. إذا، ليس على الدوام مرجعًا موثوقًا.
ماذا لو أنّ برنامج الذكاء الاصطناعي أعطى حلولًا خاطئة، من المسؤول؟ المستخدم للأداة أو الأداة بحدّ ذاتها؟ حتّى هذه الساعة، ما من جواب شافٍ.
بالعودة إلى المحامي الروبوت، فقد وافقت الشركة المصنّعة له “DoNotPay”، تغطية الغرامات كافة في حال خسارة القضيّة. ما الحلّ إنْ لم تقم بهذا التعهّد؟ ما من معايير واضحة لتحمّل عبء المسؤولية.
في سياق متصل، موجب المحامي هو موجب أداء، فإنّ اعتمد الذكاء الاصطناعي كأداة وكتقنية في العالم القانوني، فهل يحاسب المحامي الخاسر للقضية لعدم إستعماله لها، بناء على طبيعة موجبه التي تفرض عليه إستخدام جميع الأساليب القانونية المتاحة في المدافعة والمرافعة؟
وهل تبقى كلفة ما أفسده الروبوت أقلّ من تكلفة المحامي؟ ماذا عن إنسانية القضاء وملاءمته مع المجتمع حين التعامل مع آلات، خصوصًا عند اعتمادها في قضايا لا يحضر فيها الموكّل؟ في جميع الأحوال، الناس ستحتاج لمحامي بشري في إرشادهم عند اختيار الروبوت الأكثر فائدة لهم في قضيتهم.
ثالثًا: المحاذير والتحدّيات المتعلّقة بالأمن وحماية البيانات:
لا تخلو حالة الانتقال النوعي التي تشكّلها أداة الذكاء الاصطناعي من المخاطر. فعلى المهنيين التحلّي بالأخلاقيات اللازمة للحدّ من الانعكاسات السلبية لهذه التكنولوجيا، بداية من موجب المحامي إعلام الموكّل عند استعمال تقنية الذكاء الاصطناعي. كما لا يجوز الإتكال بشكل كامل على التقنيات، لأهمّية عامل الثقة في التعامل بين المحامي ووكيله التي تبنى على الإعتبار الشخصي، والتفاعلات الإنسانية.
فبحسب نقابة المحامين الأمريكيين، يجب التقيّد أوّلًا بمبدأ الكفاءة. وكون المحامي إختصاصيًا في المهنة، فعليه فهم فوائد ومخاطر الأنظمة، إلتزامًا بموجب تقديم خدمة متناسبة مع الحالة.
ولقد شدّدت اليونسكو أيضًا على أهمّية الإستخدام الأخلاقي للذكاء الإصطناعي، للتخفيف من مخاطره، في سبيل مكافحة المعلومات المضلّلة وحمايةً للحقّ في الخصوصية وللمعلومات الشخصية ولحقوق الإنسان، المعرّضة للتهديد نتيجة استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات، عامة، والذكاء الاصطناعي خاصة. وتوصي اليونسكو بمعايير ومبادىء، تضمن تطوّر الذكاء الاصطناعي بما يتماشى مع حكم القانون، وضرورة تجنّب الأضرار، وضمان إنفاذ آليات المساءلة وتعويض المتضرّرين في حال وقوعها.
في الشقّ المقابل للخدمات والتسهيلات المقدّمة من الذكاء الاصطناعي، نشهد العديد من الجرائم التي يمكن إرتكابها عبر هذه الأنظمة. مؤخّرًا، وبحسب موقع Daily Mail، استطاعت مجموعة محتالين إستنساخ صوت فتاة من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، لإيهام والدتها عند الاتصال بها بأنّ ابنتها مخطوفة والمطالبة بفدية مالية. تبيّن في ما بعد، أنّ الإبنة سليمة وغير محتجزة. فالمخاوف الحالية تكمن من جهة، في سوء إستخدام التطوّر، ومن جهة أخرى، في فعالية المحاسبة وفي مدى إتخاذ تدابير إحترازية لتفادي الوصول إلى النتائج السلبية.
يتعلّق تطوّر الذكاء الاصطناعي بشكل وثيق بتوفير البيانات، لذلك من المهمّ الإستفادة من النظام العام لحماية البيانات عند تقنين الذكاء الاصطناعي، بأسلوب يشجّع تطوّره في آن ويحافظ على الحقوق في آن آخر.
فمن البديهي أن يترافق استخدام تطبيقات الذكاء الإصطناعي في المجال القانوني، باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أمن البيانات، والقضايا، بما يمنع تسرّبها والإضرار بالأشخاص والمصالح المرتبطة بها، كان تتسرّب بيانات شخصية، أو عقود تجارية وعقود بيع أو غيرها. إضافة إلى ذلك، من الضروري الإلتزام بقوانين حماية البيانات الشخصية، الوطنية منها والعالمية. فالبيانات الضخمة، وبيانات القضايا بكلّ أنواعها تكاد لا تخلو من البيانات الشخصية، ما يفرض حرصًا خاصًا يمنع الإعتداء على حقوق الأشخاص المعنيين بها، كحقّ الخصوصية، من جهة أولى، كما يمنع التهرّب من المسؤولية في حال عدم احترام الشروط المفروضة قانونًا لجمعها ومعالجتها.
نذكر في هذا المجال، أنّ إعلان المفوضية الأوروبية في 2021/4/21 عن قانون الذكاء الاصطناعي لجعله جديرًا بالثقة، والذي يتمحور حول الانسان، ويراعي الأخلاقيات، مستدام وشامل، بهدف حماية الحقوق في مواجهة استخدامات الذكاء الاصطناعي.
إنّ استعمال مزايا الذكاء الاصطناعي متاح للقانونيين بعدّة سبل وتطبيقات قادرة على تحسين فعالية الخدمات القانونية. فالأداة الرقمية هي حاجة أساسية في الميدان القانوني ذات التطوّر السريع، طالما أنّها تحت رقابة السلطات المختصة، وفي إطار القوانين والأنظمة.
ويبقى إستبدال المحامي البشري بمحامي الذكاء الاصطناعي خطوة ناقصة ومحفوفة بالمخاطر، في ظلّ الثغرات التي تعتري الأنظمة.
“محكمة” – الإثنين في 2023/4/17

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!