خاص”محكمة”: ريمون عازار شاعر المحامين والعائلة والمجرّات الضوئية.. لباقة الحرف حينما يصدح إدهاشاً/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
أن تقرأ ريمون عازار شاعراً، فإنّك بلا شكّ، تقف أمام موهبة من الجمال القادر على الإمساك بتلابيب الإبداع من كلّ أطرافه بما يمتلك من مخزون ثقافي متنوّع يُفْرِغُه في كلمات مصقولة ومنحوتة لا تأخذك إلاّ إلى الإدهاش، وذلك في رحلة غنيّة بالمتعة الروحية قلّما تتوافر إلاّ لمن أغناه الله بمَلَكَة الشعر الراقي والرائع.
وأن تعرف بأنّ ريمون عازار محام من الطراز الرفيع المجبول على العطاء حتّى التفرّد والإبداع في تجهيز مرافعاته ولوائحه القانونية بلغة متماسكة وحجج دامغة، فإنّك من دون شكّ، محظوظ في أنّك عشت زمانه مع الكبار الكبار في العدليات والمحاكم يتنقّل بين قلم ودائرة في سبيل إحراز التفوّق لمن أوكله بتمثيله سواءٌ أكان من عامة الشعب أو من المسؤولين، وهو في الحالين سيّان لا يميّز بين هذا وذاك، بل يسعى دائماً إلى التفرّد والتغريد بطلاقة، وذلك في سبيل تحصيل الربح المعنوي وزيادة رصيده في سجّله النقابي المشرّف.
عازار في رسالتيه الشعر والمحاماة
وقلّة هم المحامون الشعراءالمتمكّنون من ملامسة صميم الإبداع في الشعر وفي القانون معاً، وريمون عازار شاعر مجيد يفخر لبنان بأنّه أحد أبنائه الحافظين للغة الضاد كواحد من الأوائل المجلّين، وهو في رسالتيه الشعر والمحاماة صاحب تألّق وغرّيد عطاء، كتب في الحبّ والوجدانيات والعائلة واليوميات التي لا تفارق الإنسان، ونظم شعر المناسبات لتبقى حيّة في ذاكرة الحياة، حتّى أنّه في هذا الشعر طرّز الكلمةَ بنَفَسٍ إبداعي لم يهبط فيه مستواه، بل حافظ على رونقه، ممّا يدلّ على أنّه شاعر موهوب متمكّن من أدواته وعارف لأسلوب توظيف المخيّلة في تنمية الحرف كلمةً تسحر وتخطف الأنفاس.
ولذلك فإنّه من كبار المجدّدين في الشعر، وقلّما تعثر على محام أجاد شعراً حتّى الإرتواء، ولكنّ ريمون عازار فعلها وبتميّز ملفت للأنظار على الرغم من كثرة الملفّات والدعاوى المعروضة عليه لمعالجتها وحياكتها بلغة قانونية، ولو قيّض له الإنصراف نهائياً إلى محراب الشعر دون هذه القضايا ومشاكلها لزاد، بلا شكّ من رصيده الإبداعي الرقراق كالمياه العذبة والصوت الفيروزي المعانق لألق السماء.
الولادة بين الينابيع
أطلّ ريمون عازار على الدنيا في “بيت العزيزين” عزيز ناصيف عازار وعزيزة فارس عازار، في السادس عشر من شهر تموز من العام 1935 في بلدة عينطورة المتن، “جارة الشمس” كما يسمّيها تحبّباً، وذلك بسبب ارتفاعها الشاهق الذي يبلغ 1300 متر عن سطح البحر، وتدلّيها على كتف وادي نهر الجمعاني، فيما إسمها يعني باللغة السريانية “عين الجبل” لكثرة الينابيع المتدفّقة فيها، ويحقّ لها أن تفخر بأن أضافت إلى عطاءاتها، في هذا التاريخ، ينبوعاً آخر إسمه ريمون عازار.
