أبرز الأخبارعلم وخبر

حكم للقاضي علاء بشير: البدلات المودعة من مصرف مستأجر في حساب مصرفي خاضع لقيود على السحب لا تبرئ ذمّته/علي الموسوي

المحامي المتدرّج علي الموسوي:
أبدعت المصارف في ابتكار الأساليب غير القانونية لحجب أموال المودعين لديها عنهم، متستّرة خلف تعاميم صادرة عن مصرف لبنان نتيجة الإنهيار المالي والإقتصادي الذي ضرب لبنان في العام 2019، ولا يزال مستمرًّا وبقوّة.
وآخر إنجازات المصارف في هذا الصدد “الإبداعي”، إيداع بدلات الإيجار المترتّبة بذمّتها للمالك في حسابه المفتوح لديها من دون حقّ سحبها والإستفادة منها سواء أكانت قيمتها كبيرة أم صغيرة، لأنّها تحوّلت بقدرة المصارف ومن خلفها الحماية السياسية، إلى أموال مودعين وصارت مشمولة بتعاميم المصرف المركزي بفرض قيود على عمليات السحب. ولا يمكن مخالفة هذه التعاميم على الإطلاق، وقد باتت سيفًا مسلطًا على رقاب المودعين تمنحهم حفنة قليلة من أموالهم لا يعتدّ بها لتسيير أمورهم الحياتية والمعيشية على أقلّ تقدير.
وما هذه الطريقة الجديدة وغير المألوفة من قبل، في التعامل بين مالك ومستأجر، سوى تملّص من إتمام الموجبات ودفع المستحقّات المالية الناجمة عن العلاقة التعاقدية بين المصرف ومالك المأجور ولاسيّما إذا ما كانت المبالغ المالية المطالب بها كبيرة وبالعملة الأميركية الخضراء المغرية والمسيطرة على الكرة الأرضية.
وإنْ كان المصرف قد اعتاد على إيداع البدلات المالية في حساب المؤجّر لديه قبل اندلاع الأزمة المالية، إلّا أنّه لا يحقّ له التذرّع بهذه الواقعة للإبقاء على هذه المعاملة والإستمرار في سلوكها، ذلك أنّ الأصل هو الحفاظ على قدرة المالك على الإنتفاع من المردود المالي لمُلكه، وأنّ العقد المبرم بين الطرفين تنتج عنه إلتزامات يتوجّب تنفيذها بما يعود بالمنفعة المطلوبة والمشتهاة منهما، وإذا ما انتفت هذه المنفعة لم يعد بالمستطاع تحقيق الغاية المتوخّاة من إبرام العقد.
وإذا كان المالك قد وافق في فترة سابقة على إيداع البدلات في حسابه المصرفي، إلّا أنّ هذا الحساب ليس مخصّصًا فقط لاحتضان هذه البدلات بصورة مؤقّتة، ولم يُفتح في الأساس لغاية استقبال هذه البدلات، وإلّا لطاولته القيود المفروضة على عملية تحريكه مع موافقة المالك على ذلك، إنّما فَتْحُ هذا الحساب تمّ في مرحلة سابقة ولم يقتصر الإيداع على بدلات الإيجار، إنّما تمّ إيداع أموال أخرى فيه، وبالتالي اختلطت هذه الأموال ببعضها بعضًا، ولم يعد بالإمكان معرفة ما إذا كان السحب يحصل من هذه البدلات، أم من الأموال الموجودة فيه.
وهذا ما توصّل إليه من قناعة، القاضي المنفرد المدني في جبل لبنان (جديدة المتن) الناظر في دعاوى الإيجارات القاضي علاء بشير في حكم أصدره بتاريخ 26 آذار 2025، وتوجّه باعتبار الإيداع غير مبرئ للذمّة، ممّا يقتضي معه فسخ عقد الإيجار والإلزام بإخلاء المأجور ودفع البدلات المالية المُطالب بها وبالدولار الأميركي وفرض غرامة إكراهية على المصرف في حال تمنّع عن التنفيذ.
