مبادرة إنقاذية وطنية للخروج من الأزمة الأخلاقية/ملحم خلف
النقيب ملحم خلف*:
في هذه اللحظة التاريخية، في ذكرى مئوية دولة لبنان الكبير، في ذكرى استقلال الجمهورية، في مشهد أبوكاليبتي ظلامي غير مسبوق في تاريخ الوطن، نجتمع اليوم أمامكم: نحن من؟ نحن القوى المجتمعية الحيّة في لبنان، من عائلات روحية ونقابات مهن حرّة وجامعات وفاعليات إقتصادية وهيئات عمّالية وقوى مجتمعية.
نحن أين؟ نجتمع في قصر العدل في بيروت، في قصر العدالة المنهوكة من كلّ شيء، هذه العدالة المنشودة لأمل لبنان!
نحن ماذا نريد؟ نحن لسنا بساعين إلى سلطة، نحن لسنا بإنقلابيين ولا بعنفيين، نحن نريد التغلّب على الواقع المرير بمسار دستوري سلمي حقوقي ديموقراطي، نحن نريد استرداد الدولة بإعادة تكوين السلطة، نحن نريد استرداد الدولة لنعيد بناء الوطن!
نحن بماذا نطالب؟ نحن نعرض مبادرة إنقاذية وطنية بعيدة عن أيّ تجاذبات وعن أيّ مصالح، إنّها خارطة طريق للخروج من الأزمة الأخلاقية التي أطبقت على الحياة العامة، هي مبادرة متكاملة لا تتقارب بجزئياتها بل بكلّيتها، بتواضع، بتعاضد، بشجاعة، ومن دون استثناء أحد، ندعو، أوّلاً، كلّ المواطنين للإنضمام إليها، نطلب، ثانياً، من المعنيين في السلطة، الإطلاع عليها بالسرعة القصوى، نناشد، ثالثاً، العالم كلّه وكلّ ضمير حيّ لمواكبة تنفيذها، فمن خلالها خلاص للبنان وللبنانيين.
اليوم الناس جائعون يائسون. اليوم قرّرنا أن نرفع الصوت، لن يكون لنا وطن، طالما نحن ساكتون، لن يكون لنا وطن، طالما نحن ننأى عن المطالبة بحقّنا في العيش والحرّية والكرامة، لن يكون لنا وطن، طالما نحن نختلف يميناً ويساراً، جنوباً وشمالاً، صلباناً ومآذن. لن يكون لنا وطن، إذا لم نستردّ الدولة بمؤسّساتها!
اليوم الناس متعبون من كلّ شيء. كفاهم أن يسمعوا خطابات رنّانة مكرّرة مملّة فارغة من أيّ وقع على حياتهم وهمومهم. كفاهم أن يسمعوا: واحد يتحدّث عن البطولات، آخر يتحدّث عن المؤامرات، واحد يحكي عن الحرّية، آخر ينادي بالديموقراطية والمساواة، واحد يتحدّث عن الكرامة، آخر ينادي بالعلاقات المميّزة والمتمايزة. كلام وكلام، أنهار من الحبر، أكوام من الفراغ. ألا يكفي؟ بلى يكفي كلاماً.
اليوم الناس تعسون من كلّ شيء. هم مقتولون، جسداً وروحاً، هم مذبوحون، غربة وتهجيراً وحزناً، هم مقهورون مسحوقون حتّى الشرايين وغصّات الصدور. ومن أجل ماذا؟ ألا يكفي؟ بلى يكفي موتاً وتعاسة وقهراً وغربة!
اليوم الناس غاضبون من كلّ شيء. هم غاضبون ممن يدعون أنّهم يعملون لوحدة هذا البلد وسيادته وازدهاره، هم غاضبون ممن يزعمون أنّهم يسعون وراء التصحيح والعدالة، هم غاضبون ممن يوهمون أنّهم يدافعون عن البؤساء والفقراء والمظلومين، هم غاضبون ممن قسّموا الوطن إلى أوطان، والشعب إلى طوائف، والطوائف إلى مذاهب، والأحياء إلى أحياء وطنية وأحياء غير وطنية، والأسماء إلى أسماء محبوبة وأسماء مكروهة مرفوضة. ألا يكفي؟ بلى يكفي غضباً وفعلاً وردود فعل.
اليوم، نحن القوى المجتمعية الحيّة، نحن المجتمعين في هذه القاعة، قرّرنا أن نفجّر صوتنا عاصفة تهزّ الضمائر الملوّثة، قرّرنا التشاور والتحاور لأكثر من ثلاثة أشهر، كسرنا كلّ الحواجز الإصطناعية، أولينا حركة التخاطب المثلى بعمل مضن خلاّق، فأضحى لنا لغة واحدة، مبادرة واحدة جامعة، مبادرة صناعة لبنانية مئة بالمئة، مبادرة تجعل من هذا الليل الطويل فجراً لقيامة وطن الأبرياء والأطهار والطيّبين. مبادرة نقيم فيها سوياً نهجاً جديداً يربط المواطن بالدولة على أساس الحقوق والواجبات ودون أيّ وسيط، نحرّر فيها الدين من الطائفية.
إنّ مبادئ هذه المبادرة، بقدر ما هي تطبيق لمندرجات الدستور ومقرونة بخطوات عملية واضحة المعالم وسهلة التنفيذ، فإنّها بالقدر نفسه على حجم أوجاع الناس وآمالهم. وإنّ مبادئ هذه المبادرة تبقى مفتوحة للنقاش البنّاء بما يطمئن كلّ الهواجس، فلا مسلّمات إلاّ إنقاذ لبنان والعيش الواحد فيه. أمّا المطلوب فواحد: أصحاب الإرادات الصلبة لتنفيذها.