التأثّر بالأب الشاعر
عشق نظم الشعر منذ الصغر مقلّداً والده عزيز عازار الذي لم يتخرّج في المعاهد والجامعات، ولكنّه كان يكتب الشعر العامي ويغني نفسه به ويُكثر من ترداده حتّى تجمّعت لديه قصائد كثيرة ضاعت ولم تُجمع في قرطاس، وكلّ فرادة خارج الكتاب تضمحل حتّى الإختفاء، وكان يحفظ عدداً وافراً من شعر الحِكَم ويجود به على المسامع في المناسبات ويستشهد بكلّ مواقفه بالحكمة المناسبة، وهذا ما أثّر في إبنه ريمون” فحفظت عنه الكثير من هذه الحكم واستفدت منها كثيراً في حياتي، وهذا ما سمح لي أن أكون في جوّ الشعر، خصوصاً وأنّني كنت أسمعه يتلو قصائده، ففرحت به أشدّ الفرح، وأُخذت به، وسرت على خطاه فصرت أكتب الشعر” على حدّ تعبير ريمون الثالث في شجرة أسرة مؤلّفة من ستّة شبّان وبنت وحيدة، ولم يكن الإبن الوحيد الوارث للموهبة الشعرية، إذ إنّ له أخاً أصغر منه سنّاً يدعى ناصيف عازار، أجاد في نظم الشعر باللغة المحكية على خطى والده، وله قصائد ملحّنة ومغنّاة.
التألّق في “الحكمة”
مثل الكثيرين من مجايليه في ثلاثينيات القرن العشرين، درس ريمون عازار في مدرسة الضيعة على يد كهنة الرعية وبعض المعلّمين ومنهم الخوري أنطوان الحاج، والأب بطرس عازار، والمربّيان سمعان الحاج وجورج لبكي، ويقول في هذا المجال:” أحياناً كنّا ندرس تحت السنديانة الواقعة قرب كنيسة الضيعة المسمّاة على اسم شفيعها مار نوهرا”، وهي لا تزال موجودة لغاية اليوم، وسبق للأجداد والآباء أن درسوا تحت هذه الشجرة أيضاً.
ثمّ انتقل الفتى الحاد الذكاء كما وصفوه منذ صغره، لمتابعة الدراسة في مدرسة الحكمة في بيروت حيث بقي فيها من الصفّ الثامن ولغاية صفّ الفلسفة الأخير في المرحلة الثانوية، متخرّجاً على أيدي روّاد في التعليم والتربية واللغة العربية والأدب العربي والفلسفة في لبنان والمنطقة وهم: جورج لبكي، وحنّا الحدّاد، وحسيب سعيد عبد الساتر(1912-1998)، ومعلّم الأجيال بطرس سليمان البستاني( 1898-1969)، وعبده الشمالي(1908-1989). وهذه الكوكبة التعليمية من رجال العلم والأدب، والتي يحسد كلّ من درس على يديها، تركت بصمات واضحة في مسيرة ريمون عازار الأدبية لا تُنسى أبداً، فهم ذهلوا بشدّة إقباله على التعلّم مصحوباً بشعلة من الذكاء الحاد ممّا جعله متفوّقاً في دراسته، ومميّزاً على أقرانه، وهذا ما مكّنه من دراسة أربعة صفوف في سنتين إثنتين ولهذا الفعل محطّة في البال لا تمحى على الإطلاق.
توقّع حنّا الحدّاد له.. فأصاب
ففي الصفّ الرابع الإبتدائي، إعترض المعلّم حنّا الحدّاد إبن بلدة” أبي محمّد” مارون عبود(1886-1962) عين كفاع الجبيلية على إحضار هذا الولد، والعام الدراسي قد شارف على منتصفه، ولكنّه ما لبث أن غيّر رأيه بمجرّد اطلاعه على كتاباته الإنشائية” فعندما كنت أكتب فرض الإنشاء، كان يطلب مني أن أتلوه على مسامع زملائي في الصفّ حتّى ذهب إلى أبعد من ذلك فتوقّع لي أن أصبح أديباً كبيراً، وطلب مني مراراً وتكراراً أن أذكره في ذلك”.
وكان الحدّاد يقرأ على تلامذته الكثير من الإنتاج الأدبي غير المنشور لعمّه الأديب والمربّي واللغوي المشهور المونسنيور يوسف الحدّاد(1865-1949) إبن عمّة مارون عبود، والذي علّم الأديب المتبحّر جبران خليل جبران(1883-1931) في مدرسة “الحكمة”، وذلك بُعَيْد انتقاله من الولايات المتحدة الأميركية إلى لبنان للتعمّق والتعملق في اللغة العربية وسحر بيانها.
