رحلة طارق زيادة القضائية النضالية/جورج رزق
بقلم القاضي جورج رزق:
” كلّ نفس ذائقة الموت” و”كلّ من عليها فانٍ” ( قرآن كريم).
غيّب الموت منذ أيّام، القاضي طارق زياده، عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، إنتسب إلى نقابة المحامين في طرابلس في العام 1960 ومارس المهنة حوالي السنتين في مكتب النقيب عدنان الجسر منهياً تدرّجه فيه ومسجّلاً اسمه في الجدول العام في الاستئناف، قبل أن يعود ويدخل إلى القضاء في العام 1962 في الدفعة الأولى بعد إنشاء معهد الدروس القضائية، فكان من رعيله الأوّل، سليل عائلة معروفة في الشمال، مؤمنة، متديّنة، ومنفتحة على الجميع، تربّى فيها ونهلَ منها حبّ الإيمان والعقيدة، والمعرفة والثقافة، وبين أفرادها كثر من الدكاترة والمحامين ورجال القانون والدبلوماسية، والمهندسين والمربّين، فربّى عائلة وسهر عليها، وفق ما تربّى عليه في عائلته، فكان له العائلة الكريمة التي أحبّها وأحبته، وتابع دراسته بعد الاجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف، ونال شهادة الدراسات العليا في القانونين العام والخاص من الجامعة اللبنانية، وشغل في القضاء مناصب عديدة، بدءاً من مركز قاضي منفرد مدني في طرابلس عام 1965 وقاضي الأمور المستعجلة فيها، وقاضي منفرد في زغرتا، وراح بعدها يتدرّج في المراكز بين محاكم الاستئناف والتمييز، وعيّن رئيساً لمحكمة استئناف بيروت المدنية ورئيساً للغرفة الثانية في محكمة التمييز، وكان خلال قيامه بمهامه القضائية، أستاذاً محاضراً في كلّية الحقوق في جامعة القديس يوسف، اليسوعية، فرع طرابلس، وفي كلّية الحقوق في جامعة الروح القدس – الكسليك، فرع جبيل، وأستاذاً محاضراً في جامعة البلمند في كلّية الآداب في ما بعد، فدرّس مادة الحضارة العربية والإسلامية، وكان أديباً مفوّهاً أحبّ اللغة العربية وأجادها بالقدر الذي أحبّ فيه طرابلس الفيحاء.
وخلال التدريس الجامعي الذي استمرّ منذ العام 1977 وحتّى العام 1999، أصدر القاضي طارق زياده مؤلّفات ودراسات عديدة، منها: الامتيازات العقارية، والسجّل العقاري (مشتركاً فيه مع القاضي أسعد دياب)، والمؤسّسة التجارية (مشتركاً فيه مع د. فيكتور مكربل) ودراسات في الفقه والقانون، وصفحات من الحرب الأهلية الإسبانية، وقضاء الأمور المستعجلة، والقضايا الدستورية والقانونية والاقتصادية في الجمهورية الثانية، وكتابات حقوقية، ومعنى لبنان، في الصيغة اللبنانية، وقواعد القضاء واستقلاليته، إلى دراسات ومقالات في الفكر العربي والإسلامي، والعلاقات العربية الدولية، عدا الدراسات العديدة والأبحاث الفكرية والعلمية التي نشرها في الصحف والمجلات اللبنانية، وفي النشرة القضائية، والعدل، وشارك في معظم النشاطات الثقافية والفكرية والندوات القانونية في مختلف الهيئات والمؤسّسات الوطنية، فجمع فيها بين الرابطة الثقافية في طرابلس ودير الآباء اليسوعيين في تعنايل والمجلس الثقافي في لبنان الشمالي، وشارك في مؤتمرات عديدة في لبنان والخارج، وتشاركنا معه وبرعايته، في بعض هذه المؤتمرات، فكانت مداخلاته، أثناءها، ملفتة، مستنبطاً الجواب الناجع لكلّ التساؤلات المطروحة في المناقشات، بكلّ دقّة ومسؤولية، هذا بالاضافة إلى اطلالاته “الأنيسة” في ندوات تلفزيونية وفي مراكز ثقافية وجمعيات إنسانية، فتركّزت دراساته ومحاضراته حول الحوار العربي-الأوروبي والحوار المسيحي-الإسلامي، كان معجباً بالتجربة اللبنانية ومنوّهاً بها، وشارحاً لها أينما ذهب وحلّ. وكذلك حول التسلّح الخلقي وحقوق الإنسان، وحول الدستور اللبناني، وأخيراً حول النظام العالمي الجديد، وقبل ذلك كان الرئيس زياده مناضلاً في سبيل استقلال السلطة القضائية،
وأخيراً، وليس آخراً، انتخب الرئيس زياده من قبل مجلس النوّاب، عضواً في المجلس الدستوري واستمرّ نائباً للرئيس مدّة عشر سنوات،
وبعد كلّ هذه الرحلة القضائية النضالية في رحاب القانون والحقّ والعدل،
أوليس الحقّ هو أساس جميع الأديان، وهو كلمة الله الذي قال بلسان السيّد المسيح: “إعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” و” اعرفوا الحقَ والحقُ يحرّركم”، وهو ما أكّده القرآن الكريم في سورة الحجرات (الآية 9).
لم يكتف الرئيس زياده بذلك، فلم يشبعه “نهَمُه” للعلم وللعمل القضائي ” الشاق”
أولم يرد في الحديث الشريف “إنّ القضاة ثلاثة، واحد في الجنّة وإثنان في النار”؟
ولأنّ إيمان الرئيس زياده بالله وبالقضاء وبوطنه، فإنّه واصل سعيه لإكمال مسيرته حتّى الرمق الأخير، فانتقل إلى دولة الامارات العربية الشقيقة ما أن وصل إلى استحقاق سنّ التقاعد، فشغل منصب مستشار في محكمة النقض في أبو ظبي من عام 2007 إلى 2009، وذلك تماشياً مع شعاره، قول أحد المفكرين” أن ليس للحياة قيمة إلاّ إذا وجدنا فيها شيئاً نناضل من أجله”، فاستمر في عطائه وفي كتاباته ومطالعاته القانونية حتّى المرحلة الأخيرة من حياته التي أمضاها بين كتبه وملفاته وأوراقه، ولم يبرح قلمه حتّى نال الراحة من ربّه، وغادر، أوليس ” لله الأمر من قبل ومن بعد”؟
غادر الرئيس طارق زياده إلى “العالم الآخر” مرتاح الضمير، مردّداً مع الإمام علي:
” لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلاّ التي هو قبل الموت بانيها”.
“محكمة” – الإثنين في 2020/11/9