دعوى مسؤوليّة الدولة عن أعمال القضاة العدليين بين النظريّة والتطبيق/غالب غانم
القاضي الدكتور غالب غانم*:
تمهيد:
1- من مشقّات العدالة على المتقاضين أن يُضطرّوا إلى متابعة التشبّث بحقّ يعتبرونه ضائعاً بعد استنفاد طرق المراجعة المألوفة وصدور القرارات المبرمة، ومن مشقّاتها على القضاة أن يُرشقوا بالسّهام وتتعرّض قراراتهم للنقد والطعن ثمّ الإبطال بعدما حسبوا أنّهم قاموا بالواجب وفصلوا في المسائل المعروضة عليهم، في مراحلها الختامية.
2- دعوى مسؤوليّة الدولة عن أعمال القضاة العدليين، أو مداعاة الدولة بشأن المسؤولية النّاجمة عن أعمال القضاة العدليين وفق التسمية المدرجة في قانون أصول المحاكمات المدنية، هي وجه من وجوه هذه المشقّة، بل هذه المرارة المزدوجة. يطرق المتقاضي باباً بعد باب، من الأدنى إلى الأعلى، من مستوى الدرجة الابتدائية إلى مستوى التمييز- في أغلب الحالات- ويصدر القرار المبرم الذي يتبرّم به الطرف الخاسر الباحث عن ملاذ أخير، وعن سبيل يقيه نتائجه، ولا ينعم به الرابح بسبب دعوى المسؤولية عينها وما قد تجرّه من وقفٍ للتنفيذ ومن احتمال إبطال القرار، هذا من جهة الخصوم. أمّا من جهة القضاة –المخاصَمين- فإنّ وقع هذه الدعوى عليهم، من الزاوية المعنوية قبل المادية، سيكون مشوباً بالإستهجان، أو القلق، ونادراً ما يُواجَه بالّلامبالاة.
3- ذكرتُ القضاة المخاصَمين مستعيراً هذا المصطلح من التسمية الرائجة لهذه الدعوى، فمن النّادر أن يقول المحامي لموكّله-لدى نُصحه بوجوب إكمال النّضال في ساحة القضاء، سنلجأ إلى مداعاة الدولة بشأن مسؤوليّتها عن أعمال قضاتها العدليين، فالشائع هو توسّل مصطلح “دعوى مخاصمة القضاة” وعلّة ذلك تعود إلى أسباب ثلاثة نُجملها على الشكل الآتي:
السّبب الأوّل مُتجذّر في التاريخ، الروماني والأوروبي على الأخصّ، حيث كان القضاة يُخاصَمون ويُسألون شخصيّاً عن أخطائهم. إنّ المقام لا يسمح بالتبسّط في هذا الشقّ من المسألة.
والسّبب الثاني هو قانون أصول المحاكمات المدنية القديم الصادر عام 1933 الذي لم يرَ ضيراً في استعمال عبارة “دعوى المخاصمة” في مواد عديدة. تلاه قانون التنظيم القضائي الصادر عام 1961 الذي لم يكتفِ بالكلام على “دعوى المخاصمة” بل لجأ إلى تعبير أشدّ هولاً هو “مخاصمة القضاة” (المادة 86 منه).
والسبب الثالث، الأدهى من سابقيه لأنّه يغرق في التقييم الذاتي ويتجاوز قاعدتي الموضوعية والثقة في النظرة إلى أعمال القضاة، هو ما قد يجيش في صدر المتقاضي من نقمةٍ عارمة وغضبةٍ جارفة قد تكونان الدافع الأصلي إلى طلب السير في هذه الطريق من طرق المداعاة، وتحديداً إلى الرغبة في مخاصمة مصدري القرار إذ لولاهم لما تعرّض حقّه للضياع.
4- إنّ المشترع، في قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد الصادر عام 1983، أعاد تنظيم هذه الدعوى، نازعاً عنها، سواء لجهة تسميتها أم لجهة فريقيها، فكرة المجابهة بين المتقاضين والقضاة. فقد لطّف غلواء الخصام، وصار المتقاضي يوجّه دعواه ضدّ الدولة لا القاضي حتّى ولو عاد للقاضي المنسوب إليه سبب الدعوى التدخّل في المحاكمة (المادة 751)، وحتّى لو كان للدولة الرجوع –إذا شاءت- على القاضي بالتعويض المحكوم للمدّعي به (المادّة 758 أ.م.م.)
