لئلّا تموت نرجس مرّتين.. إبطال التعقبات عن والدها بعدما صدمها بسيّارته دون انتباه/علي الموسوي
المحامي المتدرّج علي الموسوي:
لم يكفه أنّ طفلته ماتت على يديه صدمًا دون أن ينتبه إلى وقوفها خلف السيّارة وهو يقوم بإرجاعها إلى الوراء أمام منزله، فأحيل على المحاكمة بجرم التسبّب بموت إنسان عن قلّة احتراز، وأيّ إنسان؟ طفلته من صلبه ولحمه ودمه.
غير أنّ القاضي أحمد مزهر بصفته قاضيًا منفردًا جزائيًا في النبطية، تلقّف هذا المنحى الإنساني وسارع إلى التخفيف من مضاعفات فقدان الطفلة على قلب من حملها ولاعبها ولعب معها وضحك لضحكتها، واقتنى أجمل الهدايا والفساتين والثياب ليتنفّس غنجها ودلالها وابتسامتها وفرحها وتراقصها، وحلم بأن يراها صبية تختال أمام عينيه، وربّما تحقّق الكثير من أمنياته في مهبّ هذه الحياة. ولا يمكن لأحد أن يعرف معاناة هذا الأب، أو أن يضع نفسه مكانه ويتخايل المشهد الموجع، لأنّ النسيان صعب.
وقد أصدر القاضي مزهر حكمًا قضى بإبطال التعقّبات بحقّ والد الضحيّة من جرم المادة 345 من قانون السير الجديد، المعروف بالقانون رقم 243 الصادر بتاريخ 22 تشرين الأوّل 2012، والتي تنصّ في فقرتها الأولى، حرفيًا على التالي: ” كلّ سائق تسبّب خلال قيادته مركبة بموت إنسان، عن إهمال أو قلّة احتراز أو عدم مراعاة القوانين أو الأنظمة، يعاقب بالحبس من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مليون إلى ثلاثة ملايين ليرة لبنانية.”
وعند صدور هذا الحكم المنتظر لإغلاق جرح لن يمحى من الذاكرة، إزدحمت العَبَرات مع عباراته وكلماته والتي تلوّنت بدموع انهمرت فجأة من عيون القاضي مزهر والمساعدين القضائيين العاملين معه في قلم محكمته، لأنّهم تصوّروا لو أنّ الحادث حصل مع عزيز أو معهم لا سمح الله.
وعبّر مزهر في متن حيثيات حكمه عن أنّ “الحكم بإبطال التعقّبات عن المدعى عليه الذي تسبّب بموت ابنته الصغيرة نرجس لن يعوّض أبًا مكلومًا فقد ابنته في عمر الورود، ولكن بهذه النتيجة يتمّ الإجتناب عن التسبّب بموت نرجس مرّتين”، موضحًا أنّ نتيجة هذا الحكم تتوافق بطبيعة الحال مع الحسّ القانوني السليم والبُعد الإنساني للقضيّة المؤلمة في ظلّ انعدام أركان المادة 345 المذكورة.
“محكمة” تنشر النصّ الحرفي للحكم الصادر اليوم الخميس الواقع فيه 30 تشرين الثاني 2023 والمؤلّف من صفحتين، على الشكل التالي:
“باسم الشعب اللبناني
إنّ القاضي المنفرد الجزائي في النبطية، الناظر في مخالفات السير،
لدى التدقيق،
تبيّن أنّ النيابة العامة الاستئنافية في النبطية أحالت أمام هذه المحكمة بتاريخ 2022/2/3 المدعى عليه:
م.م.م.ب. والدته م.، مواليد 1983، لبناني، سجّل رقم 112/ك.،
وذلك ليحاكم بموجب أحكام المادة 345 من قانون السير الجديد،
وتبيّن، بنتيجة المحاكمة العلنية وبعد الإطلاع على أوراق الدعوى وتلاوتها، ما يأتي:
أوّلًا: في الوقائع:
تبيّن أنّه بتاريخ 2020/7/19 كان المدعى عليه م.م.م.ب. يقوم بإرجاع سيّارته إلى الخلف أمام منزله الكائن في بلدة ك. دون أن ينتبه إلى أنّ طفلته نرجس تقف خلف السيّارة فصدمها ممّا أدّى إلى نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج بعد نزيف حاد في البطن والصدر، ولم ينفع العلاج الذي تقلته في المستشفى وتوقّف قلبها الصغير عن النبض في اليوم التالي وفاضت روحها إلى بارئها.
