جريصاتي يميّز بين الملفّات بتصنيفات لا تخدم العدالة ويهاتف الحجّار بشأن محاكمة قاتل الريف
كتب علي الموسوي:
أن تأخذ العدالة مجراها الطبيعي فلا أحد يعترض، بل الجميع يبدي ارتياحاً لهذا الأمر الذي يشكّل غاية الغايات في حدّ ذاته، وأن يلجأ الناس إلى وزير العدل باعتباره وزير وصاية على الأداء القضائي لإبلاغه عن حادثة ما سلبية كانت أو إيجابية من وجهة نظرهم، والأولى هي الأرجح دائماً، فليس هناك ما يعكّر صفاء العمل القضائي السليم باعتبار أنّ “تدخّل” الوزير يقتصر على إيصال الفكرة والمضمون إلى المرجعية القضائية المعنية والممثّلة بمجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش إن لزم الوضع، لكن أن يتحوّل اللجوء إلى وزير العدل وسيلة ضغط على المحكمة وقيام الأخير بحركة إعلامية وإعلانية فاقعة أمام الكاميرات بالإتصال بالقاضي وإسماعه كلمات راقية تنمّ عن تدخّل فاضح، فهو لأمر مرفوض، لأنّ هذا التصرّف يجعل القاضي خاضعاً لوزير لا علاقة له على الإطلاق ولا من قريب أو من بعيد، بوظيفة القاضي لناحية اتباعه الأصول القانونية الواجبة في إدارة جلسات التحقيق أو المحاكمة، أو لجهة الحكم أو القرار المنوي إصداره.
وعليه، فإنّ ما قام به وزير العدل سليم جريصاتي بعد استقباله عائلة الضحيّة جورج الريف، بالإتصال هاتفياً بالقاضي هاني الحجّار الذي كان قبل وقت قصير يرأس محكمة الجنايات في بيروت بالإنتداب، وهو في الأصل مستشار فيها، يجب ألاّ يتكرّر في المستقبل ومع أيّ قاض آخر، لأنّ هكذا تدخّلات، حتّى ولو كانت بنيّة حسنة وتسريعاً للمحاكمة، ليست لمصلحة العدالة المتوخّاة إذ يمكن أن تفسّر بغير مقصدها، ولا يزال قضاة وبينهم في محاكم الجنايات على سبيل المثال، يذكرون في مجالسهم كيف أنّ وزير العدل السابق اللواء المتقاعد أشرف ريفي كان يتدخّل عبر مستشاره القاضي محمّد صعب في الملفّات الموجودة أمامهم سواء عبر الإتصال بهم، أو عبر معاودة تذكيرهم برسائل نصيّة تختم بتوقيع “مع تحيّات الوزير”، وهي محاولة “ترهيب معنوي” لا تمّت إلى القانون، ولا إلى العدالة الحقيقية، بصلة.
تفجّر المحاكمة
ففي يوم الثلاثاء الواقع فيه 16 أيّار 2017، إلتأمت محكمة الجنايات في بيروت والمؤلّفة من القاضي هاني عبد المنعم الحجّار رئيساً مسيّراً للمحكمة، والقاضيين عماد سعيد مستشاراً أصيلاً وفرح حاطوم مستشارة بالإنتداب، لمتابعة النظر في قضيّة مقتل جورج الريف على يد طارق يتيم في وضح النهار في محلّة الصيفي في بيروت في 16 تموز 2015، بطعنات سكّين وإشباع باللكم والضرب، وذلك بسبب تافه يتعلّق بمزاحمة على أفضلية مرور.
وكان من المقرّر في هذه الجلسة، سماع مطالعة المحامية العامة الإستئنافية في بيروت القاضية مايا كنعان، ومرافعتي وكيل جهة الادعاء الشخصي المحامي زياد بيطار، ووكيل المتهم المحامي أنطوان طوبيا الذي تغيّب بداعي إصابته بالتهاب في اللوز، وحضر محام من مكتبه قدّم معذرة طبّية بهذا الشأن قبلتها هيئة المحكمة نزولاً عند حقّ معروف بتأمين حقوق “الدفاع المقدّس”، وأرجأت الجلسة إلى 13 حزيران 2017، وهذا ما دفع بيطار إلى الإعتراض لاعتقاده بأنّ هناك مماطلة وتسويفاً في المحاكمة، ورفع صوته متحدّثاً بطريقة إنفعالية طالباً ردّ القاضي الحجّار الذي كان يدير جلسة المحاكمة، فأجابه الأخير إفعل ما تشاء، أو بالعربي الدارج “عمول لي بدّك ياه”!.