هذا مع لفت النظر إلى أنّ المادة 759 أ.م.م. حافظت على مصطلح “المخاصمة” عندما تكون الدولة ذاتها قد خسرت دعواها وقرّرت متابعة الطريق أمام الهيئة العامة، بوجه القضاة مصدري هذا القرار.
لأجل ذلك، يُستحسن أن يُستعمل مصطلح “دعوى مسؤولية الدولة عن أعمال القضاة العدليين”، أو ما يُشابهه من المصطلحات التي تحمي مهابة القضاء. وأن تسقط تالياً عبارة “مخاصمة القضاة” من الثقافة القانونية الشائعة، وتسقط معها مشاعر الغضب والضغينة التي لا تليق بالإستبسال في سبيل مرتجىً سامٍ ومشروع هو استرجاع الحقّ إذا كان في الحقيقة ضائعاً من جرّاء عثرة قلم، أو نزوة نفس، أو استخفافٍ بمهمّة.
5- نختتم التمهيد بالدلالة على المخطّط المرسوم لهذه المحاضرة، وهو يقع في قسمين:
القسم الأوّل: دعوى المسؤولية في النظريّة.
القسم الثاني: دعوى المسؤولية في التطبيق.
القسم الأوّل: دعوى المسؤولية في النظريّة
6- خصّ قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد دعوى المسؤولية بالمواد 741 إلى 761 منه، وختم بها طرق الطعن غير العاديّة بالأحكام، وهي: تباعاً: إعتراض الغير، والنقض أو التمييز، ثم دعوى المسؤولية ذاتها.
إنّ إدراجها في سياق طرق الطعن غير العادية، أي اعتبارها تبعاً لذلك طريقاً من طرق الطعن، لا يخلو من إثارة البلبلة بشأن الغاية منها، وضيق دائرتها، وطابعها الإستثنائي. ومن المتواضع عليه أنّ مراجعة التمييز، كلّما كانت ممكنة، تقع في رأس هرم طرق الطعن، حيث لا تعلوها مراجعة أخرى. والبلبلة عينُها تكمن وراء الإفراط في اللجوء إلى دعوى المسؤولية، جدّية كانت أم مفتقرة إلى الحدّ الأدنى من الجدّية.
وكان أولى، برأينا، ألّا ترد هذه الدعوى في إطار طرق المراجعة، وأن تنضمّ إلى الكتاب الثاني في قانون أصول المحاكمات المدنية المعنون “خصومات وإجراءات متنوّعة” حيث تمّت معالجة التحكيم في باب أوّل، والعرض الفعلي والإيداع في باب ثانٍ، خصوصاً وأنّه ما من رابط يجمع ما بين هذين الموضوعين في كتاب واحد، الأمر الذي يبرّر إضافة باب ثالث يجمعه بهما الإختلاف لا الإئتلاف.
7-وقد يكون من النّافل القول إنّ ما يبرّر وجود هذه المؤسّسة القانونية هو النظريّة العامة للمسؤولية كما يستدلّ من العنوان المعطى لها، وكما يستدلّ أيضاً من السبب الأبعد الذي هو وجوب التعويض على متقاضٍ تبدّد حقّه في حين كان يقتضي أن يتبلور، ويُحمى ويُعلن. والمسؤولية تفرض التعويض على من تسبّب بالضرر.
غير أنّ المشترع آثر أن يرتدّ بالمسؤولية على الدولة التي ترعى سير المرافق العامة جميعاً ومنها المرفق القضائي، تخفيفاً عن كاهل القاضي من نحو، وتأميناً لضمانةٍ أوفى للمتقاضي من نحوٍ مقابل. كلّ ذلك مع تكرار الإشارة إلى أنّه للدولة، إذا شاءت، وإذا حكم بوجهها بالتعويض لصاحب هذه الدعوى، حق الرجوع به على القاضي أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز (المادة 758 أ.م.م.) ويعود لها، إذا كان الحكم المبطل قد نفذ من قبل الخصم الآخر في الدعوى الأصليّة، حق الرجوع عليه أمام الهيئة العامة ذاتها (المادة 758 عينها).
8- نتابع، في القسم الأوّل الراهن، معالجة دعوى المسؤولية في النظريّة والقانون، من الزوايا اللاحقة: الحالات التي تجوز فيها إقامتها، والمرجع الناظر فيها، وصفة مقدّمها، وصفة من يتلقّاها، وطابعها، وآليّة السير بها ونتائجها، وضوابطها المعنويّة. وسيكون الإيجاز سيّد الموقف لأنّنا في مقام محاضرة لا في مقام بحث رحب الآفاق.