حسيب عبد الساتر والمستقبل الباهر
وبدوره، توقّع له الأديب حسيب عبد الساتر مستقبلاً باهراً على صعيد الأدب والشعر” وشجّعني أكثر من سواه، وظلّ يرافقني ويطّلع على نشاطي الأدبي خلال فترة “الحكمة” وبعد تخرّجي فيها وكان يوجّهني دائماً، نحو الخير والعطاء”.
بدأ ريمون عازار نظم الشعر على مقاعد الدراسة في سنّ مبكرة وتحديداً منذ الصفّ الرابع الإبتدائي، وكان مجلّياً وتصدّر المرتبة الأولى طوال سني دراسته السبع في “الحكمة”، وترأس الندوة الأدبية ثلاث دورات متتالية تحت إشراف الأديب حسيب عبد الساتر” وهذا الأمر دفعني إلى الأدب والشعر أكثر فأكثر” على ما يقول.
عصام وملحم كرم
من رفاقه في “الحكمة” العائلة النقابية المُلْهَمة أدباً وذوقاً ولغةً وفصاحةً عربيةً نقيب المحامين الأسبق عصام كرم الذي كان يعلوه بصفّين، وشقيقه نقيب المحرّرين الصحفيين ملحم كرم (1934-2010) وصهرهما نقيب المحامين الأسبق ريمون شديد وكانا أعلى منه بصفّ واحد. ويذكر من تلامذة صفّه الوزير والقاضي السابق سليمان طرابلسي، ونقيب المحامين الأسبق”سَمِيُّه” ريمون عيد.
ولا يغيب من حقل ذاكرته إلتفافه حول تحرّكات النقيب ملحم كرم الذي قاد الحركة الطلاّبية في لبنان سواء في المدارس الثانوية أو الجامعات وعلى مدى سنوات ” فقد كنّا من مناصريه ومؤيّديه وهو الذي نظّم مظاهرات عديدة وكان يهزّ البلد ويقرّر ما يريد على صعيد المطالب والحركة الطالبية”.
وبعدما عيّن الخوري خليل أبي نادر(توفّي في العام 2009)، وقد صار في ما بعد مطراناً وترأس أساقفة بيروت للموارنة، رئيساً لمدرسة “الحكمة” وأحدث فيها إصلاحات كبيرة وكثيرة وألغى لجنة الطلاّب مستفيداً من تخرّج ملحم كرم، لم يستطع أن يتفلّت من هالة كرم الذي كان له نفوذ قوي داخل المدرسة على الرغم من أنّه صار خارجها، ولذلك اضطرّ أبي نادر إلى “تكليفي بتمثيل المدرسة، عند الإقتضاء، في اجتماعات الحركة الطالبية”.
منهوم كتاب
لم يترك ريمون عازار الوقت يغلبه، فأمضى الكثير منه في المطالعة التي يهواها بين دفّتي المكتبة الموجودة في مدرسة “الحكمة” والتي ضمّت كتباً لكبار الأدباء العرب والأجانب،”فانصرفت إلى مطالعة كتب جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة (1889-1988)، وأمين الريحاني (1876-1940)، وجرجي زيدان (1861-1914)، وصلاح لبكي (1906-1955) وبشارة الخوري الملقّب بـ” الأخطل الصغير” (1873-1968)، وإلياس أبو شبكة (1903-1947)، وأحمد شوقي (1868-1932)، وكنت أبادر من تلقاء نفسي لقراءة هؤلاء العظماء ولاسيّما اللبنانيين منهم بغية إشباع نهمي، وكنت أشتري ما أوفّره من “خرجيّتي” من نقود كتباً منشورة على حائط اللعازارية في بيروت، وصودف مرّة أنّني اشتريت كتاب “مواعيد” للشاعر صلاح لبكي كان يحمل إهداء منه إلى شقيقه العقيد في الجيش اللبناني غطّاس لبكي، ولا أزال أحتفظ بهذا الكتاب في مكتبتي المنزلية، لقد كنت مغرماً باقتناء الكتب وقراءتها، وكلّما ادّخرت مالاً كنت أشتري به كتباً من هنا وهناك حتّى صارت لديّ مكتبة لا بأس بها”.
