عقبات قانونية تحول دون إحالة ميشال سماحة على المجلس العدلي
كتب علي الموسوي:
ما أن سمع وزير العدل اللواء المتقاعد أشرف ريفي بإخلاء سبيل الوزير والنائب السابق ميشال سماحة بكفالة مالية مقدارها مائة وخمسون مليون ليرة لبنانية في قضيّة نقل متفجّرات من سوريا إلى لبنان بناء لقائمة سلّمه إيّاها المخبر ميلاد كفوري، حتّى فقد أعصابه وخرج عن طوره، وسارع إلى نعي المحكمة العسكرية التي تواصل النظر في ملفّات الارهاب التكفيري والإسرائيلي في آن معاً بما تتضمّنه من مجموعات وعصابات وجمعيات أشرار وشبكات للذبح، والقتل، والتسلّح، والتجسّس، والعمالة.
وصدرت مواقف وتصريحات كلامية مندّدة بـ”اقتناع” محكمة التمييز العسكرية برئاسة القاضي طاني لطوف، بوجوب إخلاء سبيل سماحة في 14 كانون الثاني 2016، بعدما أمضى1253 يوماً خلف القضبان منذ توقيفه في 9 آب 2012، في مكان توقيفه الأوّلي لدى “فرع المعلومات” في قوى الأمن الداخلي، ثمّ في سجن الريحانية التابع للشرطة العسكرية، تخلّلتها إطلالات إلى العالم الحيّ، عبر زيارات إلى مكتب رئيس “فرع المعلومات” اللواء وسام الحسن في فترة التحقيقات الأوّلية، ومكتب قاضي التحقيق العسكري الأوّل رياض أبو غيدا إبّان التحقيقات الاستنطاقية، وقاعة المحكمة العسكرية الدائمة ومحكمة التمييز العسكرية في فترات جلسات المحاكمة العلنية.
صراخ ريفي
ولم يكتف ريفي بالصراخ في وجه إخلاء السبيل، وإحالة القاضي لطوف على هيئة التفتيش القضائي لمساءلته ومحاسبته، بل أعدّ مشروع مرسوم إحالة الجرائم المتهم بها سماحة على المجلس العدلي، وأرسله بسرعة البرق إلى مجلس الوزراء لإقراره تمهيداً للسير به قدماً بإصدار مرسوم الإحالة، وتعيين محقّق عدلي، وهذا الأمر يحصل إذا ما وافق في الأصل، مجلس الوزراء على خطوة ريفي، وإذا ما قيّض لهذا المجلس أن يلتئم بعد ندرة اجتماعاته الموسمية، على أنّ غاية ريفي المخفية من وراء هذه الإحالة هي “حشر” حلفاء سماحة “السابقين”، واستخدام معارضتهم في حال طرح اقتراحه على بساط البحث، في اللعبة السياسية ليس إلاّ، ولكنْ سواءٌ نالت الإحالة إجماعاً، أم لاقت معارضة، فإنّ تحقيقها صعب المنال من الوجهة القانونية الصرفة.
سماحة يستحقّ العقاب
ولا شكّ أنّ ما قام به سماحة يستحقّ العقاب القانوني اللازم، وإنْ كان انزلاقه إلى “كمين” كفوري ومن جنّده لتنفيذ هذا العمل الجرمي، إقتصر على نقل المتفجّرات، من دون حصول أيّ تنفيذ عملاني لما كان مخطّطاً له، إذ أنّ أيّ تفجير لم يحصل، وأنّ أيّة عملية اغتيال لم ترتكب، ممّا يعني أنّ الغاية القصوى من كلّ هذه العملية الأمنية المحبوكة بشكل مدروس، هي استدراج سماحة إلى اقتراف جرم نقل المتفجّرات، لأنّه كاف لتجريمه وإيداعه السجن، فوقع في المحظور والمدان قانوناً ولدى الرأي العام.
إشكالية الإحالة على المجلس العدلي
ولكنّ السؤال الأهمّ من كلّ ما تقدّم، هو هل يمكن إحالة ميشال سماحة على المحاكمة أمام المجلس العدلي بعد كلّ الخطوات القانونية التي حدثت في قضيّته سواء لناحية صدور قرار اتهامي، وحكم عن المحكمة العسكرية الدائمة، وقرار عن محكمة التمييز العسكرية بفسخ الحكم ورؤية الدعوى مجدّداً، وإطلاق المحاكمات بشكل جديد؟.