9-عن الحالات التي تجيز إقامتها، نذكر أنّها محدّدة في المادة 741 أ.م.م. وهي:
-الإستنكاف عن إحقاق الحق.
-الخداع أو الغشّ.
-الرشوة.
-الخطأ الجسيم الذي يُفترض أن لا يقع فيه قاضٍ يهتمّ بواجباته الإهتمام العادي.
تضاف إليها أيّ حالة أخرى ورد نصّ خاص بشأنها في القانون (المادة 741 أ.م.م.)
ولم يصل إلى عملنا أيّ نصّ قانوني خاص آخر أجاز إقامة هذه الدعوى.
10-يشمل الإستنكاف (Déni de justice) وفق المادة 4 أ.م.م. كل امتناع عن إصدار الحكم بحجّة غموض النصّ أو انتفائه، وكلّ تأخير في إصداره بغير سببٍ مبرّر. ويمتدّ إلى سائر أنواع القرارات النزاعيّة أو الرجائية، ويتخطّى دائرة القضاء المدني ليطال أعمال القضاء الجزائي، لا على صعيد المحاكم وحسب، بل على صعيد النيابة العامة وقضاء التحقيق.
إنّ المادة 742 أ.م.م. مهّدت للدعوى المبنيّة على الإستنكاف بوجوب إنذار القاضي الممتنع مرّتين متواليتين تفصل بينهما فترة سبعة أيّام، حتى إذا لم يستجب بعد انقضاء عشرة أيّام على الإنذار الثاني تصبح المداعاة مقبولة.
نلفت النظر إلى أنّه، بالرغم من وضع هذه الآليّة لمصلحة القاضي (حتى لا تساق الدعوى ضدّه من دون تنبيهه) ولمصلحة المتقاضي (حتى يتأكّد من أنّ الإمتناع مجرّد عن السبب المشروع)، فإنّها تعيد إلى الذهن شبح المخاصمة الحقيقيّة، فضلاً عن أنّها قد تزعزع فضيلة الحياد والتجرّد لدى قاضٍ سيُصدر قراراه انصياعاً لإنذارين تلقاهما من أحد الفرقاء.
ونظراً لأعداد الدعاوى التي يتأخر إصدار القرار فيها سواء بسبب الأوضاع أو التراكم او النقص في المِلاك القضائي أو التقاعس في بعض الأحيان، فإنّ قصور العدل ستحفل بآلاف الإنذارات المثنّاة التي قد يكون القليل منها محقّا والكثير مجحفاً فيما لو أُطلقت هذه الآليّة المعقدة.
والبديل، برأينا، هو إحكام المراقبة على عمل القاضي من قبل الأجهزة المسؤولة (التفتيش القضائي مثلاً…) فضلاً عن مراقبة الذات للذات (القاضي لنفسه) وهي أنجعُ ألوان المراقبة.
11-لا شك في أنّ الحالة الثانية من حالات مداعاة الدولة (الخداع أو الغش) هي صادمة، إذ يصعب تصوّر صدور مثل هذه النقيصة عن القاضي. ولكنّها، للأسف، قد تصدر عنه (مثال ذلك: إخفاء ورقة منتجة مضمومة إلى الملف، أونسبة أقوال غير مدوّنة إلى الشهود أو إلى الفرقاء المستجوبين، أو اللجوء إلى مناورات مُضلّلة تجافي الحقائق الثابتة بهدف قلب كفّتي الميزان ليغدو الخاسر رابحاً والرابح خاسراً…)
يقتضي التنبّه إلى أنّ هذه الحالة تختلف عن السبب التمييزي المتمثّل بتشويه مضمون المستندات عن طريق ذكر وقائع خلافاً لما وردت عليه فيها أو بمناقضة المعنى الواضح والصريح لمضمونها. ففي حالة الغش إخفاءٌ مقصود للورقة أو اختلاقٌ للأقوال، وفي التشويه تحميل الوقائع خلاف ما يقتضي أن تحمله.
12-أمّا الرشوة فهي علّة العلل. وهي، في حال ثبوتها، تبرّر قيام دعوى المسؤولية، وتستتبع ملاحقات جزائية أو تأديبيّة.
13-والخطأ الجسيم، لا الطفيف، ولا المتوسّط أو العادي، هو ذلك الذي لا يمكن أن يصدر عن قاضٍ يتّصف بصفة “ربّ العائلة الصالح (Le bon père de famille) الذي يؤاخذ إذا أساء إدارة مهمّاته والقيام بواجباته البديهيّة التي تحمي عائلته، وتحمي، قياساً، عائلة الحق.
