قرار للقاضي الزعني: الإنذار واجب في إساءة الأمانة و”كورونا” قوّة قاهرة/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
فرضت جائحة “كورونا” نفسها على الحياة البشرية جمعاء، ولم توفّر مجتمعًا وبلدًا وإلاّ وغزته في عقر داره على الرغم من كلّ إجراءات الوقاية وتحصينات الحماية المتخذة على أكثر من صعيد.
وكان من الطبيعي أن تتأثّر العدليات والمحاكم بهذا الظرف الصحّي الطارئ والإستثنائي، وحاولت بإمكانياتها الضئيلة وبما امتلكت من قدرات يسيرة، تسيير الملفّات العالقة بين أيدي القضاة عبر اللجوء إلى الإستجواب عن بُعْد أو الإستجواب الإلكتروني، مع إعطاء الأولوية للأشخاص الموقوفين بهدف تجنيبهم الإصابة بهذه الجرثومة المتنقّلة بشكل سريع ومخيف.
وقد رأينا تفاوتًا في طريقة تعامل القضاة مع الحالات المعروضة عليهم لسجناء وموقوفين بحسب ماهية الجرم المنسوب إليهم والمدعى عليهم به والمتهمين به، وهذا ما أدّى بطبيعة الحال، إلى إخلاء سبيل من تسمح معطيات ملفّه باتخاذ هذه الخطوة من منطلق إنساني لا يتخطّى القانون، أو إبقائه قيد التوقيف الإحتياطي لانتفاء الأسباب المقنعة على الرغم من هاجس اجتياح “كورونا” للسجون والنظارات وأماكن التوقيف، وقد تمكّن في نهاية المطاف من اختراق كلّ التدابير التي سعت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إلى وضعها في طريقه فشهدنا إصابات كثيرة في غير سجن موجود على الأراضي اللبنانية.
وعالج قاضي التحقيق في لبنان الشمالي داني الزعني مسألة موضوع هذه الجرثومة “كوفيد 19” في أحد قراراته الظنّية، وبادر إلى إخلاء سبيل موقوفة من دون أن تكتمل عناصر المادة 108 أ.م.ج. المتعلّقة بتحديد الفترة الزمنية لعملية التوقيف والتي تتيح للقاضي إخلاء سبيل الموقوف في جنحة بمجرّد مرور شهرين على توقيفه، وستّة شهور إذا كان الجرم من نوع الجناية، وهو أخلى سبيل المدعى عليها ضمن قراره الظنّي قبل مرور شهرين على توقيفها بعدما ظنّ بها بجنحة الإحتيال بعكس ادعاء النيابة العامة الاستئنافية بجرم إساءة الأمانة، وهي عادت ونظرت القرار الظنّي ووافقت عليه في تاريخ صدوره.
وبنى الزعني موقفه هذا على مبدأ القوّة القاهرة وحالة الضرورة الصحيّة في ظلّ تفشّي جائحة “كورونا” في طول البلاد وعرضها وفي أرجاء الكرة الأرضية أيضاً، وذلك في مسعى واضح منه للمساعدة في التخفيف من اكتظاظ أماكن التوقيف المعتمدة وعدم تعريض السجين أو الموقوف إلى إصابة جرثومية قد تكون عوارضها قوية وتفتك بروحه وتقضي على حياته.
ولا شكّ أنّ بإمكان قضاة النيابات العامة والتحقيق ومحاكم الجنايات تكييف النصّ القانوني والحالة الجرمية المقدّمة أمامهم ومسألة عدم توفير “كورونا” للناس الأحرار في حركتهم وتنقّلاتهم حتّى ولو أنّهم أبدوا حرصًا مضاعفًا على الإلتزام بالإجراءات الصحيّة السليمة من كمامة ومسافة آمنة وتعقيم وغسل لليدين، فكيف الحال مع سجناء وموقوفين يعيشون في زنازين ونظارات وغرف تفتقد بأغلبيتها، إلى مقوّمات السلامة الصحيّة والبيئية؟ وهذا تصرّف قانوني سليم يعتدّ به في ظلّ القوّة القاهرة المتمثّلة بجائحة لا ترحم صغيراً ولا كبيراً ويمكن اعتماده باستمرار ما دامت هذه الأخيرة منتشرة بغزارة يستحيل توقيفها والتخفيف منها قبل مرور سنتين على ظهورها في نهاية العام 2019 بحسب الدراسات العلمية والطبّية الصادرة عن مختبرات وجامعات ومستشفيات ومنظّمات عالمية.
ولم يكتف القاضي الزعني بمعالجة هذه النقطة المهمّة إنسانيًا، بل أكّد في قراره المؤلّف من ثلاث صفحات “فولسكاب”، ضرورة إرسال إنذار إلى الشخص المعني قبل الإدعاء بجرم إساءة الأمانة وذلك تبعًا لنصّ المادة ٦٧٢ من قانون العقوبات التي تتحدّث عن معاقبة كلّ شخص يحتفظ لنفسه بأموال سلّمت له أو كلّف بجبايتها أو إدارتها، أو مؤتمن عليها من خلال عمله ووظيفته.
