خمسون عامًا في ممارسة المحاماة.. أحلام وذكريات/مارون حدّاد
المحامي مارون حدّاد:
سعادة النقيب*،
حضرات النقباء السابقين،
حضرات أعضاء مجلس النقابة الحاليين والسابقين،
حضرات الزميلات والزملاء،
ضيوفنا الكرام،
يشرّفني أن أكلّف بإلقاء كلمة باسم زملائي المحتفى بهم وباسمي، بمناسبة تخطّينا الخمسين سنة في ممارسة رسالة المحاماة.
قلت ” تخطّينا الخمسين سنة” لأنّ قسمًا كبييرًا منا(وأنا واحدهم) أتمّ السنة الخمسين في المهنة عام 2020 ولكن حالت ظروف الكورونا دون تكريمه في حينه. ولذلك يكون يوبيله الخمسين عام 2020 وإنّما هو فقط الاحتفال به الذي أرجىء إلى اليوم.
وقلت “رسالة المحاماة” لأنّ المحاماة فعلًا رسالة ينذر المحامي نفسه لها، فتكون هي محور حياته وتفكيره وتعبه، خلال أوقات العمل وخارجها، في مكتبه أو في بيته، وحتّى في أيّام عطلته، فهاجس بعض الملفّات يقضّ مضجعه ويواكبه حيثما ذهب وحلّ.
أمّا التكريم الذي نلقاه اليوم ونشكر نقابتنا عليه جزيل الشكر، فهو تتويج لمسيرة وحياة المحامي المهنية، نتوق كلّنا إليه ونحلم كلّنا به، وكم منا تساءل إذا كان سيصل إليه، ثمّ أصبح، في السنوات الأخيرة قبله، يحاول أن يتصوّر كيف سيكون تكريمه وكيف سيكون هو يومذاك.
وهنا، لا بدّ أن نتذكّر، وبغصّة، زميلًا وصديقًا هو بين الذين كان من المفترض أن يكرّموا عام 2020 وأرجىء التكريم إلى اليوم، عنيت به الأستاذ زياد مصطفى خرما، الذي انتقل إلى دنيا الحقّ منذ أسبوعين.
أخي زياد، يؤلمنا غيابك ولروحك الطيّبة تحيّة منا. ونحن نعتبر أنّك نلت وسام اليوبيل في العام 2020 كما قلنا أعلاه وإنّما الاحتفال بمنحك إيّاه حصل اليوم، بعد وفاتك أيّ، كما يقال بالفرنسية à titre posthume.
وبمناسبة تكريمنا، لا بدّ لنا أن نستذكر بداياتنا بالمهنة ومرحلة التدرّج فنشكر مدرّجينا على كلّ ما قدّموه لنا من علمهم ومعرفتهم وأخلاقياتهم وأصول ولياقات المهنة.
وهنا أذكر وأتذكّر شخصيًا بكثير من الإمتنان والحبّ والتقدير الأساتذة الذين تدرّجت على أيديهم وهم: الأستاذ أمين نهرا الخوري، رحمه الله ، الذي قضيت سنتين كاملتين في مكتبه، تعرّفت خلالهما إلى معظم قصور العدل والمحاكم في لبنان وتمرّست في جميع أنواع الدعاوى على الإطلاق، ممّا سهّل عليّ كثيرًا العمل بعد ذلك، والأستاذ ريمون نقاش – أطال الله بعمره وأعطاه الصحّة والعافية – الذي أمضيت ثلاثة أشهر فقط في مكتبه ولم تقبل النقابة تسجيلي فيه لأنّها كانت بدأت بتنفيذ شرط الغرفة المستقلّة لكلّ محام متدرّج، إنّما أتاح لي المساهمة في مجموعة من الملفّات التجارية والإفلاسية أفادتني كثيرًا في ما بعد، والشيخ بهيج تقي الدين – رحمات الله على روحه – الذي تعلّمت على يده الكثير الكثير وتدرّجت في مكتبه من أواسط 1972 ثمّ انتقلت إلى الجدول العام وبقيت حتّى 1977 وكانت من أجمل مراحل حياتي المهنية.
ونأمل نحن بدورنا أن نكون أعطينا للزملاء الذين درّجناهم بعضًا من هذه القيم والأخلاق والعلم والأصول التي أعطانا إيّاها مدرّجونا.
ثمّ نستذكر السنوات بين انتسابنا إلى النقابة 1970-1971 و 1975 لنقول إنّها كانت سنوات من العصر الذهبي الذي عرفه لبنان والعدل والقانون في لبنان، سنوات ليتها تعود.