“محكمة” تتفرّد بنشر حكم القاضي علاء بشير كاملًا، لأهمّيته، ولما فيه من تميّز في المعالجة القانونية البحتة للمنحى المثار للمرّة الأولى من تعامل مصرف مستأجر مع بدلات مالية للمالك تحت مظلّة تعاميم مصرف لبنان:
“باسم الشعب اللبناني
إنّ القاضي المنفرد المدني في جبل لبنان (جديْدة المتن) الناظر في دعاوى الإيجارات
لدى التدقيق،
تبيّن أنّه بتاريخ 2022/10/4 تقدّم السيّد ز. ي.، وكيله المحامي ج.ش. بصفته الشخصية وبوكالته عن السيّدة ذ. ع.، باستحضار بوجه المدّعى عليه بنك إنتركانتيننتال ش.م.ل.، ممثّلاً برئيس مجلس إدارته السيّد سليم يعقوب حبيب، عرض فيه أنّه يملك القسم رقم ١٠ من العقار رقم ١٨٣٥ من منطقة مزرعة يشوع العقارية الّذي يشغله المدّعى عليه بالإجارة، وأنّ هذا الأخير كان يُسدّد بدلات الإيجار عن طريق حوالات مصرفية في حسابه، أي حساب المدّعي، دون علمه ورغماً عن إرادته، وهذا ما يؤدّي إلى حرمانه من الحصول عليها فعلياً أو استعمالها بشكل منتج، وأنّ المدّعى عليه إستغلّ لسنوات التدهور الحاصل والقيود المفروضة على حسابات المودعين للإضرار به كمؤجر، وأنهّ تمنّع بتاريخ 2020/6/1 عن تسديد بدلات الإيجار المستحقة سنداً للمادّة السابعة من عقد الإيجار والبالغة قيمتها /١٤٣،٣١٠/د.أ.، فطالبه مراراً وتكراراً بتسديدها إلّا أنّه لم يفعل بالرغم من إنذاره بموجب بطاقة مكشوفة مع إشعار بالإستلام. وفي باب القانون، أدلى المدّعي بفسخ عقد الإيجار سنداً لنص المادّتيْن ٥٦٨ و٥٩٥ م.ع. وخلُص طالباً إلزام المدّعى عليه بتسديد مبلغ /١٤٣،٣١٠/د.أ. عداً ونقداً بالدولار الأميركي كبدل إيجار مستحق من تاريخ 2020/6/1 ولغاية 2023/6/1 ، كما وإلزامه بإخلاء المأجور فوراً، وتدريكه الرسوم والنفقات وأتعاب المحاماة.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2024/1/8 تقدّم المدّعى عليه، وكيله المحامي ر. م.، بلائحة جوابية أولى عرض فيها أنّه منذ بدء الإجارة في 2009/6/1 وبناءً على طلب المدّعي، كان تسديد البدلات يتمّ عبر إيداع مصرفي في حساب هذا الأخير عند بدء كل سنة تعاقدية، وأنّ المدّعي كان يستلم الإيصال بالدفع ولم يكن يعترض عليه بل كان يوافق على عملية التحويل كما هو واضح من الإيصالات المبرزة، وأنّه، أي المدّعى عليه، عند تبلّغه البطاقة المكشوفة أكّد أنّه سدّد بدلات الإيجار المُطالب بها عند إستحقاق كل منها. وأضاف أنّ عقد الإيجار لم يُشِر لا من قريب ولا بعيد على وجوب تسديد بدلات الإيجار عدّاً ونقداً. وفي باب القانون، أدلى المدّعى عليه بعدم صلاحية محكمة الإيجارات للبت بطلب تعديل عقد الإيجار الّذي يدخل ضمن صلاحيات محكمة الأساس، وأنّه يقتضي ردّ الدعوى لعدم صحة التوكيل إذ يجب وجود وكالة من السيّدة ذ. ع. تُجيز للمدّعي تقديم الدعوى الحاضرة بإسمها، وأن تكون الوكالة المعطاة للمحامي ج. ش. صادرة أيضاً عن المدّعي أصالةً عن نفسه وبوكالته عن هذا الأخيرة، وأنّه لجهة الأساس، فقد أودع في حساب المدّعي لديه بتاريخ 2020/6/1 مبلغ /٤٥،٣٥٠/د.