جورج خبّاز لـ”محكمة”: أنا من الناس أعيش أوجاعهم وأترجمها مسرحياً/وفاء بيضون
حاورته وفاء بيضون:
هو لا يطرق القلوب والعقول وحسب، بل يملك من الجاذبية حدّاً لا ينتظر معه إذن الدخول إلى ثنايا الروح والأوصال. صانع ابتسامة هادئة ودافئة وحاملة لأوجاع المواطن على مدى مساحة الوطن، وأكثر من ذلك، هو شرارة تلمع على مساحة تنوّع الإبداع، مع بصمة عبقرية خاصة استطاع إدراجها بثقة عالية في أعماله الفنّية المميّزة والتي أعادت الأضواء والسطوع إلى خشبة المسرح اللبناني، إنّه بكلّ بساطة الفنّان جورج خبّاز.
وقد التقت “محكمة”، المبدع خبّاز في مسرح “شاتو تريانو” في الزلقا خلال عرض مسرحيته الجديدة “إلاّ إذا”، وهي من تأليفه وإنتاجه وإخراجه، ويخاطب فيها شرائح المجتمع اللبناني بمختلف انتماءاته الحزبية وتركيبته الطائفية المناطقية في كوميديا ساخرة هادفة.
يقول خبّاز إنّ “للخصوصية المسرحية مسألتين مندمجتين مع بعضهما البعض، المسألة الأولى الشخصية (character) كاريزما ربّانية، وروح قريبة من الناس، بينما تتعلّق الثانية بالشقّ التقني أو مقاربة المواضيع التي أقدّمها بلغة الناس، وهي لغة بسيطة غير مبتذلة بعيدة عن التهريج ، وبعيدة عن اللعب على الغرائز الجنسية والسياسية، وفي نفس الوقت أنقل همومهم، وأوجاعهم، وتستطعين القول مرآة ناصعة للبيئة التي أعيش فيها والتي هي لبنان بتنوّعه وتناقضاته، بمشاكله وجماله. وبكلّ شفافية أعكس ما أشعر به كمواطن لبناني مثلي مثل أيّ مواطن لبناني آخر، بكافة معتقداته المناطقية والحزبية”.
أتكلّم من منطلق إنساني
ويرى خبّاز أنّ “المواطن اللبناني يعاني الكثير من الآفات الموجودة في مجتمعنا سواء على الصعيد الإجتماعي، أو الإقتصادي، أو الأمني”، وهذا ما يدفعه إلى ترجمة “ما أشعر به بكلّ بساطة وبالكثير من الحبّ للإنسان أوّلاً ثمّ للوطن، فأنا أتكلّم دائماً من منطلق إنساني بحت، وأعتقد أنّ هذا هو الرابط الأساس بيني وبين الناس”.
ويتوقّف خبّاز عند “ديكور” مسرحيته، وهو عبارة عن مبنى “يمثّل الوطن، وكلّ شرفة فيه تمثّل شريحة من اللبنانيين، فنجد الشيعي، والسنّي، والدرزي، والأرمني، والأرثوذكسي، والماروني، والعلماني، وبكلّ بساطة أظهر من خلاله جمال الطوائف، وقبح الطائفية، وكلّ طائفة في وطني لديها خصوصيتها وبطولاتها وفضلها على الوطن، والوطن له الفضل عليها، لكن للأسف في المقابل، لدى كلّ طائفة بشاعتها الطائفية أيضاً، وهذا ما يسبّب لنا اللإنسانية بالتعاطي مع بعضنا البعض، وبالتعاطي مع الآخر ممّا يؤدّي إلى نشوء حروب ليست فقط على صعيد لبنان، بل على صعيد العالم العربي كلّه”.
ويضيف:”عدم تقبّلنا للآخر بشتّى أنواعه ليس فقط في الدين، بل حتّى المختلف عنا جسدياً، أو عرقياً، وهذا ما حاولت إظهاره في فيلم “غدي” حيث قلت إذا كنّا لا نستطيع تقبّل شخص “خلقة ربه”، فكيف سنستطيع أن نتقبّل شخصاً آخر من غير دين، أو من غير فكر، أو من غير طائفة، لذلك نحن لدينا نظرة للآخر منقسمة إلى ثلاثة أنواع هي: إمّا العدائية، وإمّا الفوقية، وإمّا الشفقة، وكلّها تعبّر عن الأسوأ فالأسوأ”.