الحقوق بدلاً من الطبّ
لم ينهه تفوّقه في مادة الرياضيات عن دراسة الحقوق التي يحبّها وكان بمقدوره وهو المتفوّق والطليعي بين زملائه أن يتوجّه لدراسة مادة أخرى كالطبّ مثلاً، ولذلك لا يزال يذكر مليّاً كيف أنّ الخوري خليل أبي نادر عندما عرف بنيّته دراسة الحقوق إثر تخرّجه في صفّ الفلسفة “قال لي بدي منك تدرس الطبّ وأنا مستعدّ بسبب ظروف أهلك المادية أن أساعدك، خصوصاً وأنّك الأوّل في الرياضيات والعلوم، وأنا مستعدّ أيضاً أن أؤمّن لك عملاً في نظارة “الحكمة” لمساعدتك مع راتب شهري جيّد حتّى تدفع أقساط الجامعة ومصاريفك الخاصة”، ولكنّه اعتذر منه بلباقة لأنّه كان مقرّراً في قرارة نفسه أن يدرس الحقوق بغضّ النظر عن كلّ شيء، والسبب أنّها تنسجم مع الأدب، وأنّ المحاماة تعتمد على المرافعات والأدب القانوني” وأنا كنت الأوّل في اللغة العربية وأهوى المحاماة وحابب أعمل محامي بغضّ النظر عمّا إذا كان والدي قادراً على تأمين القسط الجامعي لدراسة الطبّ أو أن المطران أبي نادر مستعدّ لدفع هذه الأقساط”.
“رفاق السلاح” في الحقوق
وحقّق ريمون عازار مبتغاه وطموحه بدراسة الحقوق في جامعة القديس يوسف “اليسوعية” التي دخلها في العام 1955 حيث درس على يد الوزير والقاضي إميل تيّان(1901-1977) مادة القانون التجاري، والوزير والقاضي الدكتور شكري بطرس قرداحي(1890-1973) مادة القانون العقاري، والوزير والقاضي الدكتور سليم الجاهل( مواليد العام 1931) مادة الموجبات والعقد، ومرسيل دبّاني مادة الإقتصاد، وبيتو آرين، وشافاليه، وشارل فابيو الذي “كان مجتهداً كثيراً في القانون مع أنّه ضابط متقاعد”.
ومن زملاء ريمون عازار في دراسة الحقوق النقباء عصام كرم وشقيقه ملحم كرم، وريمون عيد، والراحل مرسال سيوفي(1934-2015)، والمحامي جان عيد، والوزير والقاضي سليمان طرابلسي، والمحامي سامي نصّار شقيق رئيس مجلس القضاء الأعلى والمجلس الدستوري القاضي أمين نصّار، وأمين عام مجلس الوزراء القاضي هشام الشّعار، والقاضي أنور الحجّار، والقاضي حسن عثمان الذي قضى شهيداً على قوس محكمة الجنايات في مدينة صيدا في 8 حزيران من العام 1999، ونهاد نوفل رئيس بلدية ذوق مكايل على مدى خمسة وخمسين عاماً والذي فاز في معركة طاحنة ضدّ الشهابيين في العام 1961، والذين ما لبثوا أن أصبحوا من أشدّ أنصاره في نهاية ولايته الأولى، وأوّل المجتمعين على تجديد ولايته كرئيس للبلدية ورئيس لاتحاد بلديات كسروان.
وكما دأبه في المدرسة كذلك فعل في الجامعة، فإنّ ريمون عازار لم يترك أحداً يتقدّم عليه في الترتيب العام، فحلّ أوّلاً ممّا يؤشّر على اتقاد ذكائه وعشقه للعلم وما تحويه الكتب من معارف، علماً أنّه كان بالتوازي مع الدراسة يعمل مساعداً قضائياً.
وأسّس ريمون عازار الندوة الثقافية في “اليسوعية” وبقي رئيساً لها مدّة سنتين حيث “كنت متاخد كتير بالأدب منيح ومنخرط فيه وخصوصاً بالشعر كتير”.
“بالواسطة زبطت معو”!
وخضع عازار لامتحان المساعدين القضائيين وحلّ في المرتبة الأولى هو ومارون فيليب عزيز(توفي في العام 2015) الذي صار لاحقاً قاضياً فمحامياً، ولم يركض وراء شفاعة أحد من المسؤولين أو المعنيين، وصدر مرسوم التعيين خالياً من اسمه مع أنّه الأوّل، فذهب إلى وزارة العدل للاستفسار عن الأمر حيث التقى مدير الشؤون الإدارية في الوزارة إدوار عيد البستاني (1901-1979) وسأله عن سبب عدم تعيينه وهو الأوّل في المباراة، فأجابه:” نحن نستطيع أن نأخذ من نريد من الناجحين حتّى ولو كان الأخير”، وسأل ريمون إذا كان قد أجرى وساطة لدى أحد السياسيين أو النافذين، فأجابه:كلا، فقال له:” تاني مرّة جيب واسطة حتّى ولو كنت الأوّل، انت يا ابني في لبنان”، فخرج يجرّ أذيال الخيبة.