فالإجتهاد مستقرّ على أنّ إنذار المشتبه به في نطاق تطبيق نصّ المادة المذكورة “غير واجب” بذريعة عدم اكتمال عناصرها، لكنّ الزعني ارتأى في قراره المبدئي أنّ المادة ٦٧٢ المذكورة غير مستقلّة على الإطلاق عن عناصر المادتين ٦٧٠ و671 اللتين وردتا قبلها في قانون العقوبات، وذلك لسببين إثنين، أوّلهما يتعلّق بالصياغة اللغوية، إذ إنّها أتت مُشدّدة للمادتين المشار إليهما، وثانيهما يرتبط بمضمون الفقرة الثانية من المادة ٦٧٥ من قانون العقوبات والتي تعتبر أنّ إساءة الأمانة والإئتمان المعاقب عليها في المادتين 670 و671 تلاحق عفوًا إذا رافقتها إحدى الحالات المشدّدة المنصوص عليها في المادة 672 عقوبات لجهة تحديد صفة الشخص كأن يكون متوليًا للوقف، أو مديرًا لمؤسّسة أو جمعية ومسؤولًا عن أموالها، أو وصيًا لقاصر وفاقد للأهلية أو ممثّلًا عنه، أو منفّذًا لوصية أو عقد الزواج، أو محاميًا أو كاتبًا للعدل أو مستخدمًا، أو موظّفًا لإدارة أموال الدولة أو الأفراد..
ويتضح من نصّ المادة 671 من قانون العقوبات أنّ الإنذار واجب وحتمي وأمر فعلي وواقعي وإلزامي قبل المبادرة إلى تقديم شكوى ضدّ الشخص المعني المنسوب إليه اقتراف جرم إساءة الأمانة، وبالتالي فقد ذهب الزعني بغير الاتجاه “المعتمد قضائيًا” على الرغم من وضوح النصّ الذي يفرض حصول الإنذار عند المطالبة بالمبلغ المالي المعطى للشخص لكي يوصله إلى صاحبه الحقيقي ويعيد تسليمه له، غير أنّه احتفظ به أو تصرّف به، وتمنّع عن تبرئة ذمّته معرّضًا نفسه للملاحقة الجزائية.
“محكمة” تتفرّد بنشر القرار الظنّي الصادر عن القاضي الزعني كاملاً وذلك على النحو الآتي:
نحن داني الزعنّي قاضي التحقيق في لبنان الشمالي
لدى التدقيق وبعد الإطلاع على ورقة الطلب عدد 2020/19269 تاريخ 2020/9/2 وعلى مطالعة النيابة العامة في لبنان الشمالي والتحقيقات والأوراق كافة،
تبيّن أنّه أسند إلى المدعى عليها: ر. ع. ب. والدتها(…) مواليد 1976، لبنانية.
بأنّه في الشمال وبتاريخ لم يمرّ عليه الزمن أقدمت على إساءة الأمانة بأموال الجهة المدعية خلال فترة عملها لديها. الجريمة المنصوص عنها في المادة 672 عقوبات.
وبنتيجة التحقيق تبيّن ما يلي:
أوّلًا: في الواقعات
كانت المدعى عليها تعمل لدى الشركة المدعية )… ش.م.م) بصفة ممثّلة للشركة المذكورة للمبيعات الطبّية. وأنّه خلال عملها مع الشركة كانت تسلّم منتجاتها لدى جمهور كبير من الأطباء مع تقديم “حوافز” للأطباء والصيدليات لتسويق الأدوية والمنتجات الطبّية خلال وصفها لمرضاهم.
وأنّه تبعًا لما تقدّم، كانت المدعى عليها تسلّم الزبائن من أطباء وصيدليات ومستودعات، الأدوية المتفق عليها، لقاء تسديد ثمنها كاملًا، أو جزئيًا أو على دفعات، إلاّ أنّه بحكم الخلافات التي استفحلت مع المدعى عليها، تبيّن للشركة المدعية أنّ هناك خللًا ما في مجموع الأموال المقبوضة من المدعى عليها والواردة إلى دائرة المحاسبة، لا سيّما وأنّها لم تسلّم جزءًا من الأموال إلى عملاء الشركة أو قبضت شيكات بأسماء وهميّة.
وأنّه خلال التحقيق الإستنطاقي اعترفت بأنّها كانت توقّع بعض الشيكات لأشخاص ثالثين كون لهم بذمّتها أموالاً كالمدعو ل.م. ون. ط. ور. ع. في العام الماضي.
في الأدلّة: تأيّدت هذه الأدلّة بالفواتير المبرزة من الجهة المدعية، وبمدلول أقوال المدعى عليها وبتواريها عن الأنظار لحين توقيفها بموجب مذكّرة غيابية.
