رأي قانوني في حكم المحكمة الخاصة بلبنان/سلام عبد الصمد
إعداد المحامي الدكتور سلام عبد الصمد:
الموقف القانوني من المحاكمة الغيابية:
المبدأ أنَّ المحاكمات أمام المحاكم الجنائية الدولية لا تتمّ غيابياً، بل فقط بحضور المتهم بالذات، باستثناء المحكمتين العسكريتين الدوليتين لنورمبورغ وطوكيو والمحكمة الخاصة بلبنان. لأنّه من المعلوم أنّ الأنظمة الانغلوساكسونية التي تتبعها المحاكم الدولية لا تعتمد نظام المحاكمات الغيابية. ولكن تمّ استثناء هذه المحاكم الثلاث من المبدأ العام، وقبول اعتمادها لنظام المحاكمة الغيابية.
إنّما ما يعنينا في هذا السياق، أنّ المحكمة الخاصة بلبنان تتبع نظام المحاكمة الغيابي، وذلك لتأثّرها بالقانون الجزائي اللبناني الذي يتّبع النظام المدني المكتوب. إذ عند وضع مسودّة نظام هذه المحكمة، كان لا بدّ من اتباع نظام المحاكمات الغيابية نظراً لكون المتهمين غائبين.
الموقف القانوني من أنظمة الإجراءات الجزائية (النظامين التحقيقي والوجاهي):
إنَّ الإجراءات الجزائية الدولية ترتبط بأحد النظامين، الوجاهي أو التحقيقي:
• في النظام الوجاهي، تكون الدعوى ملكاً للفريقين أيّ الادعاء والدفاع، فيتوليان بنفسيهما إجراء التحقيقات بمعزل عن أيّة رقابة أو إشراف قضائي مسبق.
كثيراً ما يعتمد هذا النظام على هيئة للمحلّفين، تتولّى التثبُّت من الوقائع تحت إشراف قاضٍ يفصل بالمسائل القانونية. ولكن بالرغم من عدم وجود هيئة للمحلّفين في المحاكم الدولية، فإنَّ النظام الوجاهي يبدو بشكل عام هو المطبّق.
يتميّز هذا النظام بكون المدعي العام، وهو ليس بقاض بل مستقلّ بشكل كامل عن المحكمة، هو الذي يتولّى التحقيق وتوجيه التهم. وليس له أن يكشف للدفاع عن أدلته إلاّ بعد صدور قرار الاتهام. وبشكلٍ عام، يستبعد النظام الوجاهي الأدلّة الخطّية ويُركّز على الأدلّة الشفهية والشهادة.
يتولّى الدفاع في النظام الوجاهي أيضاً وبصورةٍ مستقلّةٍ البحث عن الأدلّة التي يراها مناسبة. إنّ المدّعي العام في هذا النظام يُحرّك الدعوى العامة مباشرةً أمام المحكمة، إلاّ في حالات وجود قاض للإجراءات التمهيدية، وذلك دون المرور بقاضٍ للتحقيق والذي لا وجود له في النظام المذكور. ولا تتمّ المحاكمة إلاّ بمثول المتهم بالذات أمام المحكمة، فيتولّى الفريقان لوحدهما استجوابه، كما واستجواب الشهود والبحث عن الأدلّة دون تدخّلٍ من قضاتها.
• أمّا بالنسبة إلى النظام التحقيقي، فيتولّى المدعي العام ومن يعاونه من محامين عامين، وجميعهم قضاة ينتمون إلى السلك القضائي، التحقيق واستقصاء الأدلّة وتحريك الدعوى العامة دونما الحقّ بعرضها مباشرة على المحكمة، باستثناء المخالفات والجنح البسيطة التي لا تحتاج إلى تحقيق معمّق. يتوجّب على المدّعي العام عرض التحقيق الذي أجراه على قاضٍ يُعرف بـ “قاض التحقيق”. وهذا الأخير غير مقيّدٍ بالأدلّة المقدّمة من المدّعي العام، وهو يعمل بشكلٍ سرّي غير وجاهي، باستثناء حالة استجواب المتهم الذي يتمُّ بحضور الفريقين. يجري قاضي التحقيق بدوره التحقيقات بما في ذلك استجواب المتهم والمدّعي الشخصي وسماع الشهود، ليكوّن قناعة بشأن الأدلّة التي استحصل عليها. وعلى ضوء ذلك، يُحيل المدّعى عليه أمام قضاء الحكم، إذا توافرت لديه أدلّة مؤيّدة للإدعاء. وإلاّ يُقرّر منع المحاكمة في الحالة المعاكسة لعدم كفاية الدليل أو لعدم توفّر عناصر الجرم، فيُوقف سير الدعوى العامة أيّاً كان موقف المدعي العام ومطالبه.