أ. يوازي بدل الإيجار المترتّب من 2020/6/1 ولغاية 2021/5/31 وقد استلم المدّعي أصل ” إشعار القيْد بالحساب”، وكذلك الأمر بتاريخ 2021/6/2 حيثُ تمّ إيداع مبلغ /٤٨،٩٨٠/د.أ.، عن الفترة الواقعة بين 2021/6/1 و 2022/5/31 ، وأيضاً بتاريخ 2022/6/1 حيثُ تمّ إيداع المبلغ عينه كبدلات إيجار من 2022/6/1 ولغاية 2023/5/31، وأنّ المدّعي إستلم إيصالاً بهذه الإيداعات دون إعتراض أو تحفظ، ما يعني أنّه تمّ تسديد بدلات الإيجار المُطالَب بها بموجب الدعوى الحاضرة فلا يجوز المطالبة بها مرّة ثانية. وخلُص طالباً ردّ الدعوى للأسباب المذكورة، وإلزام المدّعي بالتعويض المنصوص عنه في المادّة ١٠ أ.م.م. للتعسف في إستعمال الحق، وبالغرامة المنصوص عليها في المادّة ١١ أ.م.م.، وتدريكه الرسوم والمصاريف.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2023/3/8 تقدّم المدّعيان بلائحة جوابية إولى عرضا فيها منذ توقيع عقد الإيجار كانت بدلات الإيجار تُسدّد عن طرق حوالات مصرفية إلى حسابهما لدى المصرف المدّعى عليهما وكانا يتمكّنان من سحب أموالهما على الكونتوار عداً ونقداً والإستفادة منها، وأنّه بعد الأزمة الاقتصادية إعتبر هذا الأخير البدلات المودعة كأموال مودعين مشمولة بالتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان. وفي باب القانون، أدلى المدّعيان بأنّ عقد الإيجار ينص على تسديد بدلات الإيجار بالدولار الأميركي حصراً وأنّه يعود لمحكمة الإيجارات تفسير وتطبيق عقد الإيجارات، وأنّ يوجد توكيل حسب الأصول بين المدّعي وزوجته المدّعية فيقتضي ردّ طلب المدّعى عليه بهذا الخصوص، وأنّ هذا الأخير أوهمهما بمناوراته الإحتيالية وأرغمهما على توقيع ما يُسمّى “إشعارات بالقيْد والموافقة” كشرط لتحرير حسابهما وإلغاء القيود عنه، وأنه السحوبات الحاصلة منهما بالليرة اللبنانية ناتج عن تعاميم مصرف لبنان ولا علاقة لها ببدلات الإيجار. وخلُص المدّعيان إلى تكرار أقوالهما وطلباتهما السابقة، وأضافا طلب تعيين خبير بعد رفع السرية المصرفية وتكليفه الكشف على حسابهما والتثبت من عدم سحبهما لبدلات الإيجار من الحساب المفتوح لدى المصرف المدّعى عليه.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2023/4/28 تقدّم المدّعى عليه بلائحة جوابية ثانية عرض فيها أنّ المدّعي كان يستفيد فعلياً من بدلات الإيجار المودعة في حسابه من خلال تحريكه لهذا الحساب سحباً دون أي قيْد، وأنّه من غير الصحيح الأخير بأن مجلس الإداره كان يوهمه بإلغاء القيود عن حسابه وتمكينه من سحب بدلات الإيجار بالدولار. وخلُص المدّعى عليه مكرّراً ما أدلى به سابقاً في باب القانون، لا سيّما لجهة عدم إختصاص المحكمة الحاضرة، وكرّر طلباته السابقة كافّة.
