لهذه الأسباب حجز فيصل مكّي على ممتلكات رياض سلامة/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
ما ان نشرت “محكمة” قرار رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضي فيصل مكّي، بإلقاء الحجز الإحتياطي على ممتلكات تخصّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، حتّى انبرى المستفيدون من هندسات هذا الأخير المالية، من سياسيين ومصرفيين وصحافيين وحزبيين إلى التهجّم على القرار القضائي، من دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء مناقشته بالقانون، أو مقاربته بالحدّ الأدنى المقبول، بلُغَة حقوقية، وهو أضعف الإيمان والواجب الأخلاقي.
وجلّ ما فعله هؤلاء، هو إطلاق تهويل سياسي لن يوقف مسيرة العدالة الحقّة، وينمّ بطبيعة الحال، عن رغبة دفينة في إبقاء القضاء رهينة مصالحهم السياسية.
ووصلت “هَرْغلة” بعض العناوين والتصريحات والبيانات، إلى حدّ النيل من سمعة القضاء والسعي إلى توظيف قرار الحجز الإحتياطي في إطار سياسي ضيّق لا يخدم العدالة في شيء، وكأنّه ممنوع على أحد ملاحقة سلامة، أو كأنّ حاكم المصرف المركزي أكبر من القضاء الذي يريده المدافعون أنفسهم لملاحقة الفقراء وصغار الأجراء دون بقيّة أفراد المجتمع.
ومن أعطى قرار مكّي بُعْداً سياسياً وفي ذهنه أنّه بذلك يخدم سلامة، لا يعرف هذا القاضي الشاب عن قُرْب أو عن كثَب، وهو المتطلّع مع قضاة آخرين إلى تحرير القضاء من التبعية السياسية والطائفية وما يقع تحتها من مصطلحات لا تتطابق مع العدالة الإنسانية والإجتماعية الفعلية والحقّة.
عفوية وإيعاز
ومن دون أن يتمكّن الغيارى على صحّة سلامة من الإطلاع على الشكوى الجزائية المقدّمة من المحامين طالبي الحجز الإحتياطي ومرفقاتها من تقارير ومستندات، بادروا بعفوية وبإيعاز وتنسيق وكلّها سيّان هنا، إلى التهجّم على القرار القضائي، فكيف سمحوا لأنفسهم أن يأخذوا بظاهر القرار المؤلّف من صفحة ونصف الصفحة وتحديداً من 280 كلمة بما فيها العبارات المعتادة في قرارات وأحكام قضائية مماثلة والمتعلّقة بترويسة”الجمهورية اللبنانية، ووزارة العدل…” ولازمة “تاريخ الصدور واسم القاضي وتوقيعه”؟
وكيف استطاعوا أن يبنوا رأياً قانونياً من دون أن يكونوا على دراية ولو سطحية بمحتويات ملفّ الدعوى من مستندات وتقارير؟
عيتاني تتدخّل
ولو لم يرتجف هؤلاء من هذا الحجز الإحتياطي خشية أن يأتي دورهم يوماً ما، لما أيقظوا القاضي نجاح عيتاني من سُباتها وأحلامها وحملوها على القدوم باكراً على غير العادة، إلى دائرة التنفيذ في بيروت باعتبارها رئيسة للدائرة من الناحية الإدارية وليس القضائية، والفارق بينهما شاسع وكبير، لتُصدر تعميماً إلزامياً للموظّفين تمنعهم فيه من”إرسال أيّة استنابة تتضمّن حجز موجودات أو مذكّرة بضبط آلية دون عرضها عليها” في مخالفة قانونية صارخة تستحقّ تحرّك هيئة التفتيش القضائي والإحالة على المجلس التأديبي منعاً للتكرار.
فمن المعروف أنّه لا يجوز لرئيس الدائرة القضائية التدخّل في الشؤون القضائية لأيّ قاض آخر في دائرته، وهذه الصفة لا تعني على الإطلاق أنّه رئيس القضاة، وهي لا تخوّله فرض رأيه أو مواقفه عليهم وعلى الملفّات الموجودة لديهم، فكلّ قاض حرّ في ما يتخذّ من قرارات ويتحمّل مسؤوليتها شخصياً، وتقتصر صفة رئيس الدائرة على تنظيم الدائرة على الصعيد الإداري فقط، ولا يمكنه أن يحلّ مكان محكمة الإستئناف كرقيب، ولا يحقّ له أن يأتي هذا التصرّف أو يفكّر فيه، أو مجرّد أن يلمس مخيّلته.
