مخالفات قانونية صارخة في ملفّ”الفيول المغشوش”/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
ما أن يبدأ القضاءُ التحقيقَ في ملفّ ما حتّى يتكاثر بشكل مريب ومقصود، تسريبُ المعلومات عن مضامين الإفادات المعطاة أمام الضابطة العدلية أو قضاة التحقيق، وتصبح المحاضر الرسمية متداولة إعلامياً ومنشورة على صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية ومعروضة على شاشات التلفزيونات وذلك في محاولة للتأثير في الرأي العام وتغليب منطق المعلومة الخاطئة على حساب الحقيقة، في مخالفة صريحة للقانون الذي يمنع الإتيان بمثل هذه الأفعال سواء أكانت صادرة عن قضاة أو عن أفراد الضابطة العدلية، أو عن إعلاميين، أو عن أيّ مواطن عادي.
وتنصبّ غاية مسرّبي المعلومات المغلوطة على التشهير وإساءة السمعة والإضرار المعنوي ولو على حساب الإنسان والوطن، ومن دون الأخذ بعين الإعتبار قرينة البراءة التي يجري التفريط بها عن سابق إصرار وترصّد لتحقيق مكاسب سياسية لا تتوافق والعدالة الحقّة.
على أنّ النتائج تكون وخيمة ومخيّبة للآمال عندما يجري التصويب على المستثمرين وأصحاب الشركات الكبرى الذين يجري التنكيل بهم إعلامياً بذرائع قضائية وحجج ساقطة من الوجهة القانونية، فيضطرّون إلى الإنسحاب من سوق العمل اللبناني وإقفال مراكزهم ومقرّاتهم تدريجياً وصرف الموظّفين وقطع موارد رزقهم ومعيشتهم، مع ما في ذلك من آثار سلبية على الوضع الإقتصادي والإجتماعي والحياتي برمّته.
ويعرف كلّ القضاة والمحامين وطلاّب الحقوق والعاملين في الحقل القانوني أنّ التحقيقات الأوّلية والإستنطاقية تتمتّع بسرّية مطلقة لا يجوز التساهل في نشر أيّ حرف منها، وهذا ما تؤكّده بصورة حازمة وجازمة جملة مواد قانونية واردة في متن قانون العقوبات وقانون المطبوعات وتتشدّد في منع إفشاء مضامين التحقيقات وتسريبها تحت طائلة الملاحقة القانونية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، المادة 12 من المرسوم الاشتراعي رقم 104/77 حيث نقرأ أنّه “يحظّر على جميع المطبوعات أن تنشر وقائع التحقيقات الجنائية والجناحية قبل تلاوتها في جلسة علنية”.
كما تنصّ المادة 53 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على وجوب “بقاء التحقيق سرّياً ما لم تحل الدعوى على قضاء الحكم باستثناء ما يتعلّق بالقرار الظنّي مع تعرّض كلّ من يفشي سرّية التحقيق للملاحقة أمام القاضي المنفرد”.
وقد انتهكت حرمة التحقيقات في ملفّات كثيرة عرفتها العدليات في الماضي البعيد والقريب، ولن يكون الملفّ الذي أطلقت عليه صفة “الفيول المغشوش” آخرها، إذ إنّ التعاطي مع هكذا ملفّ دقيق وحسّاس لم يرتق إلى المسؤولية الوطنية والقضائية المطلوبة.
فهل يجوز قانوناً أن يعرف القاصي والداني بمضامين التحقيقات عبر وسائل الإعلام قبل تبلّغها من أصحاب العلاقة وقبل صدور قرار ظنّي فيها؟
وهل يجوز الإنتقائية باختيار ما يناسب طرف ما وإغفال ما يدحضها ويكون هو الحقيقة والأصل؟
وهل مصلحة الدولة تكمن في طرد المستثمرين وأصحاب رؤوس المال الكبيرة حتّى ولو كانوا لبنانيين بدلاً من تشجيعهم على الإستثمار في وطنهم وتقديم التسهيلات لهم لما في وجودهم وبقائهم من انعكاسات إقتصادية وإجتماعية إيجابية يستفيد منها لبنان واللبنانيون؟
وهل يجوز للقاضي أن يكون صحافياً وإعلامياً ويخالف المناقبية القضائية والأخلاقية وموجب التحفّظ وقسم اليمين لغايات محض سياسية تتعارض مع وظيفته الرئيسية في السعي إلى إظهار الحقّ والعمل على إحقاق هذا الحقّ؟
ومنذ متى كانت التحقيقات الأوّلية وادعاء النيابة العامة هي الفيصل في الملفّ مع أنّ الكلمة الأخيرة هي لقضاء الحكم وليس لقضاء الإدعاء الذي تحرّكه الأهواء السياسية؟
ولمصلحة من يجري تضليل الرأي العام؟ وكيف يسمح القاضي للسياسة أن تدخل في ملفّاته وتحدّد مسارها؟ وهل هذا يستوي مع المطلب المحقّ بجعل القضاء سلطة مستقلّة؟
إنّ كلّ من يتابع تفاصيل الملفّ المصطلح على تسميته بـ”الفيول المغشوش”، يدرك تماماً أنّ التعاطي القضائي والإعلامي يتمّ على قاعدة البريء متهم حتّى تثبت براءته، فيما العكس هو الصحيح، فالمبدأ الجوهري الأصلي هو أنّ المتهم بريء حتّى تثبت إدانته، فلمصلحة من يجري اتباع هذه الطريقة الملتوية في ملفّ ظهر أنّه يتعلّق بمصلحة الدولة العليا بعد تأكيد مجلس الوزراء استمراره في تنفيذ العقد الموقّع بين وزارة الطاقة والمياه وشركة “سوناطراك” الجزائرية التي عادت وأبلغت لبنان عدم تجديد العقد إعتراضاً على حفلة التشهير بها؟
وبمجرّد تأكيد مجلس الوزراء إستكمال تنفيذ العقد مع شركة “سوناطراك” يعني وجود علامات استفهام في طريقة فتح ملفّ”الفيول المغشوش” كان يفترض بالقضاء ألاّ ينساق وراءها تحت عنوان “مكافحة الفساد”. على أنّ أهمّ شهادة في هذا الملفّ جاءت من وزير الطاقة الذي وقّع العقد مع شركة “سوناطراك” محمّد فنيش في العام 2005 عندما أكّد في تصريح علني أنّ العقد مع “سوناطراك” تمّ بشروط العقد مع الدولة الكويتية، وأنّ تنفيذه يجري طوال السنين الماضية وفق المصالح المتوخّاة من إبرامه، فلماذا استمرّت حملة التجنّي والإفتراء مثلاً؟
وبحسب قانونيين، فإنّه أمكن رصد جملة مخالفات في ملفّ”الفيول المغشوش” عدا التساؤلات والاستفسارات المشروعة المطروحة آنفاً، هدفت إلى ضرب مصداقية وسمعة أشخاص وشركات على الرغم من أنّ التحقيقات القضائية لم تظهر أيّة علاقة لهؤلاء الأشخاص لهم بكلّ ما سيق من اتهامات بحقّهم، وتمّ التعاطي في هذا الملفّ من دون مراعاة الأصول والإجراءات القانونية والقضائية المعمول بها لجهة استدعاء الشهود بأسلوب يتنافى مع القانون والتعدّي على الخصوصيات، ومداهمة شركات وختمها بالشمع الأحمر ممّا أدّى إلى عرقلة عملها والتشهير بها، فهل هذا يتساوى في الحسابات القضائية مع العدالة المتوخّاة؟
“محكمة” – الأربعاء في 2020/6/10