وتبيّن أنّه في الجلسة المنعقدة بتاريخ 2023/10/10 إختُتِمت المحاكمة أصولاً.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2023/10/26 تقدّم المصرف المدّعى عليه بطلب فتح محاكمة بسبب تعذّره عن حضور جلسة ختام المحاكمة.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2023/10/31 تقدّم المدّعيان بمذكرة مع إبراز مستندات حاسمة هي عبارة عن كشف حساب مصرفي من تاريخ 2022/1/1 وحتى 2023/10/17 تُفيد إمتناع المصرف المدّعى عليه عن تسديد بدلات الإيجار حتّى عن طريق الحوالات المصرفية الّتي كان يعتمدها سابقاً. وكرّرا مطالبهما السابقة كافّة.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2024/1/30 صدر قرار تمهيدي قضى بوضع المذكرة أعلاه قيْد المناقشة العلنية وإبلاغها من المدّعى عليه أصولاً، كما وتكليف هذا الأخير إيضاح المقصود بـ ” محكمة الأساس” الّتي يعود لها النظر بالدعوى الحاضرة.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2024/2/27 تقدّم المدّعى عليه بلائحة إنفاذ قرار إعدادي خلُص فيها إلى تكرار طلباته السابقة كافّة.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2024/6/6 تقدّم المدّعيان بطلب إضافي بإلزام المصرف المدّعي عليه بدفع مبلغ /٥٢،٩٠٠/د.أ. يُمثّل قيمة البدلات المستحقة بتاريخ 2024/6/1 إضافة إلى البدلات السابقة المُطالَب بها والبالغة /١٤٣،٣١٠/د.أ.
وتبيّن أنّه بتاريخ 2024/7/9 تقدّم المدّعى عليه بلائحة جوابية ثالثة كرّر فيها أقواله وطلباته السابقة كافّة مضيفاً طلب ردّ الطلب الإضافي كونه قد سدّد قيمة البدلات موضوعه قبل إستحقاقها.
وتبيّن أنّه في الجلسة المنعقدة بتاريخ 2025/1/16 ترافع كل من وكيل المدّعيين ووكيل المدّعى عليه، وكرّرا طلباتهما السابقة كافّة، إثر ذلك إختُتِمت المحاكمة أصولاً.
بناءً عليه،
حيثُ إنّ الجهة المدّعية تطلب فسخ عقد الإيجار الموقّع بينها وبين المصرف المدّعى عليه سنداً لنص المادّتيْن ٥٦٨ و٥٩٥ م.ع.، وإلزام هذا الأخير بإخلاء المأجور الكائن في القسم رقم ١٠ من العقار رقم ١٨٣٥/مزرعة يشوع، وبتسديد مبلغ /١٤٣،٣١٠/د.أ. عداً ونقداً بالدولار الأميركي كبدل إيجار مستحق من تاريخ 2020/6/1 ولغاية 2023/6/1 ، ومبلغ /٥٢،٩٠٠/د.أ. يُمثّل قيمة البدلات المستحقة بتاريخ 2024/6/1،
وحيثُ إنّ المدّعى عليه يدفع بعدم إختصاص المحكمة الحاضرة للنظر بالنزاع، إذ إنّه لا يعود لمحكمة الإيجارات صلاحية(البتّ) بطلب تعديل عقد الإيجار الّذي يدخل ضمن صلاحيات محكمة الأساس، وأنّه يقتضي ردّ الدعوى لعدم وجود وكالة من السيّدة ذ. ع. تُجيز للمدّعي تقديم الدعوى الحاضرة بإسمها، ولجهة الأساس، فإنّه أودع في حساب المدّعي جميع البدلات المُطالِب بها وقد إستلم هذا الأخير إيصالاً بهذه الإيداعات دون اعتراض أو تحفظ، فضلاً عن أنّه لا يوجد في عقد الإيجار ما يوجب تسديد بدلات الإيجار عدّاً ونقداً،
