خاص”محكمة”:الثورة ومصلحة الدولة العليا/عصام اسماعيل
الدكتور عصام نعمة إسماعيل:
إنّ أوّل الدروس في القانون الدستوري، أنّ النصّ الوارد في الدستور لا يمكن قراءته إلاّ من خلال الواقع، إذ إنّ القراءة الحرفية لا تؤدّي إلى عكس الصورة الحقيقية للمجتمع السياسي. وهذا المتغيّر الواقعي هو الذي يؤدّي إلى وجود اختلاف في التفسيرات للنصّ الواحد، بل تلعب الخلفية القانونية أو السياسية دوراً في فهم مبرّرات اعتماد هذا التطبيق أو ذاك للنصّ الدستوري.
وانطلاقاً من هذه المقدّمة، يمكن معرفة الأسباب التي دفعت السلطات الدستورية إلى انتهاج خيارات التهدئة والليونة في التعاطي مع الحراك الشعبي الذي ابتدأ بمطالب إصلاحية محقّة، فخضعت لها السلطات الدستورية وأقرّت بصحّة هذه المطالب واعتذرت من الشعب عن التأخّر في تحقيقها. بل وأعلنت أنّها ستتشارك وتتحاور مع هيئات الحراك حتّى الوصول إلى إدارة مثلى تحقّق مطالب الشعب. إلاّ أنّ هذا الحراك لم يقبل بهذا النصر المتحقّق، ولم يقبل بالاكتفاء بإنجاز كسر حاجز الخوف، وممارسة الدور الفاعل في الرقابة الشعبية المباشرة على السلطات الدستورية والإدارية، ولم يقبل بإنجاز كبير يتمثّل بتجميد أيّ عملية هدر أو فساد، ثمّ السعي نحو الانطلاق إلى مرحلة محاسبة الفاسدين.
لم يقبل الحراك الشعبي بهذه الانجازات، وقرّر تحويل الحراك إلى ثورة سياسية، خرجت عن المطالب المدنية والإصلاحية لتدخل في الإطار المطالبة بتغيير النظام معلناً أنّها ثورة شعبية لن تتوقّف قبل الإطاحة بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، ونقل السلطة من القوى السياسية المسيطرة إلى هيئات جديدة تسمّيها الثورة.
والثورة في السياسة هي حركة مبنية على فكرة ثورية يطرحها فلاسفة الثورة وتكون المنارة التي ترشدهم في حراكهم نحو دفع المجتمع لتطبيق هذا الفكر الفلسفي المنسجم مع واقع المجتمع والمؤتلف معه كالثورة الشيوعية والثورة الفرنسية وغيرها من الثورات. ولا شكّ أنّ الثورة وفق القانون الدستوري هي حالة غير دستورية، بحيث تحظّر كافة الدساتير اعتماد الوسائل غير المنصوص عنها في الدستور لتولّي السلطة. إلاّ أنّ نجاح هذه الثورات هو الذي حوّلها من حالة غير دستورية إلى حالة شرعية تقتبس كافة السلطات وجودها من خلالها ويكون ما عداها خارجاً عن القانون.
إلاّ أنّه وحتّى نجاح الثورة، فإنّ السلطة الدستورية لا يمكنها الوقوف متفرّجة على ثورةٍ (غير مبنية على فكرة واحدة) وترمي إلى اقتلاع القوى السياسية القائمة واستبدالها بسواها، دون تعيين هذا الغير الذي سيتولّى السلطة، ودون وضع المفاهيم التي تتحرّك هذه الثورة على أساسها.
إنّ السلطة السياسية في لبنان تعاملت مع حركة الجماهير بكثير من الليونة والصبر والحكمة الزائدة، وأتاحت لهم فعل ما يريدون وهي واقفة متفرّجة دون أن تتخذّ خطوة لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، وهذا ما لم تفعله الدول التي حصلت فيها تحرّكات مشابهة، فلا فرنسا خضعت للسترات الصفر، ولا البحرين رضخت لمطالب الشعب، ولا إيران قبلت بالثورة الخضراء، ولا فنزويلا تنازلت للانقلاب، …. .
إنّ اختيار سبل التعامل مع الحراك الشعبي لا شكّ متروك للسلطات الدستورية (فخامة الرئيس، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية)، وأنّ فخامة رئيس الجمهورية يتوجّب عليه وفق المادة 49 من الدستور أن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور، ثمّ أقسم اليمين الدستورية على حفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه.
لقد اختار فخامة رئيس الجمهورية أن يحاور قوى الحراك الثوري مباشرة، وسعى إلى التواصل معهم، بعد أن تخلّت الحكومة عن مسؤوليتها الدستورية من خلال التقدّم باستقالتها في ذروة الأزمة، تاركةً ساحة المواجهة لرئيس الجمهورية ومجلس النوّاب الذي أيضاً لم ينعقد استثنائياً لمواجهة الأزمة كما أوجبت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 69 التي نصّت على أن يكون المجلس في دورة انعقاد حكمية حتّى تشكيل حكومة جديدة ونيلها الثقة.
لقد دفع واقع استقالة الحكومة، وعدم انعقاد مجلس النوّاب، إلى أن يتصدّى فخامة رئيس الجمهورية لواجب حفظ الوطن ووحدته وسلامة أراضيه من خلال الإكثار من الإطلالات الإعلامية والاجتماع مع القيادات الأمنية والمالية والاقتصادية ومتابعة الملفّات مع الجهات السياسية.
إنّ الواقع المشار إليه، هو الذي قصدته في المقدّمة من أنّ فهم النصّ الدستوري لا يكون إلاّ من خلال الواقع، بحيث لا نحكم على الأداء إلاّ بعد قراءة الواقع الذي دفع إلى اتخاذ التدبير.
وبحسب هذا الواقع، فإنّ فخامة الرئيس هو اليوم خطّ الدفاع الأوّل عن كلّ المؤسّسات الدستورية والمالية والاقتصادية والمرافق العامة والقوى الأمنية والمقاومة، وإذا حصل بخلال هذا التصدّي المباشر لواجب التعامل مع مقتضيات المرحلة إلى التضحية ببعض النصوص الدستورية فلم يكن ذلك خياراً يلجأ إليه طائعاً، وإنّما أجبر على ذلك تماشياً مع قواعد فلسفة القانون التي توجب التخلّي عن النصّ المكتوب حماية لمصلحة الدولة العليا للدولة وهذا ما تبنّاه المجلس الدستوري اللبناني في أكثر من قرار.
ولهذا السبب كانت كلّ السهام توجّه نحو فخامة الرئيس، وكلّ الحراك الثوري موجّه لإسقاطه، وإذا ما سقط لا أحد يعرف إلى أين سوف تتجه الأمور وكيف سيكون مصير الدولة. وهنا من المناسب تذكير الجهات الإدارية والوزارات المعنية والمؤسّسات والسلطات القضائية والقوى الأمنية، وأهل الفكر والاختصاص وأصحاب العمل، بالشروع فوراً، كلّ في موقعه إلى تنفيذ خطط إنقاذ الوطن، فالاتكالية والاكتفاء بالمراقبة (كأصحاب التلّ) هي عملياً بمثابة مؤازرة لقوى الحراك الثوري في حركتها الانقلابية.
“محكمة” – الأربعاء في 2019/11/13