قرار عجلة للقاضي الياس مخيبر: لا يمكن للمستشفى حبس جسد المريض لتحصيل مستحقّاته المالية/علي الموسوي

المحامي المتدرّج علي الموسوي:
إذا كان من حقّ المستشفى أن يحصل على أتعابه ومستحقّاته المالية لقاء العمل الصحّي والخدمات الطبّية التي يقدّمها فور إتمامها بالشكل النهائي المطلوب، إلّا أنّه ليس من حقّه على الإطلاق أن يلجأ إلى حبس الجسد المحتاج إلى مزيد من العلاج الواجب توصّلًا إلى تحقيق النتيجة المرجوة، خصوصًا إذا كان هناك تقصير من المستشفى في تأدية العناية اللازمة، أو حصل خطأ أو أخطاء خلال فترة العلاج والمتابعة من الطبيب والممرّضين وأصحاب الإختصاص المعنيين على حدّ سواء.
وبين حقّ تحصيل المال دفعةً واحدة بغضّ النظر عن قيمة المبلغ المراد تحصيله، وحقّ نيل العناية الطبّية الضرورية والظفر بالمعالجة الصحيحة، تختلف النظرة بين المستشفى والمريض بطبيعة الحال، فكلّ واحد منهما يريد مصلحته فوق أيّ اعتبار، غير أنّ الإمتناع عن السماح للمريض بترك المستشفى لاستكمال علاجه في مستشفى آخر، دونه عواقب قانونية وخيمة لأنّ الأمر يمسّ حقّه في الحياة وحقّه في السلامة، ولا شكّ أنّ القضاء ينتصر إلى الإنسان وليس إلى المستشفى، وهذا ما فعله قاضي الأمور المستعجلة في بعبدا القاضي الياس مخيبر في قرار أصدره بحقّ مستشفى في بيروت رفض السماح لمريض بالإنتقال إلى مستشفى آخر قبل دفع المتوجّبات المالية المترتّبة بذمّته.
ولم يُقدم المستشفى على تصحيح فشله في إجراء العمليات الجراحية المناسبة، وقد بلغت ثلاثًا لم تصب أيّة واحدة منها النجاح المطلوب، ولم يستطع توفير العلاج المناسب. وبدلًا من الإستعانة بأطباء آخرين ومستشفى آخر لحفظ ماء الوجه أقلّه، إرتأى منع المريض من المغادرة، محمّلًا نفسه بطريقة غير مباشرة كامل المسؤولية إذا ما أصابه أيّ مكروه أو تضاعفت حالته وتدهورت، في موقف يحمل الكثير من الخطر إذا ما ازداد الوضع الصحّي سوءًا. ولو حصد هذا المريض العلاج السليم لما فكّر قيد أنملة في استبدال المستشفى بآخر حفاظًا على جسده وسلامته البدنية.
وما فعله هذا المستشفى هو تعدّ صريح على حقّ المريض في الاستشفاء وفي نيل العلاج المناسب وفي إبعاد الضرر عن نفسه وعن جسده وما يحمله من اعتبار شخصي لا يمكن المساس به من أيّ شخص طبيعي أو معنوي آخر.
وكان بمقدور المستشفى إبعاد هذا الخطر عن نفسه، وسلوك طريق آخر لتحصيل أمواله، غير أنّ حبس الجسد ليس من المسوّغات على الإطلاق.