وحيثُ بالنسبة للدّفع بعدم الإختصاص، فإنّه سبق للمحكمة أنّ كلّفت المدّعى عليه بموجب قرارها التمهيدي الصادر بتاريخ 2024/1/30 بإيضاح المقصود بـ ” محكمة الأساس” الّتي يعود لها النظر بالدعوى الحاضرة، فتقدّم هذا الأخير بلائحة إنفاذ قرار تمهيدي بتاريخ 2024/2/27 تساءل فيها عن مدى صلاحية قاضي الإيجارات بتعديل عقد الإيجار وإلزام المستأجر بدفع بدلات الإيجار نقداً بالدولار في ظل غياب نص صريح في عقد الإيجار يلزمه بذلك، دون أن يُحدّد من هي “محكمة الأساس” الّتي تعود لها هذه الصلاحية، إلى أن أدلى في مرافعته في جلسة ختام المحاكمة، وبناء لطلب المحكمة، بأنّ المقصود بـ “محكمة الأساس” هي المحكمة التجارية !!!،
وحيثُ خلافاً لِما يُدلي به المدّعى عليه، فإنّ النزاع الراهن يتمحور حول تحديد ما إذا كان تسديد بدلات الإيجار وبالطريقة التي حصل فيها يُعتبر مبرئاً لذمّته منها، أي أنّ النزاع يتعلّق بمدى صحة تنفيذ موجب عقدي ناشئ عن عقد إيجار، وهو موجب دفع البدلات، دون أن يعني ذلك أنّ المحكمة بفصلها بالنزاع المذكور تقوم بتعديل عقد الإيجار، هذا من جهةٍ أولى،
وحيثُ، ومن جهة ثانية، فإنّه يُقصد بـ “محكمة الأساس”، وهو الأمر المعروف من رجال القانون قاطبةً، المحكمة التي تتعرّض لأساس النزاع وتدخل في جميع حيثياته وتفاصيله تمهيداً للبت به، وهو مُصطلح يُستعمل للتمييز بينها وبين قاضي الأمور المستعجلة الّذي يتّخذ التدابير المستعجلة وينظر فقط في حالة التعدّي الواضح على الحقوق والأوضاع المشروعة دون أن يتعرّض لأساس الحق،
وحيثُ إنّ المحكمة الحاضرة، كمحكمة ناظرة في دعاوى الإيجارات والإشغال، هي “محكمة أساس” بالمفهوم القانوني للمصطلح، ويعود لها صلاحية النظر بجميع النزاعات الناشئة عن عقود الإيجار، كما هو حال النزاع الراهن المتعلّق بتحديد مدى صحة إيفاء بدلات الإيجار، بالطريقة التي حصل بها، تمهيداً للبت بطلب فسخ العقد وإخلاء المأجور، الأمر الّذي يقتضي معه ردّ الدّفع بعدم الإختصاص المقدّم من المدّعى عليه لعدم قانونيته وافتقاده إلى أبسط بديهيات القواعد القانونية التي ترعى تحديد الإختصاص والمنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات المدنية،
وحيثُ بالنسبة للدّفع بعدم وجود توكيل من السيّدة ذ. ع. تُجيز للمدّعي تقديم الدعوى الحاضرة بإسمها، فإنّه من الثابت من المستندات المبرزة طي الإستحضار، وجود وكالة منظّمة من هذه الأخيرة إلى المدّعي ز. ي. لدى دائرة الكاتب العدل في جونية ساندرا جوزف ناصيف تحمل الرقم 2023/1901 تاريخ 2023/3/28 ، وأنّ الوكالة المنظّمة من المدّعي المذكور للمحامي ج. ش. لتقديم الدعوى الحاضرة، والتي تحمل الرقم 2021/1236 تاريخ 2021/3/28، قد تمّ تنظيمها بصفته الشخصية وبوكالته عن السيّدة ذ. ع. بالإستناد إلى الوكالة المذكورة أعلاه، فيكون ما يُدلي به المدّعى عليه في هذا الإطار لا يستند إلي أي أساس واقعي، في ظل وجود التوكيليْن المذكوريْن وصحّتهما، فيقتضي ردّه،