لا يوجد في النظام التحقيقي هيئة عامة للمحلّفين، باستثناء محكمة الجنايات في فرنسا، بل يتولّى الفصل في الدعوى قاضٍ يتناول جميع المسائل الواقعية والقانونية. ويعود لقاضي الحكم أو للقضاة المؤلّفة منهم هيئة المحكمة توجيه الأسئلة للمدعى عليه، واستجواب المدّعي الشّخصي والشهود خلافاً للنظام الوجاهي، حيث إنّ هذا الأمر يعود فقط للفريقين فيها. إنَّ مثول المتهم بالذات في النظام التحقيقي هو واجب من حيث المبدأ، باستثناء حالة المحاكمة الغيابية المعتمدة أحياناً في هذا النظام، عندما يمنع المتهم إرادياً عن المثول أو عند تواريه، وهذا الأمر الأخير لا يعرفه النظام الوجاهي.
وبناءً على هذه المقارنة العلمية والقضائية الموجزة، نستنتج أنَّ النظام المطبّق في المحكمة الخاصة في لبنان هو النظام الوجاهي رغم اعتماد هذه المحكمة كما قلنا في النقطة الأولى، المحاكمة الغيابية.
1- الموقف القانوني من التحقيق:
إنَّ المحاكم الدولية (باستثناء الغرف الإستثنائية لمحكمة كمبوديا)، لا تعتمد بنظامها على قاضي تحقيق، كون أنظمتها في معظم الوقت مقتبسةً عن نظام القانون العام، إذ لا وجود لقاضي تحقيق، خلافاً لما هي الحال في نظام القانون المدني المكتوب (كما في لبنان)، حيث إنّ لقاضي التحقيق دوراً مهمّاً في سير الدعوى الجزائية.
فالمحاكم الدولية تعتمد ما يُعرف بقاضٍ أو غرفة الإجراءات التمهيدية، ودورهما يختلف تماماً عن دور قاضي التحقيق. إنّ قاضي الإجراءات التمهيدية في المحاكم الدولية، ومنها المحكمة الخاصة بلبنان، لا يُمارس مهام قاضي التحقيق، فهو لا يقوم بجمع الأدلّة تلقائياً في الظروف العادية، بل فقط في حالاتٍ إستثنائية، إذا تعذّر على أحد الفرقاء في الدعوى جمعها بنفسه. كما أنّه لا يُصدر قراراً اتهامياً في القضية، إنّما يُراقب مضمون القرار الاتهامي الصادر عن المدّعي العام، ومدى جدّية الأدلّة المستنِد إليها، أقلّه من حيث الظاهر ومدى جهوزية الدعوى لإحالتها إلى قضاء الحكم لتأمين محاكمة عادلة وسريعة.
يتولّى قاضي الإجراءات التمهيدية في المحاكم الدولية عدّة مهامٍ تتفاوت بين محكمةٍ وأُخرى، ومنها الأمور التالية:
– تحديد ما إذا كانت الجرائم المدّعى بها تدخل ضمن اختصاص المحكمة الدولية.
– تقييم التهم والأدلّة التي يتضمّنها القرار الاتهامي الصادر عن المدعي العام.
– ترشيد عملية جمع الأدلّة
تقليص أوجه الخلاف بين الفرقاء لحصر الأدلّة في الحدّ الأدنى الضروري منها.
– تحديد مدى توافر الصفة للمتضرّرين المشاركين في الإجراءات لدى المحاكم التي تجيز هذه المشاركة.
– الفصل في بعض الدفوع الأوّلية في المرحلة السابقة لإحالة الدعوى إلى الغرفة الابتدائية.
– الفصل في إمكانية الإفصاح عن معلومات تتعلّق بالمصالح الأمنية للدول أو الهيئات الدولية الأخرى.
يعود إلى قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة بلبنان، أنْ يُقرّر مدى وجود الترابط بين الملفّ الرئيسي الداخل في اختصاص المحكمة، أيّ قضيّة اغتيال الرئيس الحريري، وملفّاتٍ تتعلّق بجرائم أُخرى حدّدها النظام الأساسي، لإعلان مدى صلاحية أو عدم صلاحية المحكمة الخاصة بشأنها.