“محكمة” تنشر قرار القاضي مخيبر كاملًا على النحو التالي:
“باسم الشعب اللبناني
إنّ القاضي المنفرد المدني في بعبدا، الياس مخيبر الناظر في قضايا الأمور المستعجلة،
بعد الاطلاع ولدى التدقيق،
حيث إنّ المستدعي(…) تقدّم بتاريخ 2025/3/4، بواسطة وكيله المحامي أ. أ. ش.، بطلب أمر على عريضة بوجه المستدعى ضده مستشفى(… الحكومي) ممثلاً بمديره العام الدكتور(…)، عرض فيه أنّه أدخل إلى المستشفى المذكور منذ أكثر من شهرين على أثر كسر في الورك، وأجريت له عملية جراحية أولى باءت بالفشل وتبعتها عمليتان فشلتا أيضاً، فأصيب بنزيف وورم في منطقة الورك والتواء في رجله ما سبّب له عطلاً دائماً، وأصبحت حالته الصحية حرجة جدّاً وقد يفقد حياته بين ساعة وأخرى، وهو بحاجة إلى عناية طبّية وإجراء صور شعاعية لتشخيص حالته وهي غير متوافرة في المستشفى المستدعى ضدّه، فأصبح بقاؤه فيها يشكّل خطراً على حياته، وأنّ أهله طلبوا نقله إلى مستشفى آخر لتلقّي العلاج فجوبه طلبهم بالرفض من قبل المستشفى المستدعى ضدّه رغم إنذاره أصولاً، وأشار إلى أنّ إدارة المستشفى تواصلت مع أهله وأخبرتهم بضرورة تسديد مبلغ ستماية مليون ليرة لبنانية كمستحقّات عليه وإلّا لن توافق على إخراجه من المستشفى، وطلب إتخاذ القرار المعجل التنفيذ النافذ على أصله بالزام المستدعى ضده مستشفى(… الحكومي) ممثلاً بمديره العام الدكتور(…) بالسماح له بالإنتقال إلى مستشفى آخر يختاره هو أو عائلته لتلقّي العلاج وذلك بالطرق الطبّية اللازمة عبر مؤسّسة الصليب الأحمر أو غيرها من المؤسّسات المشابهة النشاط تحت طائلة غرامة إكراهية لا تقلّ عن ألف دولار أميركي عن كلّ ساعة تأخير، وتكليف من يلزم لإجراء المقتضى محتفظاً بكامل حقوقه،
وحيث إنّ المحكمة قرّرت بتاريخ 2025/3/4 إبلاغ الجهة المستدعى بوجهها نسخة عن الاستدعاء الحاضر ومرفقاته وتكليفها إبداء ملاحظاتها بشأنه ضمن أربع وعشرين ساعة من تاريخ تبلّغها، وأنّ الجهة المستدعى بوجهها تبلّغت نسخة عن الاستدعاء في الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم 2025/3/4، ولم تتقدّم بأيّة ملاحظات،
وحيث إنّه سنداً لأحكام المادة /٦٠٤/ من قانون أصول المحاكمات المدنية، إنّ الأوامر على العرائض هي قرارات مؤقتة تصدر بدون خصومة في الحالات التي يصح فيها إصدار القرار دون دعوة الخصم واستماعه، وذلك بهدف حماية مصالح الأشخاص عند تحقق عجلة ملحة وضرورة قصوى وخطر محدق تحتم اتخاذها لتعذّر الانتظار واتباع إجراءات التقاضي العادية، لا سيّما عندما يكون من الأفضل عدم إطلاع الفريق الآخر نظراً لعنصر المباغتة الذي يتسم به الأمر على عريضة حماية لمصالح الأشخاص المهدّدة بالضياع أو المعرّضة لخطر شديد، أيّ عند توافر عنصري العجلة والمباغتة،
وحيث فضلاً عمّا تقدّم، إنّ المادة /٥٧٩/ من قانون أصول المحاكمات المدنية تنصّ على أنّه:
“للقاضي المنفرد أن ينظر، بوصفه قاضياً للأمور المستعجلة، في طلبات اتخاذ التدابير المستعجلة في المواد “المدنية والتجارية دون التعرّض لأصل الحقّ، مع الاحتفاظ بالصلاحية الخاصة المقرّرة لرئيس دائرة التنفيذ”. وحيث إنّه سنداً لأحكام الفقرة الأولى من المادة /٥٧٩/ أصول محاكمات مدنية، إنّ الشرط الأساسي لاختصاص قاضي الأمور المستعجلة، هو توافر عنصر العجلة التي تبرّر اللجوء إلى قاضي الأمور المستعجلة بسبب توافر عجلة ملحّة وضرورة قصوى، علماً بأنّ الاستعجال يستمدّ وجوده من طبيعة الحقّ المراد حماية والظروف المحيطة به والتي تهدّده، وأنّه على القاضي أن يقدّر وجوده في الحالة المطروحة عليه،