ولنا عودة إلى بعض أوجه الخطأ الجسيم في القسم الثاني التطبيقي.
14-وعن المرجع النّاظر فيها، من الجليّ أنّه الهيئة العامة لمحكمة التمييز (المادة 743 أ.م.م.)
إنّ هذا السلطان المحصور بالهيئة العامة، أي بأرفع مرجع قضائي عدلي ينعقد برئاسة الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز وعضويّة رؤساء الغرف التمييزية، يدلّ على خطورة دعوى المسؤولية. وإيلاء هذا السلطان للهيئة العامة هو أمر طبيعي لأنّ غالبيّة دعاوى المسؤولية تدور حول الطعن بقرارات غرف محكمة التمييز المبرمة، فلم يعد ممكناً أن تنظر غرفة قضائية، مهما علا شأنها، في تلك القرارات.
15- وعن صفة مقدّمها أو صاحبها، نوضح أنّه الطرف الشاكي من الإستنكاف عن إحقاق الحقّ، مدّعياً كان أم مدّعى عليه في الدعوى الأصليّة، أو مستدعياً في المسائل الرجائية، أو شاكياً في الحقل الجزائي. وهو الطرف الخاسر في حالات الخداع والرشوة والخطأ الجسيم.
ولا صفة للنيابة العامّة لإقامتها. ولكنّها تبدي رأيها في الدعوى بوصفها فريقاً منضماً طبقاً للمادة 478 أصول محاكمات مدنية.
16- وبشأن صفة المدّعى عليه فيها، فهي تقام بمواجهة الدولة (المادة 745 أ.م.م.)، ويكون للقاضي المنسوب إليه سبب الدعوى التدخل فيها في أيّ وقت، كما يكون للهيئة العامة تقرير إدخاله بناء على طلب الدولة (المادة 751).
ولدى صدور القرار عن هيئة قضائية (غرفة ابتدائية أو استئنافية أو تمييزية) يكون قضاة الهيئة جميعاً مشمولين بالدعوى، إلّا إذا كان العمل صادراً عن أحد الأعضاء (كالغش أو الرشوة مثلاً).
ولا تصحّ إقامة الدعوى، كما يفهم من عنوانها المدرج في قانون أصول المحاكمات المدنية، إلّا استناداً إلى أعمال القضاة العدليين. ولكنّها لا تطال قضاة الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي لا تقبل جميع قراراتها أي طريق من طرق الطعن بما فيها مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة، وذلك بصراحة نصّ المادة 738 أ.م.م. أصول محاكمات مدنية. ولا تطال قضاة المجلس العدلي وقضاة المحكمة العسكرية بمن فيهم العدليّون، وقضاة المجلس الدستوري، والمحكمين.
ومن المفارقات أنّه لا يصحّ إقامة هذه الدعوى بوجه القضاة الإداريين إذ لا نصّ في نظام مجلس شورى الدولة يجيز ذلك، وليس مؤاتياً الإنطلاق من نصوص هذا النظام التي تدعو إلى الإستئناس بقانون أصول المحاكمات المدنية لدى غياب النصّ، أو الإنطلاق من المادة 6 من قانون أصول المحاكمات ذاته التي تنصّ على أنّه تتّبع القواعد العامة في قانون أصول المحاكمات المدنية إذا وجد نقص في القوانين والقواعد الإجرائية الأخرى… لا يصحّ هذا الأمر لأنّه لا يجوز الإستئناس أو القياس لإقامة دعوى ذات طابع استثنائي، ولأنّ الإشارة الواردة في المادة 6 أ.م.م. تتعلّق بالقواعد الإجرائية لا بدعاوى المسؤولية. ولا بدّ، بالنتيجة، من تصحيح هذا الخلل عن طريق تعديل تشريعي لأنّ القضاة متساوون في الضمانات الدستورية والقانونية، ويقتضي أن يكونوا متساوين في المسؤوليات. ولا يخلو هذا الإقتراح من العقبات خصوصاً وأنّ الدولة هي الخصم في غالبيّة المراجعات المقدمة أمام القضاء الإداري.
17-أمّا لجهة طبيعتها، فإنّ هذه الدعوى هي مدنية لأنّها مبنية على أعمال أو أخطاء ترتّب المسؤولية المدنية بشرط حصول الضرر، ولأنّها، على الأخصّ، تقام بوجه الدولة.