إنّ الغرض الرئيسي من دور قاضي الإجراءات التمهيدية، هو تسريع إجراءات المحاكمة عن طريق مراقبة الملفّ الجزائي من أوجهٍ مختلفةٍ قبل إحالته إلى قضاء الحكم. الملفت للنظر أنّ الإجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة بلبنان يتولّاها قاض غير عضو في الغرفة الإبتدائية.
بالعودة إلى القانون اللبناني، لا وجود لقاض للإجراءات التمهيدية، إذ يتولّى التحقيق قاضٍ للتحقيق يعمل وفقاً للنظام التحقيقي وليس الوجاهي. وكما هو معروف، يجري قاضي التحقيق في لبنان التحقيقات القضائية ويستمع إلى المدعى عليه والشهود ويبحث في الأدلّة لينتهي، بمعزل عن موقف المدعي العام، إلى الظنّ بالمدعى عليه في الجنح، فيحيل الملفّ إلى القاضي المنفرد الجزائي، أو إلى الاتهام في الجنايات، فيحيل الملفّ آنذاك إلى الهيئة الاتهامية، وهي غرفة من غرف محاكم الإستئناف، تعمد في حال قبولها لقرار قاضي التحقيق، إلى إحالة المتهم إلى محكمة الجنايات.
أيضاً، لقاضي التحقيق في لبنان والهيئة الاتهامية تقرير منع المحاكمة عن المدعى عليه والمتهم ووقف مسار الدعوى الجزائية إذا لم يكن في الأوراق أدلّة أو أسباب قانونية تُبرّر اتخاذ الموقف المخالف. إنّ قرار قاضي التحقيق وقرار الهيئة الاتهامية يقبلان المراجعة وفقاً لشروط أمام المراجع القضائية الأعلى.
2- الموقف القانوني من حالة تسليم المحكوم عليه نفسه:
عند صدور حكم غيابي بحقّ المتهم، يسقط هذا الحكم كما تسقط جميع الإجراءات السابقة له عندما يُسلّم نفسه أو يُلقَى القبضُ عليه، فيُصار إلى محاكمته مجدّداً بالصورة الوجاهية. وقد تتمُّ هذه المحاكمة دونما حاجة لتوقيف المتهم عن طريق مثوله عبر وسيلة المؤتمرات المتلفزة، شرط مثول محاميه في قاعة المحاكمة، ما لم يقبل صراحةً بالحكم الغيابي الصادر و/أو العقوبة المقرّرة بموجبه، وهو يمكنه في هذه الحال استئناف الحكم الغيابي جزئياً أو كلّياً أو سواء لجهة الإدانة أو لجهة العقوبة.
3- الموقف القانوني من الأدلّة:
من الواضح أنّ الأدلّة المقدّمة من قبل المدّعي العام لم تكن قاطعةً ودامغةً، بل تركّزتْ غالباً على داتا الاتصالات. وبالتالي من الواضح أنّه كان هناك نقص بالأدلّة. كما أنَّ هناك عدم تعاون من قبل السلطات المعنية في لبنان. وهذا ما أكّد عليه حكم المحكمة الخاصة بلبنان، إذ اعتبر أنّه في شباط وآذار من العام 2005، أجرت السّلطات اللبنانية تحقيقاتها وتحليلاتها بشأن الانفجار. وبناءً على طلب من رئيس الوزراء اللبناني، أرسل الأمين العام للأمم المتحدة بعثة لتقصّي الحقائق إلى بيروت من أجل التحقيق في أسباب هذا الاغتيال والظروف المحيطة به وتبعاته. واللافت أنّ هذه التحقيقات لم تجر وفق المعايير الدولية وكانت سيّئة الإدارة والتنظيم، وقد اتُّبع نهج فوضوي في التحقيق ضمن مسرح الجريمة، لا سيّما في الفترة التي أعقبت الإنفجار مباشرةً، كذلك لم تتمّ حماية مسرح الجريمة على النحو الملائم.
كما يُبيّن حكم المحكمة الخاصة بلبنان في حيثياته بأنّه، وعشية وقوع الانفجار، أزالت قوى الأمن الداخلي من مسرح الجريمة أدلّةً مهمّةً جدّاً ألا وهي سيّارات موكب الرئيس الحريري؛ كما دخلت شاحنتان ومركبات أشغال ثقيلة أخرى مسرح الجريمة لنقل سيّارات الموكب؛ ممّا يعني العبث بمسرح الجريمة.