وأكثر من ذلك، هل يحقّ للمجلس العدلي النظر في اختصاصه؟.
من حيث المبدأ وتطبيقاً للفقرة الأخيرة من المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، تحال على المجلس العدلي بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، الدعاوى المتعلّقة بجرائم محدّدة ومنها الجرائم المنسوبة إلى ميشال سماحة.
وتنصّ هذه المادة على أنّ مرسوم الإحالة يتناول الجرائم التي هي قيد النظر أمام القضائين العسكري والعادي أو العدلي.
فما هو وضع سماحة بالنسبة إلى هذه المادة القانونية؟
لقد صدر قرار إتهامي عن القاضي أبو غيدا، وحكم وجاهي عن المحكمة العسكرية الدائمة قضى بتجريم سماحة بعقوبة السجن أربع سنوات ونصف السنة، وما لبث مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر أن ميّز الحكم الابتدائي بناء لطلب وزير العدل أشرف ريفي الغاضب على الحكم والعقوبة معاً، ووافقت محكمة التمييز العسكرية على طلب التمييز ونقضت الحكم ليصبح سماحة قبل إخلاء سبيله، موقوفاً فقط بموجب مذكّرة التوقيف الصادرة عن قاضي التحقيق العسكري الأوّل أبو غيدا، ويكون وضع الدعوى أمام محكمة التمييز العسكرية وكأنّها دعوى لا تزال قيد النظر وفقاً للتعريف المحدّد في الفقرة الأخيرة من المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
سابقة في تاريخ القضاء
غير أنّ الإشكالية التي تطرحها إحالة الدعوى العامة من محكمة التمييز العسكرية على المجلس العدلي، هي التالية:
أولّاً: إنّ مسار المحاكمة أمام المجلس العدلي يبدأ أوّلاً بتعيين محقّق عدلي يتولّى التحقيق الاستنطاقي بناء على ادعاء النائب العام التمييزي الذي هو نفسه النائب العام العدلي، ولهذا المحقّق العدلي كامل الحرّيّة وكامل الصلاحية المطلقة في الادعاء، أو في منع المحاكمة، مع الإشارة إلى أنّ قراراته تصدر بالدرجة الأولى والأخيرة، وغير قابلة لأيّ طريق من طرق المراجعة.
ولا يستطيع المجلس العدلي النظر في القضيّة إلاّ بناء على قرار اتهامي يضعه المحقّق العدلي، لذلك فإنّ الإشكالية المطروحة الآن هي هل أنّ القرار الاتهامي الصادر عن قاضي التحقيق العسكري الأوّل ملزم للمحقّق العدلي أم أنّه غير ملزم؟ وهل يستطيع المحقّق العدلي أن يمنع المحاكمة عن ميشال سماحة خلافاً للقرار الاتهامي الصادر عن قاضي التحقيق العسكري الأوّل على سبيل المثال؟، وهل يستطيع المحقّق العدلي أن يصف الأفعال الجرمية وصفاً مختلفاً عن ذلك الذي أعطاه إيّاها قاضي التحقيق العسكري الأوّل؟.
لم يسبق في تاريخ القضاء اللبناني أن طرحت هذه الإشكالية، ممّا يعني أنّ معالجتها تقتضي أن تكون قانونية بالدرجة الأولى والأخيرة، وليس “بالبَهْوَرة” الإعلامية والميزان السياسي.
السلطة التنفيذية وتغيير مسار الدعوى العامة
ثانياً: في مسار المحكمة العسكرية، فإنّ للوزير السابق ميشال سماحة الحقّ بدرجتي محاكمة، بينما في مسار المجلس العدلي، فتوجد درجة محاكمة واحدة، باعتبار أنّ قرارات المجلس العدلي لا تقبل أيّ طريق من طرق الطعن والمراجعة ولا تقبل الاستئناف، باستثناء الاعتراض وإعادة المحاكمة وفقاً للقانون رقم 711 الصادر في 9 كانون الأوّل 2005، علماً أنّ سماحة خضع لدرجة أولى من المحاكمة، ولا يزال يخضع لدرجة ثانية من المحاكمة أمام محكمة التمييز العسكرية، فهل تستطيع السلطة التنفيذية أن تغيّر المسار الذي سلكته حتّى الآن، الدعوى العامة ضدّ سماحة، وتخضعها لمسار آخر؟.