وقد فات عيتاني أنّه ليس بمقدور موظّفي دائرتها الإنتقال إلى مكان وجود المنقولات في منزل سلامة في محلّة الرابية لحجزها، كونها خارج نطاق دائرتها وتتبع لدائرة تنفيذ المتن، وهذا ما حفّز زميلها القاضي فيصل مكّي على إصدار استنابة قانونية “صالحة للتنفيذ” لرئيس دائرة تنفيذ المتن لتوقيع الحجز المطلوب، كاسراً بذلك تدخّلها غير القانوني ومحاولتها بسط سيطرتها على قرارات قضاة آخرين من دون وجه حقّ في توهّم لممارسة دور يخرج عن نطاق صلاحياتها.
وهكذا أخذ ملفّ الحجز الإحتياطي مساره بشكل طبيعي، ومثل بقيّة الملفّات المعتادة والتي لا تعوز”فذلكة” وشروحات من هذا أو ذاك.
لماذا الحجز الإحتياطي؟
ولأنّ قرار مكّي قضائي وقانوني بامتياز، فلا بأس من جرعة تذكيرية بأمور قانونية ثابتة وراسخة ومتداولة وذلك للتفقّه والإستزادة والتعلّم، لعلّ الذكرى تنفع.
فمن البديهيات المتعارف عليها، أنّ الحجز الإحتياطي يُلْقى لسببين، أوّلهما إذا كان بيد الدائن سند تنفيذي، وثانيهما إذا كان الديْنُ مُرجّحَ الوجود، أيّ يُحتمل قيامه وتحقّقه ويكون مرتبطاً بدعوى مدنية أو جزائية على حدّ سواء. ويعود لرئيس دائرة التنفيذ بما يملك من سلطة تقديرية ترجيح وجود الدَيْن بعدما يقوم بتفحّص المستندات والوثائق المرفقة باستدعاء طلب الحجز المرفوع إليه، ويقدّرها ويحلّلها، فإذا ما وجد أنّ الدَيْن محتمل الوجود بادر إلى إلقاء الحجز الإحتياطي.
هندسات مالية
وتأسيساً على ما تقدّم، يمكن تفسير ما حصل في قرار مكّي بحجز ممتلكات ومنقولات تخصّ سلامة على الوجه التالي:
إنّ الدَيْن أكثر من مُحْتَمل الوجود، وهو ليس مستنداً فقط إلى أقوال وخبريات، بل توجد تقارير تُبيّن وتُؤكّد بشكل لا لبس فيه وجود أخطاء جسيمة لجهة الهندسات المالية التي سلكها سلامة وأرهقت الشعب اللبناني حتّى وقف مذلولاً على أبواب المصارف لاستعادة جنى العمر من أمواله المودعة لديها.
وليس خافياً على أحد أنّ هندسات سلامة المالية رمت إلى تعويم بعض البنوك لغايات شخصية وسياسية، إضافة إلى تنفيذ هذه الهندسات من دون حفظ حقوق مصرف لبنان وأخذ الضمانات الكافية.
كما أنّ سلامة قام بإقراض الدولة من دون حدود ومن دون أفق واضح، وهذا ما يتناقض مع استقلالية المصرف المركزي والمادة 88 وما يليها من قانون النقد والتسليف والتي تفرض عدم إقراض الدولة بشكل مفرط، وتوجب أن يكون هذا الإقراض محدوداً لجهة الكمّية والمدّة الزمنية.
ألم تقل المادة 88 المذكورة إنّه”يجاز لمصرف لبنان أن يمنح الخزينة، بطلب من وزير المالية، تسهيلات صندوق لا يمكن أن تتعدّى قيمتها عشرة بالمئة من متوسّط واردات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها ولا يمكن أن تتجاوز مدّة هذه التسهيلات الأربعة أشهر”؟
لا إذن أمام القضاء المدني
أمّا المناداة بوجوب الإستحصال على إذن لإلقاء الحجز الإحتياطي على أموال حاكم مصرف لبنان، فهو غير صحيح، ذلك أنّ الإستحصال على إذن أمام القضاء المدني أمر غير مطلوب أصلاً، فضلاً عن أنّ الشكوى الجزائية المقدّمة من المحامين والتي استند الحجز الإحتياطي إليها، ليست بحاجة إلى الإستحصال على هذا الإذن، لأنّ المادة 40 من المرسوم رقم 1972/4517 تؤكّد خضوع مصرف لبنان وكلّ العاملين فيه إلى قانون إنشائه فقط، وبالتالي خضوعه صراحةً لأحكام قانون النقد والتسليف دون سواه، وهذا القانون لم يذكر ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد وإطلاقاً، إلى ضرورة الإستحصال على أيّ إذن.