وصودف، بعد فترة، أن ألغي هذا المرسوم،”فقلت في سرّي لا بدّ من تدبير الأمر وكانت تربط عائلتي، علاقة مع مدير عام الأمن العام آنذاك إدوار أبو جودة، فذهبت إليه وأخبرته بما حصل معي فاتصل هاتفياً بالمدير إدوار البستاني وطلب منه الإهتمام بتعييني، وأعطاني بطاقة توصية له، فذهبت إليه وأعطيته البطاقة فقال لي:” هلّأ زبطت معك”، وبالفعل أخرج لائحة التعيينات من درج مكتبه وأدرج فيها إسمي، وصدر المرسوم الجديد وكنت بين المعيّنين الآخرين”.
نديم عبود:” خوّفوني منك”!
عمل ريمون عازار مساعداً قضائياً مع عدد من القضاة منهم جبران الحويك في جديدة المتن حيث كان قاضياً جزائياً، وفؤاد الصغير الذي كان قاضياً جزائياً في بعبدا.
ولعملية انتقاله من جديدة المتن إلى بعبدا قصّة يرويها ريمون عازار للذكرى والعِبْرة، فبعد شهر واحد من تعيينه، فوجئ بصدور قرار بنقله إلى بعبدا فاتصل بالقاضي الحويك ليعرف حقيقة ما حصل، فعلم أنّ أحد النافذين في قريته طلب إبعاده عن عدلية جديدة المتن بحجّة أنّ صلاحية المحكمة هناك تشمل الدعاوى المتعلّقة بضيعته وهو ما لا يناسب هذا النفوذي، وحاول القاضي الحويك أن يعيده” بس ما طلع بإيدو، وقال لي كما قال لي سابقاً إدوار البستاني:” ما تزعل يا ابني، انت في لبنان”!.
عيّن في القلم الجزائي في عدلية بعبدا حيث كان رئيسه نديم عبود( 1924-2004) إبن مارون عبود ووالد القاضي سهيل عبود، وكان ناجحاً في مباراة الدخول إلى سلك القضاء، ولكن لم يتمّ تعيينه لأنّه كان محسوباً على جماعة الرئيس فؤاد شهاب ومغضوباً عليه من جماعة الرئيس كميل شمعون الذي ما ان انتهى عهده حتّى رُدّ الاعتبار إليه بتعيينه قاضياً، وهو “قاض ناجح ونزيه من خلاصة الأودام” كما يصفه عازار الذي بدأ العمل معه إلى أن فاتحه عبود يوماً بالقول له:” لمّا نقلوك لهون خوّفوني منك انّك بتتعاطى سياسة، وكنت أراقبك فلم ألمس إلاّ كلّ نزاهة وإخلاص لوظيفتك، وأنا متلك مغضوب عليّ، وبدلاً من أن أكون قاضياً حطّوني رئيس قلم ببعبدا”.
ثمّ عمل ريمون عازار مع المدعي العام ميشال طعمة وقاضي التحقيق سليم العازار، ورئيس مجلس العمل التحكيمي جورج ملاّط شقيق الوزير ونقيب المحامين في بيروت ورئيس أوّل مجلس دستوري في لبنان وجدي الملاّط (1919-2010)، وبقي سنتين ونصف السنة في قصر العدل حيث كان يطالع الملفّات بدقّة متناهية وخصوصاً في المحكمة المدنية “حتّى خرجت من هناك كأنّني عامل تدرّج على نطاق واسع، لأنّني استطعت أن اطلع عن كثب على كلّ الإجراءات القانونية التي تمرّ بها الدعاوى ومراجعات المحامين”.