إجتهاد “العدلي” في اختصاصه
ومن اللافت للنظر أنّ اجتهاد المجلس العدلي يمنع عليه النظر في اختصاصه خلافاً للقواعد الأساسية للأصول الجزائية التي تلزم كلّ محكمة بأن تنظر عفواً في اختصاصها، بمعنى أنّ مرسوم إحالة جريمة سماحة على المجلس العدلي في حال كان غير جائز قانوناً، فإنّه لا وجود لأيّ سلطة قضائية تقبل الطعن بمرسوم الإحالة ما لم يغيّر المجلس العدلي إجتهاده السابق الصادر في 12 نيسان 1994، والوارد صراحةً في قضيّة مقتل الأخوين جليل وغسّان أنطونيوس في بلدة بعبدا في العام 1994، وقضيّة اغتيال المستشار الأوّل في السفارة الأردنية في بيروت نائب عمران المعايطة في 29 كانون الثاني 1994، وقضية اغتيال رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية”الأحباش” الشيخ نزار الحلبي في 31 آب 1995 حيث قال بوضوح لا لبس فيه إنّه لا يحقّ له، أيّ للمجلس العدلي، أن ينظر في اختصاصه.
الطعن أمام “الشورى”
وثمّة باب آخر للطعن، يتمثّل بتقديم طعن أمام مجلس شورى الدولة بصفته قضاء إدارياً، بمرسوم إحالة جريمة سماحة على المجلس العدلي، ولكنْ لا توجد سابقة قضائية في هذا الخصوص.
ومن باب الافتراض، ماذا لو قرّر المحقّق العدلي منع المحاكمة عن سماحة بعكس ما ذهب إليه قاضي التحقيق العسكري الأوّل؟ هذا يعني أنّنا نصبح أمام قرارين قضائين متناقضين، الأوّل لقاضي التحقيق العسكري الأوّل، والثاني للمحقّق العدلي، فلمن الأولوية؟ وإذا قرّر المحقّق العدلي خلاف رؤية ووجهة نظر القرار الاتهامي لقاضي التحقيق العسكري الأوّل، فكيف يمحى مضمون هذا الأخير؟.
الإشكالية ليست سهلة
إذن، الإشكالية ليست سهلة على الإطلاق كما يتوهّم بعض السياسيين، وهي تحصل للمرّة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني الذي لم يسبق له أن صادف مثلها طوال مسيرته، وهي تتجسّد في وجود قرار اتهامي، وحكم ابتدائي، وإخلاء سبيل، فكيف تلغى كلّ هذه الأمور دفعة واحدة؟، فضلاً عن أنّ القرار الاتهامي الصادر عن قاضي التحقيق العسكري الأوّل، لا يعتبر مُلزماً للمجلس العدلي لكي يسير فيه من دون وجود قرار اتهامي صادر عن المحقّق العدلي.
إدعاء خالد الضاهر
ولا بدّ من القول أنّه في ما لو استطاع المعنيون معالجة هذه العقبات القانونية، فإن الدعوى العامة أمام المحقّق العدلي والمجلس العدلي تجيز للفريق المتضرّر أن يقدّم دعوى مدنية ضدّ ميشال سماحة بهدف نيل إلزامات وتعويضات مالية ليس إلاّ، خلافاً لما هي عليه الحال أمام القضاء العسكري، وذلك وفقاً للمادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
ويقبل الادعاء الشخصي من حيث الشكل، ولكن يردّ أساساً، لأنّ جرم التفجير لم يحصل، كما أنّ أيّ ضرر مادي أو معنوي لم يلحق بالمدعي، مثل النائب خالد الضاهر في ما لو فكّر بتقديم ادعاء شخصي بحسب تصريحه لوسائل الإعلام.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 4 – شباط 2016).