من هنا وجوب استبعاد الطبيعة الجزائية عنها بالرغم من أنّ الرشوة هي واحد من الأسباب التي تتيح السير بها. ويبقى أنّه لا مانع من السير بالملاحقة الجزائية في حالة الرشوة، إلى جانب دعوى المسؤولية.
ومن هنا كذلك وجوب استبعاد الطبيعة التأديبية، مع الإشارة إلى أنّ الأحكام الصادرة في هذه الدعوى تبلّغ إلى مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي (المادة 760) تمهيداً لإطلاق آليّة التدابير التأديبيّة، لدى الضرورة.
18-ولأنّ آليّة السير بهذه الدعوى محدّدة بدقة في القانون، نكتفي بالإشارة إلى أنّها تقام بموجب استحضار موقّع من محام مفوّض بإقامتها، في مهلة شهرين من تاريخ الحكم أو توافر شروط الإستنكاف عن إحقاق الحق أو العلم بالغش أو الرشوة.
ومن نتائج هذه الدعوى أنها تقبل أو ترفض في مرحلتها الأولى من زاوية الجدّية، وإذا قبلت يتمّ السير بالمحاكمة أمام الهيئة العامة، وإذا حكم بصحتها يحكم للمدّعي بالتعويض، وتحال القضيّة إلى مرجع آخر في حالة الإستنكاف، ويبطل الحكم في الحالات الثلاث الأخرى، فتعود القضية إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الحكم وتحال إلى مرجع آخر موازٍ…
وهي لا توقف التنفيذ إلّا إذا ارتأت الهيئة العامة اتخاذ هذا التدبير. وهي تتخذه عندما يتبدّى لها أنّ طابع الجدّية يغلب على الدعوى.
19-ولهذه الدعوى ضوابط معنويّة لأنّ غايتها ليست التشهير، ولأجل ذلك، تجري المحاكمة بسريّة بعد قبول الدعوى للجدية في المرحلة الأولى. ولا يجوز أن يشتمل الإستحضار على عبارات مهينة لا يبرّرها حق الدفاع وإلّا استهدف موقّعه لدفع غرامة. ولا يحول هذا التدبير دون الملاحقة التأديبية أو الجزائية في حال توافر شروطهما.
ومن وجوه الضوابط المعنوية، وضوابط اللّياقة، أنّ المدعي قد لا يجد محامياً وكيلاً يتقدّم بمثل هذه الدعوى حرصاً على علاقته بأعضاء الجسم القضائي. لذلك، تنبّه المشترع إلى هذا الاحتمال، ونصّ في المادة 746 أصول محاكمات مدنية على الآتي:
“على أنّه إذا لم يتمكّن صاحب العلاقة من توكيل محام ورفض نقيب المحامين تكليف محام لإقامة الدعوى بالاستناد إلى قانون المحاماة جاز لصاحب العلاقة بعد إثبات هذا الرفض توقيع الإستحضار بنفسه”.
وبالرغم من حرصنا الشخصي على وجوب حفظ كرامة القضاة واجتناب تعكير صفاء ذهنهم، فإنّ رأينا هو أنّه لا يجوز ترك صاحب هذه الدعوى في مهبّ الريح إذا تلمّس المحامي المزمَع أن يتوكّل عنه أنّ معالم الجدّية تطغى على معالم النقمة والتشفّي.
القسم الثاني: دعوى المسؤولية في التطبيق
20-نرى مستحسناً، على سبيل التبسيط، التصدّي لهذا القسم في فرعين:
في الفرع الأوّل، نبدي ملاحظات عامة بعضها وثيق الصلة بالتجربة الشخصية.
وفي الفرع الثاني، نتوقّف أمام بعض الأمثلة التطبيقيّة المختارة من قرارات الهيئة العامة لمحكمة التمييز، الصادرة ما بين العام 1987 والعام 2010، باعتبار أنّها منشورة في مرجع واحد هو صادر في التمييز قرارات الهيئة العامة.
الفرع الأوّل: ملاحظات عامة
1-لا يغيبَنَّ عن البال أنّ الغاية البعيدة الدافعة إلى إنشاء هذه المؤسسة القانونية (أي دعوى المسؤولية) هي رفع الظّلم اللاحق بصاحب الدعوى والتعويض عن هدر حقوقه النّاطقة، لأنّ خسارته الدعوى الأصليّة، أو امتناع الجهة القضائية عن اتخاذ قرار حين يكون القرار واجباً، يعبثان بالحقّ، ويعارضان مبدأ العدالة وقواعد الدعوى العادلة. ورفع الظلم لا يعني التظلّم من القضاة بأشخاصهم بل استدراك الحيف اللّاحق بالمتضرّر والتعويض عليه من قبل الدولة المسؤولة عن سير المرفق القضائي.
