حافظ أنيس جابر.. سنة ولم نشعر بكَ غائباً/وليد أبو دية
المحامي وليد أبو دية:
كان شهر أيّار من كلّ عام شهر حزنٍ عند الأخطل الصغير. فقد شهِد هذا الشهر من العام ١٩١٦ شنقَ نخبةٍ من أحرارِ لبنانَ وسوريا في ساحة البرج في بيروت، وساحة المرجة في دمشق، على يد “جمال باشا”. وكان قسمٌ كبير من هؤلاء الشهداء أصدقاءَ شخصيينَ للأخطل، والأخطل نفسُه كادَ يَلقَى مصيرَهُم لولا رسالة سرّية عاجلة وصلتهُ من صديقه “محمّد علي كُرد” الذي كان موظّفاً في الإدارة العثمانيّة في مدينة “عاليه” اللبنانيّة.
وبسبب الإكتئاب الذي كان يَستولي على الأخطل خلالَ شهرِ أيّار، فإنّهُ اعتذرَ عن إقامة مهرجان مبايعتِه بإمارةِ الشعر في هذا الشهر. وإمارةُ الشعرِ كانت شاغرة منذ وفاة أوّل أمير “أحمد شوقي” في ١٩٣٢/١٠/١٤، فطلب من اللجنة المنظِّمة المولجة به أن تؤجّلهُ إلى شهرٍ آخر، فكان لهُ ما أراد وكان هذا الشهر هو حزيران من العام ١٩٦١.
ففي الرابع منه، وفي قصر الأونيسكو في بيروت، وقف الأخطل وهو في الهزيع الأخيرِ من حياتِه، ليشكُرَ، ويُحَيّ، وينشُرَ هذه الأبيات الثلاثة التي ختمَ بها ملفّهُ الشعري:
” اليومَ أصبحتُ لا شَمسي ولا قَمري
من ذا يُغنّي على عُودٍ بِلا وَتَرِ
ما للقوافي إذا جاذبتُها نفرت
رَعتْ شبابي وخانتني على كِبَري”…
وبعدُ، ماذا أقول أنا بالصديق الحافظ؟
ماذا أقول بهِ وعنهُ، وقد مضَى عامٌ على غيابهِ، وكان فيه من الجبروت بقدر ما كان فيهِ من طفولة القلب الكبير.
واحدٌ من الكبار الذين لا نصغُر بالإنحناءة لهم.
كان الحجّة والعلم والرجولة…كان الذمّة والصدق والدأب الموصول.
الإنفعال عنده كان انفعال الطيبة والبساطة، يقف عند عتبة المسؤوليّة. وإنّ الغضبة عنده لم تكن إلّا في ميلة الحقّ.
هذا كلام من مثلي في مثله كلامُ من يستسهل الكلام على الرجال، ولا الشهادة لهم. أمّا حافظ جابر، فكلامي فيهِ إنّما هو كلام العارفِ بما كان عليهِ من شهامة بال.
معهُ تراني أستذكر الأكابر الذين مضوا، مثل والده “أنيس ملحم جابر” طيّب الله ثراه…معهُ تراني أستذكر تُراث الكِبرَ في المحاماة، تُراث الشموليّة الإنسانيّة، من “شيشرون” المحامي الأوّل الذي ترافع في كلّ شيء وفهم كلّ شيء وتحسَّبَ لكلّ شيء، إلّا لأمرٍ:هو أنّه سيُنفَى ويُقتل لأنّه أحسنَ وأتقنَ الفكرَ والكلام.
هكذا كان، وهو قُسّطَ لهُ أن يظلّ، حتّى آخر أيّامهِ، وجهاً مَسَحَتْهُ وَضاءَةُ الطفولةِ.
تهيّبَ المحاماة مهنةً ورسالة. مهنة لأنّ قواعدَ مكتوبة تنظّمها. ورسالة لأنّ مداها الإنسان.
من أمثالهِ أخذتُ أنّ الناجح، في المحاماة كما في كلّ مهنة، هو من تدرّعَ شيئين: العِلْمَ والأخلاق. أمّا الرجولة، فكانت جوهراً في جوّانيّة هذا المتباهي على تواضع، المتعالي على بساطة، الجَسور على تهيُّبٍ واتّزان.
فيا أيُّها الصديق الحافظ، أراكَ برفيقة دربك السيّدة الفاضلة نجوى شيّا، وبفلذاتِ كبدكَ أحبّائي، طلال وعمر والدلّوعة- كما كان يحلو لكَ مناداتها- زلفا زوجة الحبيب طارق يحي، وأقول لهم: إرفعوا رؤوسكم يا أحفاد أنيس ملحم جابر، ويكفي كلّ منكم فخراً القول، نحنُ أولاد حافظ أنيس جابر، كي يُصبح لأسمائِكم لونٌ ومعنىً وعنوانٌ وهُويّة.
في رثاء الأخطل الصغير لأحمد شوقي بناءً لوصيّته، ختمَ قصيدتهُ بهذا البيت:
“سألتَنيهِ رثاءً خُذهُ من كَبدي
لا يؤخذ الشيءُ إلّا من مصادرهِ”…
فيا أيّها الغائب الحاضر، أيّها الصديق الحافظ، إذا كنتُ أستذكِرُكَ في يومكَ وفي ذكراكَ بكلمةٍ منّي متواضعة، فلأنّكَ واحدٌ من الكبار الكبار.
ولكم يُشتاقُ إلى الكِبَر في أيّام الكبار.
“محكمة” – الخميس في 2020/5/14