وأكثر ممّا تقدّم، فإنّ الإذن هو استثناء، ولا يجوز التوسّع في تفسير الإستثناء، أو القياس عليه، ولو أراد المشرّع أن يذكر ضرورة الإستحصال على إذن في قانون النقد والتسليف لفعل ذلك صراحةً ومن دون أيّ تردّد.
شيك بقيمة الديْن
ولمّا لم تنفع كلّ محاولات عرقلة تنفيذ قرار مكّي، سواء من خلال تدخّل القاضي عيتاني أو من خلال الصراخ السياسي الذي ثبت باليقين القاطع أنّه لا يقدّم ولا يؤخّر ولا يفيد متى كان القاضي رجلاً متمسكاً بالقانون، رضخ الحاكم رياض سلامة وأودع شيكاً بقيمة الدَيْن مسحوباً على مصرف خارج لبنان حيث توجد أموالُه، وكأنّه لا يطمئن إلى سلوكيات المصارف اللبنانية، وهذا ما سيستلزم رفع الحجز إنفاذاً لمضمون المادة 857 من قانون أصول المحاكمات المدنية معطوفة على المادة 959 منه، والتي تفرض الإبلاغ وانتظار مهلة خمسة أيّام.
وهذه المهلة الموجودة في القانون، هي مهلة قانونية لا يجوز التلاعب بها أو تعديلها أو إنقاصها، كما أنّ النصّ لا يُجيز وقف التنفيذ بمجرّد تقديم طلب رفع الحجز الإحتياطي لقاء شيك مصرفي، إنّما يجب أن يأخذ الأمر مساره القانوني، وبعد مضي الأيّام الخمسة المذكورة يؤخذ القرار.
جرم شخصي
وبشأن الأملاك الخاصة لحاكم المصرف المركزي وشمولها بالحجز، فهذا عائد إلى ارتكابه أخطاء جزائية، وهذا الخطأ الجزائي هو جرم شخصي، وبالتالي تتمّ العودة إلى الذمّة المالية للشخص مرتكب الخطأ حتّى ولو كان شخصاً طبيعياً وممثّلاً للشخص المعنوي، لأنّ للجرم طابعاً شخصياً، ولا يمكن القول إطلاقاً في حال ارتكاب شخص طبيعي ممثّل لشخص معنوي جريمة، بأنّه لا يمكن تحميله مسؤولية شخصية والعودة على أملاكه الخاصة، وإلاّ لأخذ الناس يتخفّون خلف الأشخاص المعنويين لارتكاب الجرائم، فهل تستقيم العدالة مع هكذا تصرّفات وشواذات؟
إنّ كلّ هذه الإجراءات والآلية ليست جديدة في دوائر التنفيذ في بيروت أو في غيرها من المحافظات، وهي طبيعية جدّاً، وتحصل كلّ يوم ومن كلّ القضاة رؤساء دائرة التنفيذ، وتطبّق في كلّ الملفّات ومن دون استثناءات وعلى جميع المواطنين الأثرياء منهم والفقراء، فلماذا الإستهجان ورسم خطوط حمراء حول رياض سلامة؟
كره القضاء
وفي المحصّلة، يمكن اختصار المشهد ببضع كلمات. نعم، فعلها فيصل مكّي وتجرأ وهزّ العصا وحجز احتياطياً على أسهم يملكها الحاكم سلامة في سبعة عقارات وعلى أغراض في منزله في الرابية، فاستيقظ المتضرّرون خشية انكشاف أمر استفاداتهم من هندساته المالية وشنّوا هجومهم الدفاعي، لأنّهم بكلّ بساطة، يكرهون أن يكون القضاء مستقلّاً، ولا يتحمّلون أن يروه خارج إمرتهم، وحيادياً وعادلاً كما يفترض أن يكون.
“محكمة” – الجمعة في 2020/7/24