في هذه اللحظة التاريخية، لا خيارات لنا أخرى إلاّ خيار تنفيذ خطواتها: في هذه اللحظة التاريخية نفسها، ونحن نعاني من انهيار الدولة التي صنعها بأحلامهم الكبيرة وسواعدهم المناضلة آباؤنا المؤسّسون للصيغة والميثاق، لن نقبل باستمرار انهيار الدولة وسنستردّها معاً.
في هذه اللحظة التاريخية نفسها، وبيروت الحبيبة منكوبة موجوعة دامعة لكنّها أقوى من إصرارات النحر، وعصية على امتحان الإمتثال للدمار والموت.
بيروت إبنة القيامة والعدالة لروحها وأهلها حقّ لن نتنازل عنه حتّى آخر رمق.
في هذه اللحظة التاريخية نفسها، والشعب اللبناني صامد في وجه استباحة حقوقه الأساسية، يعاند الجوع، ويتفوّق في مقاومته للإنهيارات البنيوية القطاعية لأنّه يؤمن بلبنان، ولن نقبل باستمرار هذا الإستنزاف المستدام لمقدّراتنا وكأنّنا أسرى قدرية مأساة المشتركات بفعل سوء حوكمة ولا مبالاة حكم.
في هذه اللحظة التاريخية نفسها، إذ فيما العالم يعاني كابوس الخوف من الآخر، ويستشعر فيه الشعبويون فرصة للإنقضاض على التنوّع من باب بناء المعازل الإثنية، والإيديولوجية، والدينية، والطبقية، في هذه اللحظة يتعاضد اللبنانيات واللبنانيون في لملمة جراحات فرضت عليهم قسراً ويتكاتفون في الإصرار على بناء دولة المواطنة الحاضنة للتنوّع، وليس هذا البناء بتفصيل، بل هو مدماك الحضارة الإنسانية التي أوجدها أجدادنا في فعل الحرف التواصلي بين أصقاع العالم.
في هذه اللحظة التاريخية نفسها، ولبنان يستحقّ أن ينهض من ركام تجاوز المؤتمنين عليه لحسن الحفاظ على الأمانة التي ولّوا عليها، ولأنّ اللبنانيات واللبنانيين بقدر ما هم معنيون باستعادة مقدّراتهم على كلّ المستويات، بقدر ما هم قادرون على تحديد ملامح الدولة النظيفة الكفوءة المحترفة التي يريدون في المئة عام المقبلة، دولة القانون والحقّ وحقوق الإنسان، دولة الحرّيات الفردية والعامة، دولة الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة، دولة الكفاءة النزيهة، دولة المواطنة الفاعلة، دولة الإيمان بحرّية المعتقد وحرّية الضمير، دولة التعاضد، دولة العيش الواحد تحت سقف الدستور والقانون، دولة مسؤولة عن كلّ مواطنيها تحميهم وتدافع عنهم، تمارس سيادتها الفاعلة وسلطتها الحازمة بعدالة على كامل أراضيها وتصون حدودها بكلّ المعايير الوطنية.
في هذه اللحظة التاريخية نفسها، قرّرنا ألاّ نستقيل من دورنا المبادر في إنقاذ وطننا واستعادة دولتنا وتأمين كرامة مواطنينا.
ليس في قاموسنا من مصطلح للإستسلام.
ليس في مسيرتنا من خيار لليأس.
ليس في تاريخنا من بوصلة غير صناعة الأمل فنحن بنات وأبناء الرجاء.
شريكاتي وشركائي في المسؤولية، في هذه اللحظة التاريخية، وشريكي نقيب المحامين في طرابس العزيز الأستاذ محمّد المراد سيعلن عن مضمون وثيقة هذه المبادرة، نحن أمام التزام أخلاقي نحاكي فيها ضميرنا الوطني كلّ من موقعه، كلّ في اختصاصه، كلّ بحسب إمكاناته، نعلن بجرأة أنّنا سنخوض غمار تنفيذ المبادرة حتّى النهاية، ولسنا في إعلانها اليوم سوى في بداية مسيرة الألف ميل، لكن بمهلة محدّدة، فمواجهة الإنهيارات لا تكون بالمحاصصات والزبائنيات والإستقطابات، والإستنفارات، بل بصحوة ضمير عندنا جميعاً، وبالأولى عند السلطة، فهناك بيت قصيد التعطيل والإستباحة والقفز فوق الدستور ومندرجاته، والدوس على أوجاع الشعب اللبناني.
نحن اتخذنا قرارنا بالبقاء في أرضنا، وفي إنقاذ وطننا، وفي تحقيق آمال أجيالنا الصاعدة، وفي بناء مداميك المئوية الثانية للبنان الكبير، لا كلام بعد اليوم، إنّه وقت العمل الفاعل على حجم كلّ لبنان.
اليوم، أوّل الغيث لقيامة الوطن فعلاً وعملاً، اليوم، قلب لبنان ينبض من جديد.
*ألقيت هذه الكلمة في إطلاق مبادرة إنقاذية وطنية تحت عنوان “معاً نستردّ الدولة” لمناسبة عيد الاستقلال، نظّمت في قاعة “الخطى الضائعة” في قصر العدل في بيروت.
“محكمة” – الإثنين في 2020/11/23