ولدى شعور الهيئة العامة لمحكمة التمييز بفداحة الظّلم عليها أن تشقّ الطريق إلى قبول الدعوى، بدون تردّد، في إطار الأصول المرعيّة في القانون.
2-إنّ دعوى المسؤولية ليست دعوى تمييزية أو تسلسلية رغم إقامتها أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز.
وعليه، يقتضي ألّا يتمّ الخلط ما بين الأسباب الخاصّة بهذه الدعوى وبين أسباب التمييز المنصوص عليها في المادة 708 أصول محاكمات مدنية. هذا وإنّ أسباب التمييز تنبع من مخالفات وأخطاء قانونية، أمّا أسباب دعوى المسؤولية فتنبع من مخالفات وأعمال شخصيّة.
3-إنّ وقف تنفيذ القرار المشكو منه قد يشكّل قرينة على قبول الدعوى من حيث المبدأ. وقرار قبول الدعوى في مرحلتها الأولى، نظراً لجدّيتها، قد يشكّل قرينة على صحّتها. ولكنّ الهيئة العامة غير ملزمة بالتقيّد بهذين القرارين، حتى إذا خالفتهما وردّت الدعوى يقتضي أن تكون هذه المخالفة مبرّرة بأقصى درجات التبرير.
4-مع التسليم بأنّه قد تختلف السياسة العامة القضائية بين هيئة عامة وهيئة عامة أخرى لمحكمة التمييز بشأن ممارسة الصلاحيات المحدّدة في القانون، ومن بينها صلاحية النظر في دعوى المسؤولية، فليس مستساغاً أن تذهب أيّ هيئة إلى حدّ ردّ كلّ دعاوى المسؤولية مراعاة للقضاة، أو أن تذهب هيئة أخرى إلى مخالفة ما بادرت اليه هيئة سابقة لا لشيء إلّا لاختلاف سياستهما القضائية العامة.
إنّنا، مع الهيئة العامة لمحكمة التمييز، في أرفع تشكيلة من تشكيلات القضاء، بل من تشكيلات العدالة. وإن المطلوب هو قرارات على هذا المستوى الأرفع.
5-من المعروف أنّ حظوظ هذه الدعوى بالنجاح قليلة، ولكنّها ليست منعدمة. ومن الأفضل اجتناب الكلام على نسبة محدّدة للنجاح. فالعبرة هي للجديّة ولتتبع الحق حتى ولو كان في كهوف السائل أو في مفازاتها.
الفرع الثاني: أمثلة تطبيقية مختارة
رأت الهيئة العامة أنّ دعوى المسؤولية ليست واحدة من طرق المراجعة غير العادية حتى ولو أدرجها المشترع مع هذه الطرق (القرار رقم 13 تاريخ 1987/12/15 صادر في التمييز، قرارات الهيئة العامة 1983-1992، ص 60).
-وردّت الهيئة العامة دعوى المسؤولية لأنّ المدّعي ترك مهلة التمييز تنقضي من دون الطعن بالقرار الإستئنافي الذي صار مبرماً نتيجة إهماله. واعتبرت في القرار ذاته أنّ الدعوى خاضعة لأصول خاصّة صارمة لئلا تُستعمل انتقاماً أو تطويلاً (القرار رقم 14 تاريخ 1987/12/22، المرجع ذاته، ص 63).
-واعتبرت أنّه ليس ثمّة أسباباً جدّية تستدعي قبول الدعوى لأنّ ما تمّت الشكوى منه هو تقدير وقائع لم يُشْبهُ “سوء النيّة أو الإهمال المفرط أو الجهل الواضح.” (القرار رقم 1 تاريخ 1991/9/3، المرجع ذاته، ص 125).
وهذا يعني أنّ العيوب الثلاثة الأخيرة هي من أوجه الخطأ الجسيم. والملاحظ، في غالبيّة القرارات، أنّ الهيئة كانت تعرّف الخطأ الجسيم على أنّه الإهمال المفرط أو الجهل المطبق للقانون.
-وورد في أحد قراراتها أنّه “إذا أهمل القاضي تقصّي القاعدة القانونية أو تجاهلها أو طبّقها خلافاً لما تتضمّنه في صراحتها غير القابلة للتأويل… أو أصدر حكمه بصورة كيفية أو اعتباطية أو تحكمية يكون قد ارتكب خطأ جسيماً (القرار رقم 14 تاريخ 1992/12/29 ، المرجع ذاته، ص 156).