تنوّع الجمهور
ويستشهد خبّاز بأغنية في مسرحية “مش مختلفين” تعزيزاً لموقفه، يقول فيها: “ما نقيت وين خلقت
ولا نقيت وين علقت
ولا نقيت إسمي شو
ولا طولي أديش هوي
عادي ناصح أو ضعيف
ما نقيت أهلي مين
ولا المذهب ولا الدين
السؤال ما اخترنا نحنا مين
طيب ع شو مختلفين”.
ويتابع: “برأي الله واحد، فلنتوحّد على الإنسانية، على الحبّ والمحبّة، فالعدائية والفوقية تؤذينا، والحبّ هو المنقذ الوحيد لنا. وفي الصالة حيث تُعرض مسرحية “إلاّ إذا” تجيدين تنوّعاً في الجمهور القادم من كافة المناطق والمعتقدات والطوائف، والمستويات الفكرية، والكلّ يجلس جنباً إلى جنب، وخلال المشاهد الأخيرة للمسرحية تتبدّل الأدوار من خلال إجراء فحص (DNA) لمعرفة أصل كلّ مواطن. وأحببت من خلال هذا المشهد أن أنقل العصبية الطائفية المغروسة فينا، إذ تبدّلت مواقف كلّ مواطن مع تبدّل طائفته، وإن كان تصفيق الجمهور في بداية المسرحية نتيجة التفاعل الطائفي، ولكن عند تبدّل الطوائف يصبح التصفيق دون انتماء لطائفة ما، حتّى أنّنا نكاد لا ندرك أهي حركة وعي أم لا”.
لست مصلحاً إجتماعياً
وعمّا إذا كان استطاع من خلال عمله المسرحي إحداث تأثير ما، يقول خبّاز:” يكفيني في الحدّ الأدنى كلمة حقّ، ووقفة ضمير وأنا أعبّر عن رأي بأرقى أنواع التعبير وهو المسرح وهو المنبر التواصلي الإنساني الثقافي الفكري الترفيهي، وإجمالاً لكي نُحدث تغييراً ما نحتاج إلى الوقت، فنحن هكذا منذ خمسمائة سنة، ذكرت في المسرحية عن تاريخ لبنان والطائفية المغروسة بداخلنا منذ عقود، نستطيع إحداث التغيير إذا استطعنا إعادة الجيل الجديد إلى الجذور الإنسانية، ومخاطبته بوعي، بالطبع دون أن أطرح نفسي مصلحاً إجتماعياً، ويجب أن تصل الرسالة بسلاسة، بخفّة، بصدق وبعفوية، هكذا تقترب القلوب التي بمعظمها من الداخل تسكنها الطيبة، ولكنّ التراكمات أحدثت طبقة غبار حجبت تلك الخصلة والتي قد تُزال من خلال أيّ طرفة ولو صغيرة”.
هذه المسرحية محكمة
ويلفت النظر إلى أنّ “تنوّع الجمهور، والمشاعر الواحدة تسعدني وتثبت لي صحّة ما كتبته وجسّدته في هذه المسرحية، وهذا المشهد الرائع، الضحكة الواحدة، الصمت، الدمعة، حينها أدرك تماماً أنّ جميع الناس تملك الطيبة الكبيرة والمتشابهة في آن. نستطيع أن نطلق على هذه المسرحية اسم محكمة، محكمة لإنسانيتنا، فلنتفق إذاً، ولننقذ هذا المبنى المتصدّع الآيل للسقوط والذي يجسّد الوطن، وقد ينهار دون الوصول أو الاتفاق على حلول”.