التدرّج في مكتب عبدالله قبرصي
أنهى ريمون عازار دراسة الحقوق في العام 1958 حاملاً إجازتي الحقوق اللبنانية والفرنسية، وانتسب إلى نقابة المحامين في بيروت متدرّجاً في مكتب المحامي والشاعر المميّز الراحل عبد الله قبرصي(1909-2007) الذي كان “محلّقاً في القضايا الجزائية، وكنت قد سمعته مترافعاً في دعاوٍ أمام محكمة الجنايات في بعبدا ضدّ الوزير والمحامي بهيج تقي الدين(1909-1980) وهو أيضاً من كبار المحامين الجزائيين، وأُعجبت بفصاحة قبرصي و”شرقطة” دماغه وسرعة بديهيته وأدبه وعلمه الوافر، وهو كان بليغاً وضالعاً في القانون، ومتقد الذكاء، وقادراً على التأثير في المحكمة، وأعجبت به محامياً وأديباً وشاعراً أيّما إعجاب”.
لقد تعرّف ريمون عازار إلى عبد الله قبرصي في عدلية بعبدا خلال عمله مساعداً قضائياً،”ولمّا تخرّجت في الحقوق إنضممت إلى مكتبه الكائن في شارع بشارة الخوري في بيروت، وتدرّجت لديه وأذكر أنّ أوّل لائحة كتبتها لم يصلح لي فيها سوى عبارتين بسيطتين، وجمع المحامين العاملين معه وبينهم نديم حاطوم، وقال لهم:” هيدي اللائحة اللي عملها ريمون” لأّنني كنت وأنا مساعد قضائي، قد تعمّقت في دراسة الملفّات وأنا ضالع في اللغة العربية وفي بلاغتها”.
ثمّ تعاون ريمون عازار مع الوكيل القانوني لكازينو لبنان المحامي فارس الزغبي(1919-2015)، وأسّس في العام 1967 مع زميله المحامي نديم حاطوم مكتباً مشتركاً في شارع بشارة الخوري في بيروت وبقيا معاً لغاية انفصالهما في العام 2011، لينتقل الأستاذ حاطوم إلى مكتبه الخاص في شارع بدارو في بيروت.
الإنضمام إلى “حلقة الثريا”
في العام 1959 دعي ريمون عازار للإنضمام إلى “حلقة الثريا” التي كانت قد تأسّست قبل ثلاث سنوات من كلّ من: جورج عبدالله غانم(1932-1992)، وصاحب مجلّة” الإنطلاق” إبن دير القمر الشاعر ميشال توفيق نعمة(1929-1964) الذي مات باكراً في الخامسة والثلاثين من عمره إثر إصابته بمرض الزلال في الدم، وإدمون رزق( مواليد العام 1934)، وشوقي أبي شقرا( مواليد العام 1935)، والدكتورة نور داود سليمان( مواليد العام 1934)، والأربعة الأول كانوا طلاّباً في مدرسة “الحكمة” ولفت نظرهم ما كان ينشره في مجلّة الحكمة من قصائد ومقالات” فحضر ميشال نعمة إلى غرفتي في مكتب المحامي عبد الله قبرصي وطلب مني الإنضمام إليهم ففعلت طائعاً، وهذه الحلقة الأدبية لعبت دوراً مميّزاً في الساحة الأدبية وكانت تمثّل التيّار الأدبي اللبناني الأصيل والحديث بمواجهة حركة “خميس شعر” برئاسة الشاعر يوسف الخال(1916-1987) والتي كانت تدعو إلى الشعر الحديث المتفلّت من أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي(718-789)، وتعتمد إجمالاً على الغموض وكنت ضدّ هذا الشعر وأسميته في مقدّمة ديواني الأوّل” وطني الحبّ والجراح” الصادر في العام 1984″ شعر الكلمات المتقاطعة لأنّنا كنا نقرأ أشعارهم ولا ندرك في كثير من الأحيان ماذا يريد الواحد منهم أن يقول”.
كوكبة من أبرز أدباء المتن
أصدرت “حلقة الثريا” مجلّة “الثريا” وتولّى ريمون عازار فيها مهمّة أمانة السرّ، ثمّ اشترك في العام 1964، مع عدد من الأدباء والشعراء والمفكّرين في قضاء المتن الشمالي بينهم المحامي جوزف رزق الله باسيلا(1919- 1993) وشقيقه المحامي سليم باسيلا(توفّي في العام 2013)، وجورج غانم، وخليل أبي نادر، والمونسنيور يوحنّا مارون(1903-1976) مجلساً أدبياً باسم”مجلس المتن الشمالي للثقافة” ضمّ كبار أدباء المنطقة ومنهم ميخائل نعيمة، والدكتور جميل جبر (مواليد العام 1924)، ويوسف حبشي الأشقر(1929-1992)، وجورج مصروعة(1910-1989)، وأنيطت به مسؤوليات جمّة بينها نيابة الرئاسة وأمانة السرّ، وكان هذا المجلس الأوّل من نوعه في لبنان ثمّ عمّمت فكرته في جميع المناطق اللبنانية فنشأت مجالس ثقافية في غير منطقة لبنانية بعضها لا يزال عاملاً وبعضها الآخر زال من الوجود واندثر.