وحيثُ بالنسبة لأساس النزاع، فإنّ الجهة المدّعية تطلب فسخ عقد الإيجار الموقّع بينها وبين المدّعي عليه لعدم دفع البدلات وإلزامه بإخلاء المأجور وبتسديد البدلات نقداً، إذ إنّ تسديد البدلات عن طرق حوالات مصرفية إلى حسابها لدى المصرف المدّعى عليه يحرمها من سحبها والإستفادة منها كونها أصبحت كأموال مودعين مشمولة بالتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، في حين أنّ المدّعى عليه يُدلي بأنّه جرت العادة على تسديد البدلات بهذه الطريقة وأنّ المدّعي كان يستلم الإيصال بالدفع ولم يكن يعترض عليه بل كان يوافق على عملية التحويل كما هو واضح من الإيصالات المبرزة،
وحيثُ يتّضح مما تقدّم ومما يُدلي به الفريقيْن، أنّ النزاع يتعلّق بصحة إيفاء المصرف المدّعى عليه، كمستأجر، للبدلات المترتبة بذمّته من خلال تحويل مصرفي يودِع من خلاله البدلات في حساب الجهة المدّعية المفتوح لديه،
وحيثُ من أهم المبادئ والقواعد الّتي يقوم عليها مطلق أي عقد، هو مبدأ إلزامية العقد الّذي كرّسته المادّة ٢٢١ م.ع. بنصّها على أن العقود المنشأة على الوجه القانوني تُلزِم المتعاقدين، مُضيفةً أنّ هذه العقود يجب أن تُفهم وتفسّر وتُنفّذ وفاقاً لحسن النية والإنصاف والعرف،
وحيثُ يُستنتج مما تقدّم أنّ مبدأ حسن النية يحكم العقد في تنفيذه كما في فهم وتفسير ما تضمّنه من إلتزامات ملقاة على عاتق فريقيْه، كما أنّ مبادئ العدل والإنصاف تبقى هي الموجّهة للقاضي في هذا الإطار بحثاً عن الحل القانوني الملائم للنزاع المعروض عليه، بحيثُ يلجأ إلى تفسير مضمون الإلتزامات وتطبيق القاعدة القانونية الملائمة مُعطياً لها البعد العَملي الّذي أراده له المشترع، على أن يأتي تطبيقها متوافقاً مع نية الفريقيْن عند تحديدها لهذا الإلتزام أو ذاك،
وحيثُ إنّ المشرّع قد حرص على تحقيق الغاية المتوخاة من العقد وعلى إحترام المصلحة العامة التي ترعى النظام الاقتصادي العام من خلال سلامة التعاقد بين الأفراد وحسن تنفيذ العقود المبرمة بينهم،
وحيثُ إنّ حسن تنفيذ العقد يتطلب تحقيق الفائدة أو المنفعة التي يجنيها كل من طرفيه منه بإعتباره وسيلة لتبادل المنافع، فإذا إنتفت هذه المنفعة لم يعد له من مبرر، وفي هذه الحالة يعود للقضاء التدخل لإعطاء العقد القوة التنفيذية من خلال تكريس الحقوق المادية النابعة منه، (بهذا المعنى: د. مصطفى العوجي، العقد، منشورات الحلبي، ٢٠٢٢، ص. ٩٦ و١٢٧).
وحيثُ تطبيقاً لمبدأ المنفعة من العقد على النزاع الراهن، فإنّه من غير المنازع فيه أنّ موجب تسديد بدلات الإيجار هو الموجب الأساسي الّذي يقع على المستأجر، إلّا أنّ هذا التسديد يجب أن يتم وفقاً لطريقة تمكّن المالك من الحصول على البدلات والإنتفاع بها، وإلّا لأدى ذلك إلى فقدان العقد للغاية من إبرامه ولوظيفته الاقتصادية، بحيثُ يُصبح بإمكان القضاء التدخل لتكريس هذه المنفعة وتحقيق تلك الوظيفة،
وحيثُ إذا كان لا يجوز للقاضي أن يحكم بناءً على معلوماته الشخصية في الدعوى، سنداً لنص المادْة ١٤١ أ.م.م. إلّا أنّه لا تُعد المعلومات المستقاة من خبرة القاضي في الشؤون العامّة المفروض إلمام الكافّة بها من قبيل المعلومات الشخصية المحظور على القاضي أن يبني حكمه عليها،