عند استذكارنا هذا، غصّة جديدة تكاد تضاهي فرحة التكريم. غصّة لأنّ أصعب ما يمكن أن يعانيه المرء عندما يتقدّم في السنّ، أن ينظر إلى الخلف، إلى شبابه ورفاقه وطموحاته وأحلامه وحتّى واقعه آنذاك، ويقارنها بالواقع الذي يعيشه اليوم ليرى -الشباب قد ولّى، والرفاق تشتّتوا، والأحلام والطموحات تبدّدت،
واسمحوا لي هنا أن أتذكّر – ونحن في مجال التذكّر والوجدانيات- حلمًا راودني عندما كنت أنوي الترشّح إلى مركز نقيب المحامين عام 2001، ثمّ عزفت وآليت على نفسي ألّا أتعاطى أيّ نطاق من نطاقات الشأن العام بعد ذلك، وهكذا فعلت. حلمي يومها كان – نظرًا لرفض الشركات الأجنبية التي تتعامل معها شركاتنا جعل الصلاحية المكانية في العقود للقضاء اللبناني- أن أنشئ في نقابة المحامين في بيروت مركزًا تحكيميًا دوليًا. وكان هذا نموذجًا عن الأحلام التي تبدّدت!
أمّا بالنسبة للمقارنة بين ما كان وما أصبحنا عليه، فحدّث ولا حرج نبدأ بالوضع العام بالبلاد لنقول نحن أمام عملية تدمير ممنهج للوطن ولجميع القطاعات والمؤسّسات فيه، ولا نريد التكهّن حول الأسباب الكامنة وراء هذا التدمير، إستراتيجية دولية كانت أم جيو سياسية محلّية أو إقليمية، إنّما الواقع ظاهر جلي.
فلبنان، الذي كان مصرف الشرق العربي، قطاعه المصرفي في حالة إفلاس ولا يستطيع العودة إلى ممارسة نشاطه المعتاد والطبيعي إلّا بعد إعادة هيكلته كقطاع وهيكلة مصارفه،
ولبنان الذي كان مستشفى الشرق الأوسط، مستشفياته اليوم تقفل أو تهدّد بالإقفال وطواقمها الطبّية والتمريضية تتسابق إلى الهجرة بأعداد رهيبة،
أمّا صيدلياته، التي كان سكّان دول عديدة يطلبون منها أدوية غير متوفّرة في بلادهم، أصبحت اليوم معظم الأحيان شبه فارغة من الأدوية وأصبحنا نستعطي أدوية من الخارج.
ولبنان الذي كان منارة العلم والثقافة في المنطقة، أصبح العلم فيه غالب الأحيان مدمجًا مع شبكة إتصالات مزرية كالتي نعرفها وأصبحنا، يا للعار، نرى على التلفزيون أطفالًا بحدود العشر سنوات من العمر، وهم تلامذة مدارس، يصرّحون علنًا أنّهم لا يعرفون قراءة الأحرف الأبجدية.
أمّا الإدارات الرسمية، فهي إجمالًا تفتح أبوابها يوم الأربعاء فقط من كلّ أسبوع، وإذا قصدها أحدنا طالبًا إفادة، قيل له إمّا أنّ المسؤول عن هذه الإفادة غير موجود، وإمّا إذا كان موجودًا فإنّه يلزمه توقيع مسؤول ثان غير موجود، أما، وهذا أغلب ما يحصل والمؤسف أنّه صحيح، أنّه لا يوجد لديهم كهرباء ولا انترنت ولا ورق لطباعة الإفادة.
سياسيًا، إنتظرنا منذ انفجار المرفأ في 4 آب 2020 وحتّى أيلول 2021 ليمنّوا علينا بحكومة ولمّا تألّفت ما لبثوا أن اختلفوا وتعطّل عقد جلساتها.
يضاف إلى كلّ ذلك، وضع مالي إقتصادي مخيف واستحالة لفئات كبيرة من الشعب في تأمين مأكلها أو حتّى مجرّد كلفة انتقالها إلى عملها،
أمّا المعالجات لهذا الوضع فنذكّر منها، طبعًا على سبيل المثال لا الحصر، أنّ ثمن صفيحة البنزين زاد مئة ألف ليرة في أسبوع فوعدونا بخفضه فجاء هذا التخفيض بخمسة آلاف ليرة.
أمثلة أخرى كثيرة لا مجال لتعدادها لأنّ هكذا تعدادًا يكون إمعانًا في نكء الجراح.
ونصل إلى الوضع القانوني والعدلي.
القوانين والمراسيم تفصّل تفصيلًا بحسب أهواء مفصّلها،
أمّا العدل، الذي دقّت في نعشه، منذ سنوات، مسامير عدّة إنّما مع الإحتفاظ ببعض المظاهر لتغليف الحقيقة ما أمكن، فاليوم زيدت على هذا النعش أسافين ومسامير ولا من يكلّف نفسه حتّى عناء التستّر بشيء من المظاهر.