أنشطته الثقافية
ووزّع ريمون عازار أنشطته الثقافية والعلمية على غير جمعية ونادٍ ورابطة ومجلس ثقافي، فهو عضو في نادي القلم الدولي، وعضو في مجمع الحكمة العلمي، ورئيس هيئة الأصدقاء في الحركة الثقافية في انطلياس، وعضو في المجمع البطريركي الماروني في العام 2006، وعضو اللجنة البطريركية للشؤون الطقسية التي أعادت النظر في نصوص القدّاس الماروني وصحّحتها وجدّدتها وتولّى هو والحبيس الأب يوحنّا الخوند بشكل خاص إعادة قراءة النصوص الشعرية وتصحيحها، وترأس نادي ليونز المتن مرّتين وأحدث تجديداً فيه بعدما تخلّله ركود نتيجة الحرب اللبنانية بين العامين 1975 و1990.
نظم ريمون عازار نشيد نقابة المحامين في بيروت ولحّنه الموسيقار إلياس الرحباني وصار يتلى مع النشيد الوطني اللبناني في مناسبات واحتفالات النقابة، وينشده المحامون بفخر واعتزاز ويقول مطلعه:
صَوْلةُ الحَقّ وَمجْدُ القَلَمِ
وَدَسَاتيرُ الهُدى وَالنُظُمِ
ألْمُحامُونَ بِها رَادوا العُلَى
وَارْتَقَوا بالعَدْلِ حتَّى القِمَمِ.
ألقاب وأبناء
أطلق الفقيه في اللغة العربية والأديب الدكتور ميشال كعدي على ريمون عازار لقب “شاعر المجرّات الضوئية” في كتاب حمل الإسم نفسه صدر في العام 2009، كما لقّبه أحد النقّاد بـ”شاعر العائلة” بسبب إكثاره من كتابة القصائد عن الأب والأمّ والزوجة والأولاد والأحفاد.
أنجب ريمون عازار ستّة دواوين شعرية هي: “وطني الحبّ والجراح”( صدر في العام 1984)، و”أجنحة إلى الشمس”(1988)، و”عبور إلى البهاء”(2009)، و”بين المجرّة والسنابل”(2009)، و”شعر إلى الأبد”(2014)، و”دهر ربيع”(2014)، وله مجموعة نثرية من ثلاثة مجلّدات قيد الإعداد للنشر.
تعرّف عازار إلى زوجته إبنة مدينة زحلة كارمن جوزف تامر عن طريق إبنة عمّته الراهبة روز ألبير التي كانت من أركان مدرسة راهبات العائلة المقدّسة المارونيات في زحلة حيث كانت كارمن إحدى تلميذاتها النجيبات، وأنجب منها ثلاثة صبيان هم: الدكتور ربيع رئيس قسم طبّ القلب في مستشفى “أوتيل ديو” في بيروت، والدكتور رياض رئيس قسم طبّ الجهاز الهضمي في مستشفى رزق في بيروت، والمحامي الدكتور زيّاد وهو من كبار الحقوقيين في مدينة نيويورك الأميركية، وهم جميعهم من خرّيجي جامعة هارفرد الأميركية.
وعن سبب تسميته لأولاده بأسماء عربية يقول ريمون عازار: “رأيت أنّ الأسماء العربية جميلة جدّاً وأنا معجب باللغة العربية، وفخور بانتسابي إلى العالم العربي وأحببت هذه الأسماء التي تصلح في كلّ الأقطار العربية، ونحن نفخر كلبنانيين وكمسيحيين أنّنا أرباب اللغة العربية وحافظنا عليها للأجيال وطوّرناها، ومساهمتي في هذه اللغة التي أحبّها بادية في شعري وأدبي ومرافعاتي”.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 10- تشرين الأوّل 2016)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.