كفاكم عبثاً بأمن القضاة
كتب علي الموسوي:
أمّا وأنَّ السلطة السياسية قرّرت تجريدَ قضاة لبنان من أمنهم الصحّي، وتعريتَهم من حصانة العافية أمام تقلّبات الحياة ودوران القدر، وانتزاعَ السلامة عن أرواحهم، ورمْيَهم في مهبّ القلقِ وصخبِ الأرقِ، ووضعَهم في أتون العدم، وتحجيمَ دورهم في إحقاق الحقّ، دون اعتبار لوجودهم كبشر في الدرجة الأولى، وحقِّهم في عيشة هنيّة، فهذا يعني أنّها تنوي تفريغَ محرابِ العدالة من فرسانه، وإذلالهم والحطّ من عزيمتهم، واستئصال كرامتهم للإنقضاض أكثر على هيبة القضاء، بما يمثّله من حماية للمجتمع وللشعب برمّته، وكملاذ أخير للمُتْعبين من انتشار الفوضى في ربوع الوطن.
إذ كيف يُراد للقاضي أن يُعطي ملء قلبه وعقله، وهو مكسور العافية؟.
وكيف له أن يحكم بالعدل، وأن يقول الحقّ، وأن ينصف هذا وذاك من الناس، وفوهةُ القلق موضوعة على صدغ آماله تتربّص بها شرّاً وتنوي اغتيال الكرامة في كيانه، وهي أثمن ما يملك الإنسان العادي، فكيف إذا كان قاضياً نزيهاً وعصامياً ويتطلع إلى وطن راق لنفسه ولأسرته ولأمّته وللأجيال المقبلة؟.
هل يريدون انتزاع الدواء من القاضي لكي لا يقوى على الحراك؟.
هل يريدون منه استعطاف الموظّف العادي لتسريع ورقة الدخول إلى المستشفى في الملمّات والحالات الطارئة وحيث يكون قاب قوسين أو أدنى من مفارقة الحياة؟.
هل يريدون دفن الطمأنينة بغد أجمل في نفسه، فيمكث رهين الشقاء؟.
هل يريدون منه الإستسلام لرغباتهم وضغوطاتهم فيمنعون عنه أن يكون مثلهم سلطة، وليست أيّة سلطة، بل موازية بحكم الدستور والقانون، لما خصّوا به أنفسهم؟.
هل يريدون من القاضي أن يتزلّف، بدلاً من أن يتعفّف، فلا يكون على قدر المسؤولية الإنسانية والوطنية الملقاة على عاتقه؟.
لماذا مطاردة القاضي إلى فمه لانتزاع اللقمة منه، بدلاً من تعزيزه مالياً ومعنوياً؟.
أيّ منطق هذا الذي يقول بتجريد القاضي من الاستشفاء الصحّي، بدلاً من تشديد مناعته الذاتية بتوفير الأمان الصحّي له قبل أيّ شيء آخر. أوليست العافية زينة العطاء؟.
وأيّ سلطة هذه التي تفكّر بإشعار القضاة الذين يتحمّلون وزر ملفّات تئنّ الجبال منها، بأنّهم مجرّد موظّفين، بينما هم ليسوا كذلك على الإطلاق.
إنّ مجرّد التفكير بإلغاء تقديمات صندوق تعاضد القضاة العدليين، يعني تركهم يواجهون رياح “التعتير”، بما تعنيه من تحريض ممنهج على التخلّي عن الإستقامة والنزاهة، وإنزال العدالة مرتبتها الحقيقية، فهل هكذا تبنى الأوطان؟ وكيف يمكن للدولة أن تتخلّى عن حارس الثقة ببقائها على قيد الوجود؟.
ألم تشبعوا من العبث بمصير التشكيلات القضائية؟.
ألم تشبعوا من التغنّي بأنّ القضاء سلطة ومستقلّة، فلماذا تتراجعون، ومنها تتخوّفون؟.
كيف تفكّرون بتقليص العطلة القضائية في فصل الصيف إلى شهر واحد، وهي في الأساس، فترة راحة ونقاهة من دوّامة العمل على مدار عشرة شهور تقريباً يتخلّلها إجراء تحقيقات ومتابعات ومحاكمات وإصدار أحكام وقرارات؟.
إنّ لفظ الحكم الواحد يتطلّب ضميراً حيّاً وراحة نفسية، وهذا لا يكون في ظلّ قاض مريض، أو قاض مشوّش التفكير ومنهك ومشغول بتأمين الطبابة لنفسه ولأطفاله وأولاده، وتوفير المال لتعليمهم أسوة بأبناء الوطن كلّه، فالأحكام لا تصدر مع صحن “كافيار”، أو طبق منمّق من ثمار البحر، أو “منسف كبسة أرز ولحمة”، أو سدر حلوى، في المنتجعات والشاليهات الفخمة، بل مع إعمال العقل والبحث في متون القوانين، وتحميل النفس مشقّة كبيرة، وفي بعض الأحيان خطورة لا يستهان بها، والأصعب من كلّ ذلك أنّ هذه الأحكام تصدر في محاكم وقصور عدل معظمها لا يليق باسم الدولة اللبنانية.
إنّ هذه العطلة، يا سادة يا كرام، هي مهلة لمدّ الروح بالأوكسجين لمواصلة رحلة البحث عن الحقيقة في الملفّات من أجل إشهارها وإظهارها بأحلى ما يكون العدل والإنصاف، وليست ترفاً كما تتوهّمون، فحذار العبث بها..
وإليكم يا قضاة لبنان… ارفلوا بحرّيّتكم فأنتم أسياد ملفّاتكم..واغضبوا، وانتفضوا، ولا تركنوا إلى سلطة تسعى إلى رميكم في المجهول كما فعلت مع الفقراء من شعبها، لعلّكم توقفون ذهنية التعدّي على ما تمثّلون من سلطة مستقلّة.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 16 – نيسان 2017).