هذا هو الوضع المخزي الذي وصلنا إليه.
إنّما بالرغم من كلّ ذلك فإنّ هذا القطاع، قطاع العدل والمحاماة في نظري هو الوحيد الذي، بفضل قضاة مشهود لهم بالجرأة والعلم والإستقامة ونقابة محامين قادرة وفاعلة وتسعى جاهدة إلى ذلك ،لا يزال ممكنًا إعادة إحيائه وتقويمه.
ولعلّ أكثر الوسائل نجاعة، بل الوحيدة، تكون في تعاون صادق ومتين بين جناحي العدالة، القضاء والمحاماة في إطار من الإحترام المتبادل دون استعلاء أو استكبار أو استخفاف وقيام كلّ من الجناحين بمحاسبة أيّ من أعضائه يكون مرتكبًا أو مقصّرًا، وتعاون الجناحين بالنسبة لتفعيل أجهزتهما التأديبية، وكلّنا يعلم أنّ ظلم الأوضاع المالية قد يحرف البعض عن الخطّ المستقيم وإذا كان المثل القديم يقول” القلّة تولّد النقار” فالأصح اليوم أن نقول “القلّة تولّد الإنحراف”.
ونصل هنا، إلى صعيد النقابة ووضع المحامي،
بغضّ النظر عمّا سبق وقلناه أعلاه حول تطهير السلك ومحاسبة المرتكبين يجب أيضًا محاولة تأمين بعض متطلّبات المحامين وعائلاتهم.
طبعًا، لسنا – لا سمح الله- في مجال طلب إعطاء معونة أو مساعدة للمحامي بأيّ شكل من الأشكال وهو بالطبع يرفض هذا الأمر إطلاقًا،
إنّما نعرف أنّنا في هذه الأيّام ومع قلّة العمل في المحاكم والدوائر الرسمية، فإنّ المحامي الذي ليس لديه وكالات سنوية أو شهرية، يجد صعوبة كبيرة في تأمين حياته اليومية وحياة عائلته، فعلى الأقلّ الأقلّ، أن نخفّف عنه عبئًا كبيرًا جدًا هو عبء الطبابة والاستشفاء. فإنّه من غير المقبول بأيّ شكل من الأشكال أن يدخل المحامي مختبرًا أو مستشفى، و يبرز بطاقة التأمين النقابية فترفض ويتوجّب عليه دفع الملايين.
هذا أمر لا يجوز ويوم ارتأى البعض نظام الصندوق التعاوني للطبابة والاستشفاء، الأرجح أنّ الأمر كان لتجنيب المحامي هكذا مشاكل لأنّ الهيئة الضامنة، هنا، تكون نقابته وليس شركة تجارية وغريبة لا ترى سوى الربح.
وعليه،
يجب إيجاد حلّ لذلك يؤمّن كلّيًا المحامي وعائلته ومن انتسب إليه ومعه في الصندوق التعاوني أيّ خطر من هذا النوع.
وذلك، اليوم قبل الغد.
وهنا لا بدّ من كلمة ولو وجيزة حول الصندوق التعاوني.
المحامون لم يفهموا حتّى اليوم من كان صاحب الفكرة؟ كيف ترتّبت الخسائر التي منينا بها؟ وهل حقًّا سدّدت أم لا؟!
وهنا نقول، إنّ تحقيقًا جدّيًا في هذه النقاط ، وطالما نحن تكلّمنا عن المحاسبة، لا بدّ أن يكشف إذا كان هناك إرتكابات أو تقصير أو سوء إدارة أو ما إلى ذلك.
وإنّني، أيّها الكرام، إذ آسف أن أكون اضطررت الى إثارة مواضيع شائكة ومزعجة في حفل يفترض أن يكون بهيجًا مفرحًا، إنّما نحن علينا أن نقول الواقع بلا التباس.
ختامًا ومجدّدًا ألف شكر لسعادة النقيب وأعضاء مجلس النقابة على تكريمهم لنا ولحضوركم ومشاركتكم في هذا التكريم.
دمتم،
دامت النقابة ،
وأدام الله لنا لبنان، وطنًا للحقّ والعدالة والحرّية.عاش لبنان.
* ألقيت هذه الكلمة في الإحتفال التكريمي الذي أقامته نقابة المحامين في بيروت لمحامين تجاوزوا الخمسين عامًا في ممارسة المحاماة، وذلك في “بيت المحامي”، قبل ظهر يوم السبت الواقع فيه 30 تشرين الأوّل 2021.
“محكمة” – الإثنين في 2021/11/1