وتتطرّق المسرحية إلى موضوع المرأة، وعن هذ الشقّ يتساءل خبّاز “كيف أنّها لا زالت تعاني من الذكورية على جميع الأصعدة، وخاصة على الصعيد السياسي، وهي تمثّل نصف المجتمع، إذاً لماذا لا يكون لها حضورها القوي والفعّال في المجلس النيابي، مع العلم أنّ نسبة العلم في لبنان عند النساء هي الأعلى مقارنة مع الرجال؟ لذا عليها أن تعي تماماً ما تريد وكيف تكون حرّة، وهذا يرتبط بالمصالحة مع الذات، ومع طبيعتها. ولبنان هو الأفضل بين البلدان في مسألة حقوق المرأة، ومساواتها مع الرجل، والأهم أن يتساويا روحياً وفكرياً وإنسانياً، ولديّ شعور بأنّنا نتجه مع الوقت إلى السكّة الصحيحة”.
عيد الإستقلال الأجمل
وبنبرة مشبعة بالمرارة يتحدّث خبّاز عن أنّ “الظلم يبكيني، يؤلمني، فنحن نعيش هواجس إنسانية واجتماعية، واقتصادية، ومادية، وأمنية لا مدى لنهايتها، وبطبعي أعيش هموم الناس وأوجاعهم، وأشعر بمعاناتهم، وهذه الأحاسيس أبثّها أوراقي البيضاء، وأعكسها وأجسّدها بأعمال مسرحية”، معتبراً أنّ عيد الإستقلال في العام 2017 كان “الأجمل بين أعياد الاستقلال التي شاهدتها في حياتي، ويعود ذلك لما حصل من وحدة وطنية على امتداد مساحة الوطن بأكمله، فنحن عانينا ما عانينا من حروب، وأنا كمواطن لا أنتمي لأيّ حزب، ولكن لي رأي السياسي، أؤمن بالطموح، بالحقّ، وأؤمن بأنّ الزمن هو الكفيل بأن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، فالمواطن اللبناني توّاق للفرح، وهو لا يستسلم، ولديه إرادة قوية، لذلك فهو يستحقّ العيش بسلام”.
المسرح اللبناني بطيء
وماذا عن رؤيتك للمسرح اللبناني، تسأل خبّاز الذي لا يتردّد في الإجابة بصراحته المعهودة مبدياً أسفاً شديداً لأنّ “التطوّر بطيء جدّاً، لدينا مسرحيون لكن دون مسرح، هناك محاولات للعمل المسرحي شئنا أم أبينا، وهناك أسماء كبيرة ولها باعها في العمل المسرحي، ومن بينهم العنصر الشبابي الذين يبذلون ما في وسعهم لإعادة إحياء المسرح، وهناك مهمّتان يجب إنجازهما، والأولى تتمثّل بإعادة ترميم الجسر بين الجمهور والمسرح، والثانية بإعادة وضع المسرح على خريطة المواطن اليومية الثقافية، أو الشهرية وهذه هي المهمّة الأصعب”.
وفي هذا المجال، يعتبر خبّاز أنّه استطاع “النجاح من خلال تجربتي الخاصة في بناء هذا الجسر بيني وبين الجمهور الذي ينتظر ما أقدمه في كلّ عام بحيث يحضر وهو على ثقة بما أقدّمه على خشبة المسرح، ولا أجامل أحداً في عملي المسرحي، وكما لاحظتِ في مسرحية ” إلا إذا” تحدّثت عن الجميع ، دون التجريح بأي طرف، فهذه المسرحية تحديداً هي بمثابة توبيخ بمحبّة”.
مسرحيتي خارج الوطن
وماذا عن عرض مسرحياتك خارج حدود الوطن؟ يجيب خبّاز “تأتينا عروض كثيرة، وكنّا في السابق، نذهب إلى استراليا وكندا والبلاد العربية، لكنّنا منذ خمس سنوات لم نعد نقدّم عروضاً خارجية لأنّ العمل المسرحي يتطلّب جهداً وتعباً كبيرين ، وأنا أعمل مدّة ستّة أشهر، بالإضافة إلى شهرين من التمرينات، ليصبح المجموع ثمانية أشهر من العمل، وتبقى الشهور الأربعة لتحضير عمل جديد، لذلك ليس لديّ الوقت الكافي”، يتوقّف خبّاز للحظة، ثمّ يستطرد “الخبر الجميل هو أنّني قد أقدّم مسرحيتي هذه خارج الوطن”.