ثانيًا: في القانون
أ- لجهة الوصف القانوني
حيث يقتضي بادىء ذي بدء، الإشارة إلى أنّ جرم إساءة الأمانة بالإضافة إلى توجيه إنذار، يفترض إقدام المدعى عليه على استلام مال مادي منقول على سبيل الحيازة الناقصة وضمن إطار عقد من عقود الإئتمان المحدّدة حصرًا في المادتين 670 و 671 ق.ع. وتحويل حيازته من ناقصة إلى كاملة بحيث يمارس على الشيء السلطات التي يتمتّع بها مالكه،
وحيث إنّ مسألة توجيه الإنذار في جرم إساءة الأمانة يرتبط بأساس الملاحقة وتحريك الحقّ العام، لكون أنّ الإنذار هو ركن أساسي من أركان المادة 671 عقوبات،
وحيث إنّ نصّ المادة 672 عقوبات لا يتعلّق بجرم إساءة أمانة مستقلّ عن جرمي المادة 670 و 671 من نفس القانون، بل يتناول ظروفاً مشدّدة لها، وهو ما أكّدت على منطوقه المادة 675 عقوبات.
وحيث لم يتبدّ من معطيات الملفّ الراهن أنّ الجهة المدعية كانت قد وجّهت إنذارًا إلى المدعى عليها فلا تكون عناصر إساءة الأمانة قد اكتملت، ويكون من غير الممكن تطبيق نصّ المادة 672 عقوبات بمعزل عن توافر الأركان القانونية للمادة 671 من نفس القانون، ممّا يقتضي مع ذلك ردّ كلّ ما زاد أو خالف لهذه الجهة.
وحيث إنّه ومن جهة أخرى، وبالرغم من ضمّ الجهة المدعية إلى الدعوى الراهنة فواتير عدّة، صادرة عنها وليس عن أيّ عميل لها أم زبون، إلاّ أنّها تثبت منها مبالغ مذكورة بفواتير مذيّلة بتواقيع المستفيدين من أطباء وصيادلة، كانت المدعى عليها قد استفادت من قيمتها عبر استغلال صفتها لتوقيع شيكات من مال الشركة لأشخاص ثالثين خارج إطار التعامل التجاري المعتاد، كون لهم بذمّتها أموال أو عبر إدراج أسماء وهميّة لا صلة لها بالشركة المدعية والتي حملتها على تسليمها المال بإرادة حرّة إنّما مشوبة بالغلط الذي أوقعتها به المدعى عليها وتداعياته، ممّا شكّل بأفعالها تلك أركان المادة 655 عقوبات،
وحيث يعود لقاضي التحقيق تبعًا لوضعه اليد على الدعوى العامة بصورة موضوعية أن يعدّل أو يغيّر في الوصف القانوني سنداً لما نصّت عليه المادة 60 من قانون أ.م.ج. ممّا يقتضي معه ردّ كلّ ما زاد أو خالف لهذه الجهة أيضاً.
ب- لجهة إخلاء السبيل
حيث يقتضي الإشارة إلى أنّه توازيًا والوباء المتفشّي، المعروف “بكوفيد 19” وإعلان حالة الطوارىء الصحّية من قبل السلطة الدستورية المختصة، ما شكّل على المستوى الوطني قوّة قاهرة داهمة اختزنت حالة ضرورة، أدّت إلى تعريض المواطنين حيثما كانوا حتّى نزلاء السجون منهم، إلى خطر العدوى بجرثومة قد تغدو مميتة.
وحيث إنّه في سبيل السعي للحدّ من خطر العدوى والإصابة في الظروف الصحّية الخطرة في أماكن التوقيف، وبالرغم من عدم تجاوز توقيف المدعى عليها المدّة المحدّدة في المادة 108 أ.م.ج.، وبما للقاضي من سلطة تقدير لاتخاذ القرارات الوقائية لملائمة الأوضاع الخطرة المشكو منها، وتبعًا لماهية الجرم وظروف توفّر أركانه، يقتضي إخلاء سبيل المدعى عليها ر. ب. ما لم تكن موقوفة لداعٍ آخر.
لذلك، وسنداً للمادة 60 من قانون أ.م.ج
نقرّر وفقاً وخلافاً وإضافةً لمطالعة النيابة العامة الاستئنافية في الشمال:
1-منع المحاكمة عن المدعى عليها ر. ع. ب. المبيّنة هويّتها أعلاه بالمادة 672 عقوبات لعدم توافر العناصر القانونية.
2- الظنّ بالمدعى عليها المذكورة بجنحة المادة 655 عقوبات.
3- إخلاء سبيل المدعى عليها خلافاً ما لم تكن موقوفة لداعٍ آخر بكفالة قدرها /3.000.000/ل.ل
4- إيجاب محاكمتها أمام حضرة القاضي المنفرد الجزائي في طرابلس وردّ كلّ ما زاد أو خالف من أسباب ومطالب قانونية.
5- تدريكها الرسوم والنفقات كافة.
6- إعادة الأوراق جانب النيابة العامة الإستئنافية في الشمال لإيداعها المرجع المختص.
قراراً ظنّياً صدر في طرابلس بتاريخ 2020/11/6
“محكمة” – السبت في 2021/1/23
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.