-وأوضحت في قرار آخر أنّ نظرها في الدعوى ينحصر في أعمال القاضي لا في قراراته (القرار رقم 16 تاريخ 1992/12/30، المرجع ذاته، ص173).
-وبيّنت أنّ الدعوى لا تتسع لتشمل أي خطأ ارتكبه القاضي عبر ممارسة تدابير الإدارة القضائية (صادر في التمييز، قرارات الهيئة العامة 1993، ص 35).
-وأثبتت أنّ القاضي “لا يعتبر مهملاً لواجباته العادية بمجرّد أنّه انتهى إلى نتيجة لا يقرّه عليها آخرون من القضاة أو رجال الفقه (المرجع ذاته، القرار رقم 9 تاريخ 1993/3/4).
-وجاء في العديد من قرارات الهيئة العامة أنّ دعوى المسؤولية هي “استثنائية جدّاً” (مثلاً القرار رقم 16 تاريخ 1993/4/8، المرجع ذاته، ص66).
-وفي قرار آخر أنّ الأعمال والتصرّفات الصادرة عن القاضي المشكو منه “بقصد التضليل وتشويه الحقيقة وتعمّد خدمة مصلحة خصم غير محقّ على حساب خصم آخر محق بدافع كره أو تشفٍّ لهذا، أو بعامل التصحّب أو المصلحة الشخصيّة لذاك … تعكس ارتكاب القاضي الخداع والغش(القرار رقم 28 تاريخ 1993/5/25، المرجع ذاته، ص99).
-وأكّدت على خصوصيّة القضاء العسكري وعلى أنّ القضاة العدليين المفصولين إليه لا يخضعون لهذه الدعوى (القرار رقم 5 تاريخ 1994/2/4، صادر في التمييز، قرارات الهيئة العامة 1994-1995، ص 23).
كما أكّدت أنّ المداعاة المعنيّة لا تشمل القضاء الإداري ولا لجان التخمين حتى ولو ترأسها قضاة عدليون (القرار رقم 6 تاريخ 1994/2/24، المرجع ذاته، ص 24)، ولا لجان الإستملاك (القرار رقم 12 تاريخ 1999/2/17 صادر في التمييز قرارات الهيئة العامة 1999-2001، ص 23).
-ولم تر أنّ الجدّية متوافرة في دعوى متعلّقة بقرار شفهي صادر عن أحد أعضاء النيابة العامة، مدوّن على محضر قوى الأمن، أمر بإعادة الوضع إلى ما كان عليه بعدما استوفى أحدهم حقّه بالقوّة (القرار رقم 24 تاريخ 1994/5/5، المرجع ذاته ص 63).
-وردّت دعوى موجّهة ضدّ القضاة شخصيّاً لا ضدّ الدولة (القرار رقم 30 تاريخ 1994/5/19، المرجع ذاته، ص 73).
-واعتبرت أنّ تقديرها للجدّية يعود إلى سلطانها المطلق ولا يستوجب تعليلاً يثبت وجود الخطأ الجسيم (القرار رقم 12 تاريخ 1995/7/20، المرجع ذاته، ص 142). ويقتضي، كما ذكرنا سابقاً، أن يستبعد هذا المصطلح نهائياً.
-ولكنّها، في بعض القرارات، ظلّت تعتبر أنّها تنظر في “دعوى المسؤولية أو المخاصمة” (القرار رقم 13/ تاريخ 1995/7/25، المرجع ذاته، ص 147).
-وشدّدت على أنّ عدم ثبوت الضرر من جرّاء الحكم التمييزي يؤدّي إلى عدم قبول الدعوى “بمعزل عن صوابيّة القرار التمييزي في معالجة طلب النقض” (القرار رقم 16 تاريخ 1995/8/3، المرجع ذاته، ص 155).
-ورأت أنّه لا يجوز طلب ردّ أعضائها حتّى ولو شارك بعضهم في إصدار قرار صادر عن المجلس العدلي، لعدم وجود هيئة بديلة، ولأنّ “حرمة القضاء لا تسمح بأن يكون حياد أعلى هيئة قضائية موضوع شك وريبة.”
كما اعتبرت في القرار ذاته أنّها غير صالحة للنظر في دعوى المسؤولية المسندة إلى قرارات المجلس العدلي لعدم وجود هيئة بديلة عنه، ولغياب النص الذي يجيز ذلك (القرار رقم 23 تاريخ 1995/1/18، المرجع ذاته، ص 173).