وعن مشاركته في فيلم “الفيل الملك”، يبدي خبّاز سعادته الكبيرة “بهذه التجربة، فالفيلم باللغة العربية، ويحاكي الإنسانية والتعايش، ويعزّز القيم ضدّ الظلم، وهو تجربة رائعة جدّاً أدّيت بصوتي دور الفأر فرفور، مع العلم أنّه عُرض عليّ دور رئيسي، لكنْ أعجبني دور الفأر فرفور أكثر، وإجمالاً تجربة لبنانية جميلة أتمنّى لها الإستمرارية والتوفيق، وقد أكرّرها، ولكن حسب الشخصية وطبعاً بحسب شروط فنّية معيّنة”.
حبّ متبادل مع دريد لحّام
أمّا بشأن فكرة العمل المشترك مع الفنّان العربي السوري القدير دريد لحام، فيذكّر جورج خبّاز “بأنّنا كنّا قد بدأنا التحضير لعمل مشترك قبل الأزمة في سوريا، لكنّه أصيب بوعكة نفسية نتيجة ذلك فتوقّفنا، وثمّة حبّ متبادل بيننا، أعتقد أنّه تجمعنا الكثير من القصص، خاصة على الصعيد الإنساني والفنّي، لكنّني أقول وبكلّ صراحة، يكفيني فخراً رأيه بي، فذلك يعادل ما يفوق المئة عمل. دريد لحام يعطي شهادة بي، فهذه المسألة جدّاً مهمّة لي، وتعني لي الكثير”.
“أمّ خالد” لا تمثّل الستّ البيروتية
وعن رأيه بكاريكاتير شخصية “أم خالد” التي تؤدّيها الممثّلة جوانا كركي للدلالة على الستّ البيروتية، فيقول خبّاز: “الستّ البيروتية ليست هكذا، فليسمحوا لنا، هذا الكاريكاتير مبالغ فيه مع احترامي الشديد لكلّ الزملاء العاملين، والسيّدة البيروتية هي سيّدة أنيقة أراها واحدة من أعضاء لجنة مهرجانات بعلبك، حتّى وإنْ كان ذلك في إطار الكاريكاتير وإطار الكوميديا، فهذا لا يعني أنّها تمثّل المرأة البيروتية”.
تلفوني مرافقي الشخصي
وعمّا إذا كان يحبّذ فكرة وجود مرافقين مع الفنّان، فيرى خبّاز أنّ الفنّان قد يحتاج إلى مرافق، ولكن عليه أن يحرص على أن يكون مظهره لائقاً، ولا يوحي بأنّه مرافق للشخصية الفنّية، ويتدخّل حين الحاجة فقط، وعلى المستوى الشخصي، فإنّ مرافقي الشخصي هو تلفوني، لأنّني أتعامل بمحبّة مع جمهوري، وأُبادله بذات الطريقة حين أنتهي من تقديم المسرحية اخرج لجمهوري وأتصوّر مع كلّ من ينتظرني، وجمهوري هم ضيوفي، لذلك اعتبرهم في منزلي، ولا أتذمّر منهم مهما كبر العدد، فأنا من الناس، وأعيش أوجاعهم في داخلي وأترجمها على المسرح”.
ويضيف جورج خبّاز:”أنا ابن الشارع، كنت أذهب إلى الجامعة في الباص، وأحياناً في سيّارة الأجرة، وكنت أتعلّم في النهار، وأعمل “غارسون” في الليل حتّى أستطيع تسديد قسط جامعتي، كما أنّني عملت في ورش على “الكومبراسير”، وعملت مصوّراً للأعراس، وكنت فخوراً بعملي، لأنّني اعتبرت أنني أساعد أبي وعائلتي المؤلّفة من أربعة أولاد حينها، إثنان منهم في الجامعة، وإثنان في المدرسة، وكنت أحاول تخفيف العبء عن كاهله بتأمين أقساط جامعتي الخاصة التي كنت أدرس فيها وهي الروح القدس – الكسليك، والعملُ في المطعم دقيقٌ بحيث يمرّ عليك السيئ والحسن، لذلك كنت أعلم معاناة الناس”.
(نشر في “محكمة” – العدد 26 – شباط 2018- السنة الثالثة).