وحيث إنّه سنداً لأحكام المادة /٥۸۹/ من قانون أصول المحاكمات المدنية، لقاضي الأمور المستعجلة أن يتخذ بناء على طلب أحد الأشخاص، تدابير مؤقتة واحتياطية من شأنها حفظ الحقوق ومنع الضرر،
وحيث إنّ حقّ الإنسان في الحياة والسلامة الجسدية هو من أهمّ حقوق الإنسان، وإنّ القانون وفّر الحماية اللازمة لحقّ الإنسان في سلامة جسمه، كما(أنّه) يحمي حقّه في الحياة، من هنا، فإنّ القوانين الجزائية(التي) تحمي الحقّ في سلامة الجسم وتجرّم كلّ صور الاعتداء على السلامة البدنية للإنسان، وقد جرّمت المواثيق الدولية كافة أفعال الاعتداء الماسة بسلامة جسم الإنسان، سواء كانت عمداً أو خطأ، الأمر الذي يشير إلى تقدير المشرّع لخطورة الاعتداء على حقّ الإنسان في سلامة جسمه، فإنّ المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام ۱۹٦٦، تصف الحقّ في الحياة بأنّه حقّ “ملازم للإنسان”، ما يعني أنّه حقّ طبيعي مستمدّ من الوجود الإنساني، الأمر الذي يتعيّن معه حماية هذا الحقّ وعدم حرمان أحد منه تعسّفاً،
وحيث في ضوء ما تقدّم، فإنّ حقّ المرء في المحافظة على سلامة جسده يستمدّ حرّيته في اختيار العلاج الذي يراه مناسباً وأن يختار المؤسّسة الطبية والاستشفائية التي تناسبه، خصوصاً في ضوء الاعتبارات الشخصية التي تحكم علاقة المريض بالجسم المعالج وعامل الثقة الذي يجب أن يرعى تلك العلاقة،
وحيث في القضية الحاضرة، من حقّ المستدعي أن يختار مغادرة المستشفى المستدعى ضدّه، خصوصاً في ضوء التجربة السلبية التي عاشها لديه والتي تتمثّل بثلاث عمليات جراحية باءت بالفشل، والمضاعفات التي تعرّض لها والتي باتت تشكّل خطراً على حياته، لا سيّما وأنّ عليه الخضوع لفحوصات وتحاليل ليس بمقدور المستدعى ضدّها تأمينها له،
وحيث إنّ إبقاء المستدعي في المستشفى المستدعى ضدّه رغماً عنه ودون إرادته، يعتبر من قبيل حجز الحرّية وحبس الجسد، لا سيّما متى كان بحاجة إلى إجراء فحوصات وتحاليل غير متوافرة لدى المستشفى المستدعى ضدّه، ما من شأنه أن يعرّض حياته للخطر، وأن يشكّل تعدّياً واضحاً على حقّه في الاستشفاء وفي سلامة جسده ما يلحق به أضراراً فادحة، ويؤلّف حالة العجلة الملحّة والضرورة القصوى التي تبرّراتخاذ القرار بموجب أمر على عريضة،
وحيث إنّ ترتّب مبالغ مالية بذمّة المستدعي لصالح الجهة المستدعى ضدّها، لا يجيز لهذه الأخيرة حجز حرّيته وحبس جسده ومنعه من المغادرة إلى مستشفى آخر، ما يجعل موقفها هذا غير مشروع، إذ يبقى لها أن تتوسّل الوسائل القانونية المتاحة للمطالبة بحقوقها وبالمبالغ المتوجّبة لها في ذمّة المستدعي وتحصيلها وفقاً للأصول وعبر توسّل الطرق القانونية المناسبة، ولا يجوز، بالتالي، ممارسة حقّ الحبس على جسد المستدعي المريض بانتظار تحصيل المبالغ المترتّبة بذمّته،
وحيث في ضوء مجمل ما صار بيانه، ترى المحكمة إجابة مطالب المستدعي وإلزام الجهة المستدعى ضدّها بالسماح له بمغادرة المستشفى فوراً، تحت طائلة غرامة إكراهية بقيمة عشرة ملايين ليرة لبنانية عن كلّ ساعة تأخير اعتباراً من تاريخ تبلّغها القرار الحاضر وحتّى إنفاذ مضمونه، عملاً بأحكام المادتين/٥٦٩/ و/ ٥٨٧/ أصول محاكمات مدنية،
لذلك
يقرّر:
أوّلاً: إلزام مستشفى(…. الحكومي) بالسماح للمستدعي(…) بمغادرة المستشفى فوراً، تحت طائلة غرامة إكراهية بقيمة عشرة ملايين ليرة لبنانية عن كلّ ساعة تأخير، إعتباراً من تاريخ تبلّغه القرار الحاضر وحتّى إنفاذ مضمونه،
ثانياً: إبقاء الرسوم والنفقات القانونية على عاتق من عجّلها.
قراراً معجّل التنفيذ نافذاً على أصله صدر في بعبدا بتاريخ 2025/3/6.
“محكمة” – الأحد في 2025/3/16