وحيثُ إنّه من المعلوم من الكافّة أنّه على أثر الأزمة الاقتصادية التي عصفت في لبنان منذ أواخر العام ٢٠١٩ وحتّى تاريخه، وما رافقها من إنهيار على الصعيديْن المالي والنقدي، أصبح هناك قيود على تحريك الأموال المودعة في الحسابات المصرفية، وليس أدل على ذلك سوى التعاميم المتعاقبة التي كانت تصدر عن المصرف المركزي وتحدّد سقوفاً شهرية معينة للسحب بعملة الدولار وعلى أساس سعر صرف محدّد بالنسبة للسحب بالليرة اللبنانية، ومن بينها على سبيل المثال التعميم رقم ١٥٨ تاريخ 2021/6/8 الّذي يسمح للمودع بأن يسحب مبلغ /٤٠٠/د.أ. شهرياً كحد أقصى، و/٢٠٠/ د.أ.، نقداً بالليرة اللبنانية بحسب سعر صرف بقيمة /١٥،٠٠٠/ ل.ل.، وكذلك التعميم رقم ١٦٦ تاريخ 2024/2/2، وغير ذلك،
وحيثُ بالعودة إلى مبدأ المنفعة من العقد والّتي تتطلّب تنفيذه بحسن نية، فإنّ إيداع المصرف المدّعى عليه للبدلات المستحقة بذمّته في حساب الجهة المدّعية وعدم تمكّن هذه الأخيرة من سحبها من أجل الإستفادة منها بصورة طبيعية ودون أي قيود للأسباب المُشار إليها أعلاه، يُشكّل دليلاً على انتفاء حسن النية لدى المصرف المدّعى عليه في تنفيذ العقد، إذ إنّه من الواضح أنّ هذا الأخير إستفاد من القيود المفروضة على السحوبات المصرفية بهدف منع الجهة المدّعية من الإنتفاع بالبدلات وذلك من خلال إقدامه على إيداعها في حساب الجهة المدّعية الخاضع لتعاميم مصرف لبنان في ما خصّ السحوبات النقدية، وهو ما أدّى إلى نزع المنفعة من العقد التي تتجسد بالحقوق المادّية الناشئة عنه (وهنا بدلات الإيجار) والّتي يعود للقضاء التدخل من أجل تكريسها وحمايتها كما صار بيانه،
وحيثُ لجهة ما يُدلي به المدّعى عليه بأنّ المدّعي كان يستفيد فعلياً من بدلات الإيجار المودعة في حسابه من خلال تحريكه لهذا الحساب، في إشارةٍ إلى موافقته على عملية الإيداع، فإنّ هذا الأمر يصح لو كان الحساب مخصّصاً فقط لإيداع البدلات وقد تم فتحه لهذه الغاية حصراً، ففي هذه الحالة يُعتبر تحريك المدّعي لحسابه من خلال سحبه لقيمة هذه البدلات، ولو ضمن القيود المفروضة، موافقةً منه على طريقة تسديد البدلات بإيداعها في الحساب المصرفي، إلّا أنّه من الثابت من معطيات الملف أنّ حساب الجهة المدّعية مفتوح لدى المصرف المدّعى عليه بتاريخ سابق، وهي تودع فيه أموالاً أخرى غير بدلات الإيجار، ما يعني أن تحريك الحساب وسحب أموال منه، حتّى في حال التسليم بصحّته، لا يمكن إعتباره موافقة على إيداع البدلات طالما أنّه من غير الممكن الجزم بأنّ هذا السحب حصل من البدلات المودعة في الحساب أم من الأموال الموجودة أصلاً فيه،