وقد اعتبر حكم المحكمة الخاصة بلبنان، بأنَّ ما جرى أعلاه كان غير ضروري على الإطلاق، لأنّه لم تكن هناك حاجة ماسّة للقيام به، وقد تظهّر ذلك في مندرجات الحكم المذكور.
وبناءً عليه، لم تتمكّن المحكمة الخاصة بلبنان من الحصول على أيّة أدلّةٍ دامغةٍ سوى أدلّة داتا الاتصالات، وهذا ما ذكرته في حيثية حكمها.
4- الموقف القانوني من إمكانية استئناف المحكوم عليه الحكم الغيابي:
هذه المسألة تُطرحُ في حال رفض المحكوم عليه غيابياً تسليم نفسه أو في حال تعذّر إلقاء القبض عليه، هل يحقُّ له استئناف الحكم الغيابي؟
لم يرد نصّ واضح في نظام الإجراءات الخاص بالمحكمة الخاصة بلبنان حول هذه النقطة، إنّما وفقاً للمادة 28 منه، نستنتج ما يلي:
“1- يضع قضاة المحكمة الخاصة بأسرع ما يمكن بعد تولّيهم مناصبهم، القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات لإدارة الإجراءات التمهيدية والإجراءات الابتدائية وإجراءات الاستئناف، وقبول الأدلّة، ومشاركة المجني عليهم، وحماية المجني عليهم والشهود وغير ذلك من المسائل المناسبة، ويجوز لهم تعديل تلك القواعد حسب الإقتضاء.
2- يسترشد القضاة، في قيامهم بذلك، حسب الاقتضاء، بقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، وكذلك بالمواد المرجعية الأخرى التي تنمُّ عن أعلى معايير الإجراءات الجنائية الدولية، بغية ضمان محاكمة عادلة وسريعة”.
وبالتالي، وفي ضوء انتفاء نظام المحاكمة الغيابية، غير المعتمد أصلاً في المحاكم الدولية، عمد قضاة المحكمة الخاصة بلبنان إلى تطبيق المادة 28 لناحية محاكمة المتخلّفين عن الحضور غيابياً. أيّ أنّهم قرّروا تطبيق قانون الأصول المحاكمات الجزائية اللبناني في ما خصّ المحاكمة الغيابية، الذي اعتبر أنّه، وفي حال صدور حكمٍ غيابيٍ بحقّ المتهم، ولم يقُم الأخير بتسليم نفسه أو لم يتمكّن من إلقاء القبض عليه، يُمكن له (أي المحكوم عليه غيابياً) أنْ يقوم باستئناف هذا الحكم. أمّا في ما خص مهلة الاستئناف، فلا تُطبّق في هذا الصدد المهلة المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، ألا وهي 15 يوماً من تاريخ التبليغ؛ إنّما تُطبّق المهلة الخاصة المنصوص عليها في النظام الداخلي للمحكمة الخاصة بلبنان، ألا وهي 30 يوماً من تاريخ تبليغ المحكوم عليه غيابياً الحكم الغيابي.
5- الموقف القانوني من حقّ الغير المتضرّر من سير المحاكمات من مقاضاة القيّمين على المحكمة:
وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الخاصة بلبنان، خاصةً في البند المتعلّق بحقوق المتضرّرين، لا تُوجد أيّة إشارة لهذا الموضوع الدقيق، فالنظام الأساسي أشار فقط إلى حقوق المتضرّرين من الجريمة، وليس إلى من تضرّر من إجراءات المحاكمة.
وبالعودة إلى النصوص القانونية الخاصة بقانون أصول المحاكمات الجزائية، نجد المادة 214 منه قد نصّتْ على ما يلي:”لكلٍّ من المدّعي الشّخصي ومن المدّعى عليه والمسؤول بالمال والضامن أن يستأنف الحكم البدائي في مهلة خمسة عشر يوماً من تاريخ تبليغه إيّاه إذا كان بمثابة الوجاهي أو غيابياً أو قاضياً بردّ الإعتراض شكلاً.”
وعليه، وبما أنّ النظام الأساسي للمحكمة لم يُشر إلى هذه النقطة، يمكن القول بأنَّ الأشخاص المذكورين في النص 214 أعلاه هم فقط من يحقُّ لهم الطعن بحكم المحكمة.
“محكمة” – الجمعة في 2020/8/28