وتبيّن أنّ الوالد المدعى عليه وعند الإستماع إلى إفادته، حدّد كيفية حصول الحادث على الوجه المبيّن أعلاه، معتبرًا الحادث قضاء وقدرًا، وهو ما أكّدته والدة المرحومة الطفلة نرجس،
وأنّه في الجلسة المنعقدة أمام هذه المحكمة بتاريخ 2023/2/16 حضر المدعى عليه وكرّر إفادته الأوّلية جملة وتفصيلًا، وطلب منحه أوسع الأسباب التخفيفية، وأعلن اختتام المحاكمة أصولًا.
ثانيًا: في الأدلّة:
تأيّدت هذه الوقائع بالأدلّة التالية: الادعاء العام والإسقاط الحاصل، التحقيقات الأوّلية بمراحلها كافة، إقرار المدعى عليه ومجمل أوراق الملف.
حيث وبالعودة إلى مجمل معطيات الملفّ وأوراقه، وبعد التمحيص في كلّ مستنداته، فإنّه لم يثبت مخالفة المدعى عليه لأيّ من الشرائع والأنظمة أثناء قيادته للسيّارة أمام منزله، كما أنّه لم يثبت إقدامه على أيّ فعل يستنتج منه أنّه قام بسلوك متهوّر ينمّ عن عدم تبصّره بعواقب الأمور. هذا فضلًا عن أنّه من غير الثابت أنّه أغفل اتخاذ الاحتياطات التي يدعو إليها الحذر عند رجوعه بالسيّارة إلى الخلف أمام منزله في “ك.” ليكتشف أنّه صدم ابنته نرجس ممّا أدّى لاحقًا إلى وفاتها.
وحيث إنّه لم يثبت من مجمل أوراق الملفّ ولا سيّما في ظلّ عدم وجود تقرير لمكتب الحوادث ارتكاب المدعى عليه لأيّ خطأ بمفهوم المادة 345 من قانون السير الجديد أدّى إلى التسبّب بوفاة طفلته نرجس، فلا تكون أركان المادة المذكورة متوافرة، بما يقتضي معه إبطال التعقّبات في حقّ المدعى عليه.
وحيث إنّ هذه النتيجة التي توصّلت إليها المحكمة بعد بحثها في عناصر النصّ القانوني، تتوافق مع الحسّ القانوني السليم ومع البُعْد الإنساني للقضيّة، وتشكّل إعمالًا للقاعدة الجزائية الناصة على أنّ الشكّ يفسّر لمصلحة المدعى عليه.
وحيث تقتضي الإشارة إلى أنّ الحكم بإبطال التعقبات عن المدعى عليه الذي تسبّب بموت ابنته الصغيرة نرجس لن يعوّض أبًا مكلومًا فقد ابنته في عمر الورد، ولكن بهذه النتيجة يتمّ الإجتناب عن التسبّب بموت نرجس مرّتين.
وحيث من نحو ثالث وأخير، فإنّه في ضوء ما جرى بيانه أعلاه، لم يعد ثمّة داع للبحث في سائر الأسباب والمطالب الزائدة أو المخالفة، إمّا لعدم الجدوى، وإمّا لأنّها لقيت جوابًا ولو ضمنيًا في ما تمّ بحثه، فيقتضي ردّها.
لهذه الأسباب،
يحكم ما يلي:
أوّلًا: بإبطال التعقبات بحقّ المدعى عليه والد الضحية نرجس م.م.م.ب. بجرم المادة 345 من قانون السير الجديد للأسباب المشار إليها أعلاه،
ثانيًا: ردّ ما زاد أو خالف.
ثالثًا: حفظ النفقات.
حكمًا صدر وأفهم علنًا في النبطية بتاريخ 2023/11/30″
“محكمة” – الخميس في 2023/11/30
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.