وحيثُ يقتضي سنداً للتعليل المٍساق أعلاه، إعتبار إيداع المصرف المدّعى عليه لبدلات الإيجار في حساب الجهة المدّعية المفتوح لديه غير مبرئ لذمّته من البدلات المذكورة، وبالتالي فسخ عقد الإيجار الموقّع بينه وبين هذه الأخيرة لعدم تسديد البدلات وإلزامه بإخلاء المأجور الكائن في القسم رقم ١٠ من العقار رقم ١٨٣٥/مزرعة يشوع، وإلزامه بأن يدفع للجهة المدّعية مبلغاً وقدره /١٤٣،٣١٠/د.أ. كبدل إيجار مستحق من تاريخ 2020/6/1 ولغاية 2023/6/1، ومبلغ /٥٢،٩٠٠/د.أ. يُمثّل قيمة البدلات المستحقة بتاريخ 2024/6/1، وذلك نقداً بالدولار الأميركي، وإلّا بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق الموازية، وذلك تحت طائلة غرامة إكراهية وقدرها عشرة ملايين ليرة لبنانية عن كل يوم تأخير في الإخلاء وفي الدّفع سنداً لنص المادّة ٥٦٩ أ.م.م.،
وحيثُ إنّ المدّعى عليه أبدى تعسفاً واضحاً في استعمال حقّ التقاضي من خلال تقديمه دفوعاً تفتقد إلى أي أساس قانوني (كالدفع بعدم الإختصاص)، وعدم تقديمه الإيضاحات اللازمة بالرغم من تكليفه بذلك بموجب قرار إعدادي، ودفوع أخرى تناقض ظاهر المستندات المبرزة في الملف (كالدفع بعدم وجود توكيل من المدّعية إلى المدّعي)، الأمر الذّي يقتضي معه تغريمه بمبلغ مئة مليون ليرة لبنانية، سنداً لنص المادّة ١٠ و١١ أ.م.م. المعدّلتيْن بموجب المرسوم رقم ١٣٩٠٩ تاريخ 2024/9/12 ،
وحيثُ إنّه في ضوء ما جرى بيانه أعلاه، لم يعُد ثمّة داعٍ لبحث سائر الأسباب والمطالب الزائدة أو المخالفة، إمّا لعدم الجدوى وإمّا لأنها لقيت جواباً، ولو ضمنياً، في ما تمّ بحثه، فيقتضي ردّها،
يحكم بـ :
أولاً: ردّ الدّفع بعدم الإختصاص.
ثانياً: ردّ الدّفع بعدم صفة المدّعي لتقديم الدعوى الحاضرة بإسم المدّعية ذ. ع. لعدم وجود توكيل منها.
ثالثاً: فسخ عقد الإيجار الموقّع بين الجهة المدّعية، السيّد ز. ي. والسيّدة ذ. ع.، وبين المدّعى عليه، بنك إنتركانتيننتال ش.م.ل.، لعدم تسديد البدلات أصولاً، وإلزام هذا الأخير بإخلاء المأجور الكائن في القسم رقم ١٠ من العقار رقم ١٨٣٥/مزرعة يشوع، وذلك تحت طائلة غرامة إكراهية وقدرها عشرة ملايين ليرة لبنانية عن كل يوم تأخير في الإخلاء سنداً لنص المادّة ٥٦٩ أ.م.م.
رابعاً: إلزام المصرف المدّعى عليه بأن يدفع للجهة المدّعية مبلغ /١٤٣،٣١٠/د.أ. ماية وثلاثة وأربعون ألفاً وثلاثماية وعشرة دولارات أميركية كبدل إيجار مستحق بذمّته من تاريخ 2020/6/1 ولغاية 2023/6/1، ومبلغ /٥٢،٩٠٠/د.أ. إثنان وخمسون ألفاً وتسعماية دولار أميركي يُمثّل قيمة البدلات المستحقة بتاريخ 2024/6/1، وذلك نقداً بالدولار الأميركي، وإلّا بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق الموازية، وذلك تحت طائلة غرامة إكراهية وقدرها عشرة ملايين ليرة لبنانية عن كل يوم تأخير في الدّفع سنداً لنص المادّة ٥٦٩ أ.م.م.
خامساً: تغريم المصرف المدّعى عليه مبلغ مئة مليون ليرة لبنانية لتعسفه بإستعمال حق التقاضي.
سادساً: ردّ سائر الأسباب والمطالب الزائدة أو المخالفة.
سابعاً: تضمين المصرف المدّعى عليه النفقات كافّة.
حكماً صدر وأُفهِم علناً في جديْدة المتن بتاريخ 2025/3/26.
“محكمة” – الجمعة في 2025/3/28
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك”، و”الواتساب”، و”اكس”، و”الإنستغرام”، و”التلغرام”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!