جريصاتي و “HOTfiles”
وتوجّه بيطار وعائلة القتيل الريف وبعض وسائل الإعلام إلى مكتب الوزير جريصاتي الذي اتصل هاتفياً بالقاضي الحجّار طالباً منه الإسراع في المحاكمة، وأن يسلك الملفّ طريقه مصنّفاً إيّاه بـالأجنبية “HOTfiles”(ملفّات ساخنة)، واعتبر أنّ كلّ قاضٍ يخاف من طلب ردّه لأنّه أشبه بمحاكمته!.
وما التصنيف الذي أطلقه الوزير جريصاتي على الملفّ مقارنة بملفّات أخرى، سوى تمييز بين الملفّات لا يخدم العدالة، مع العلم أنّ كلّ صاحب حقّ يعتبر قضيّته من وجهة نظره “HOTfiles”، فكيف قبل الوزير المؤتمن على حسن سير المرفق القضائي بالتلفّظ بمثل هذا التمييز حتّى ولو كان هناك رأي عام يتابع، إذ توجد قضايا أفظع وأكبر تهمّ الرأي العام أيضاً ولم تدرج في العدلية ضمن خانة “HOTfiles”(ملفّات ساخنة)؟ وهل استخدام هذا التعبير في المحاكم الدولية يوجب إدخاله إلى المحاكم اللبنانية لإشاعة جوّ من التفرقة بين الملفّات؟ ومن قال إنّ هذا ملفّاً ساخناً، وإنّ ذاك ملفّاً بارداً إلاّ إذا كان المقصود أنّ هناك جرائم رثّة وبالية وغير مهمّة حتّى ولو لم تنته بإزهاق روح الضحيّة، وأخرى حامية الوطيس ومشتعلة ويفترض السير بها من دون اتباع الإجراءات والأصول القانونية المناسبة مراعاة للرأي العام ورغبات الجمهور، وهذا ليس بالوضع الحسن لصيت العدل؟.
وتجدر الإشارة إلى أنّ طلب ردّ الحجّار ليس لمصلحة هذه القضيّة ومن قبل الجهة المدعية التي تسعى إلى إنصافها بنيل القاتل عقوبة رادعة، لأنّ الأمر يطيل أمد المحاكمة بانتظار تقديم طلب الردّ والإجابة عليه من الحجّار شخصياً وقيام محكمة أخرى يعيّنها الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في بيروت القاضي طنوس مشلب بالنظر فيه وإصدار قرارها بشأنه، وفي حال قبول طلب الردّ، فإنّه يتوجّب انتداب قاض آخر غير الحجّار، ويستحيل أن تنتهي هذه الإجراءات قبل الجلسة المحدّدة في 13 حزيران 2017، وهذا يعني أنّ محامي جهة الادعاء الشخصي أخطأ وتسرّع في التلفّظ بعبارة “الردّ”.
التظلّم وحقوق الدفاع
ويوم الجمعة الواقع فيه 19 أيّار 2017، أصدر المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى بياناً توضيحياً جاء فيه ما يلي:” في ضوء ما نقله بعض وسائل الإعلام المرئي والمكتوب عن مجرى جلسة المحاكمة في إحدى القضايا الجنائية وما تلاها من انتقال جهة الادعاء الشخصي برفقة وسائل الإعلام إلى مكتب معالي وزير العدل للتظلّم من أداء المحكمة، وما عقب ذلك من اتصال هاتفي أجراه الوزير، يذكرّ رئيسُ مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد بأنّ التظلّم من أيّ قرار أو موقف تتخذّه أيّ محكمة، لاسيّما في إطار المحافظة على حقوق الدفاع، يخضع لطرق مراجعة نصّ عليها القانون، كما أنّ القانون أتاح للمتقاضين ولوزير العدل، المعني بالسهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلّقة بالقضاء، مراجعة هيئة التفتيش القضائي عندما يستدعي الأمر ذلك”.
وأضاف البيان:” إنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى، إنطلاقاً من واجب المجلس حماية حيادية كلّ قاض ودفع أيّ تعرّض أو ضغط من أيّ نوع كان من شأنه أن يعكّر صفاء ذهنه، لاسيّما من قبل وسائل الإعلام، وانطلاقاً من الحرص على أن تبقى الأحكام القضائية نتاج قراءة المحاكم لوقائع الدعوى ولأحكام القانون، قام بزيارة معالي وزير العدل الأستاذ سليم جريصاتي في مكتبه وتوافق وإيّاه على مجمل ما سبق، وعلى مقاربة واحدة بشأن التصدّي لأيّ خلل يمكن أن يطرأ بمعرض العمل القضائي”.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 18 – حزيران 2017).