واستمرّت على الموقف ذاته المتعلّق بعدم جواز ردّ أعضائها حتى ولو بقي نصاب انعقادها متوافراً في حال قبول ردّه (خمسة أعضاء كحدّ أدنى كما هو وارد في المادة 30 من قانون القضاء العدلي) القرار رقم 28 تاريخ 1995/2/8، المرجع ذاته، ص 195).
-ولم تقبل دعوى مسندة إلى أنّ المحقّق العدلي لم يتنحّ تلقائياً بعد أن أبدى رأياً في القضيّة (القرار رقم 12 تاريخ 1996/5/9، صادر في التمييز، قرارات الهيئة العامة، 1996-1997، ص20).
-وشدّدت على أنّه لا يجوز التوسّع في مفهوم الخطأ الجسيم (القرار رقم 4 تاريخ 1999/1/22 صادر في التمييز، قرارات الهيئة العامة، 1999-2001، ص 15). وذلك عائدٌ، بدون شك، إلى استثنائية هذه الدعوى.
-وفي قرار آخر اعتبرت أنّ عدم إبلاغ الموعد الثاني للحكم المؤجّل، المشار إليه في المادة 498 أ.م.م.، لا ينطبق على الخطأ الجسيم لأنّه لم يلحق ضرراً بمقدّم دعوى المسؤولية (القرار رقم 19، تاريخ 1999/3/10، المرجع ذاته، ص 47).
-وردّت الدعوى المقامة من النيابة العامة التمييزية (القرار رقم 1 تاريخ 2000/1/14، المرجع ذاته، ص 87).
-وردّت بعض الدعاوى المبنية على أخطاء مادية غير منتجة (القرار رقم 3 تاريخ 2001/2/22، المرجع ذاته، ص 156).
-ورأت أنّ الخطأ الجسيم يتحقّق عند الحكم بجرم من غير الإدّعاء به، وعند الإستناد إلى ملف دون ضمّه إلى الدعوى (صادر في التمييز، قرارات الهيئة العامة 2002-2004، ص 10).
-وقالت إنّ الدعوى جدّية استناداً إلى إهمال الهيئة المشكو من قرارها البت بقسم رئيسي من الدعوى الأساسية (القرار رقم 1 تاريخ 2003/5/22، المرجع ذاته، ص 65).
-وقرّرت وجود الخطأ الجسيم عند ردّ الإستدعاء التمييزي لعدم دفع الرسم ضمن المهلة القانونية في حين أنّ صاحب العلاقة استحصل على قطع حوالة بقيمة الرسم ضمن هذه المهلة (القرار رقم 40 تاريخ 2004/12/1، المرجع ذاته، ص 148).
-وقرّرت أنّ تشويه الوقائع يدخل ضمن الأسباب التمييزية لا ضمن مفهوم الخطأ الجسيم (القرار 8 تاريخ 2010/2/1، صادر في التمييز، قرارات الهيئة العامة 2008-2010، ص 235).
-وقرّرت أيضاً أنّ قاضي الأمور المستعجلة ارتكب خطأً جسيماً عندما أسند حكمه إلى جزء من نصّ قانوني وأهمل الجزء الآخر (القرار رقم 9 تاريخ 2010/11/1، المرجع ذاته، ص 242).
هذا مع الملاحظة أنّ قرار قاضي الأمور المستعجلة المشكو منه أمامها لم يكن قابلاً، وفقَ موضوعه، لأيّ طريق من طرق المراجعة.
وأنّ تفسير نصوص قانونية يحتمل تفسيرها أكثر من معنى لا يدخل في مفهوم الخطأ الجسيم (القرار رقم 20 تاريخ 2010/3/8 ، المرجع ذاته، ص 272).
هذه هي، في نهاية المطاف، بعض قرارات الهيئة العامة لمحكمة التمييز في دعوى غالباً ما سمّتها الهيئة “استثنائية جدّاً”. ولكنّنا نرى أنّها “ضرورية جدّاً”، لأنّ حماية الحق أَولى من كلّ حماية.
* القاضي غالب غانم الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز شرفًا، ورئيس سابق لمجلس القضاء الأعلى. وألقى هذه المحاضرة في “بيت المحامي” بدعوة من نقابة المحامين في بيروت ورئيس محاضرات التدرّج المحامي الدكتور اسكندر نجار ضمن محاضرات التدرّج، وذلك يوم الخميس الواقع فيه 24 آذار 2022. وقد خصّ القاضي غانم “محكمة” لنشرها تعميمًا للفائدة.
“محكمة” – الأربعاء في 2022/3/30
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.