مسألة “صحّة أم بطلان عقد الهبة العقارية غير المسجّل في السجّل العقاري”/ أنطوني عيسى الخوري
القاضي الدكتور أنطوني عيسى الخوري:
لقد تضاربت النظريّات الفقهيّة حول هذه المسألة:
– فاعتبر بعض المؤلّفين(1) أنّ عقد الهبة العقارية غير المسجّل في السجّل العقاري هو باطل لأنّ التسجيل هو شرط لإنشائه.
– واعتبر البعض الآخر(2) أنّ العقد المذكور هو عقد رضائي، وأنّ التسجيل ليس عنصراً من عناصر إنشاء هذا العقد، بل هو ضروري فقط لنقل الحقّ العيني، موضوع الهبة.
أمّا لجهة الإجتهاد، فقد تطوّر بالنسبة لهذا الموضوع:
– في مرحلة أولى، قبل العام 1958، إعتبرت بعض المحاكم أنّ عقد الهبة العقارية غير المسجّل في السجّل العقاري هو صحيح بعد موافقة الموهوب له لأنّه عقد رضائي، وليس باستطاعة الواهب إلغاء العقد، ومن حقّ الموهوب له فرض التسجيل في السجّل العقاري. غير أنّ بعض المحاكم الأخرى، في تلك المرحلة، إعتبر أنّ هذا العقد هو باطل إنْ لم يسجّل في السجّل العقاري، كون التسجيل هو شرط لإنشائه.
وإبتداءً من العام 1958 وحتّى العام 2010(3) إستقرّ إجتهاد محكمة التمييز على أنّ «عقد الهبة العقارية غير المسجّل في السجّل العقاري هو باطل، لأنّ التسجيل هو شرط لإنشائه»، مرتكزاً، من جهة، على وضوح المادة 510 من قانون الموجبات والعقود(4)، ومن جهة أخرى على كون عقود الهبة العقارية خطرة لأنّها تتعلّق بعقارات، وبالتالي، وفق هذا الإجتهاد، لكي تكون العقود المذكورة صحيحة يجب أن تتوافر فيها بعض الشروط الشكليّة، أي تنظيمها خطيّاً وتسجيلها في السجّل العقاري.
«وبعد إثنين وخمسين عاماً تطوّر هذا الإجتهاد»،
إذ إنّ محكمة التمييز المدنية التي كان لي شرف رئاستها قرّرت بالإجماع بتاريخ 2010/6/1(5) و 2011/5/24 (6) أنّ «عقد الهبة العقارية غير المسجّل في السجّل العقاري هو صحيح»، وذلك بالإستناد إلى ما يلي:
– تنصّ الفقرة الأولى من المادة 267 من قانون الملكية العقارية على أنّه يكتسب حقّ قيد الحقوق العينية العقارية بمفعول العقد.
– تنصّ المادة 228 من القانون السابق ذكره على أنّه يكتسب حقّ القيد في السجّل العقاري بالهبة بين الأحياء.
– تنصّ المادة 48 من قانون الموجبات والعقود على أنّه إذا كان موضوع موجب الأداء إنشاء حقّ عيني غير منقول، كان لصاحبه حقّ التسجيل في السجّل العقاري.
– تنصّ المادة 268 من قانون الملكية العقارية على أنّ موجب إعطاء العقار يتضمّن موجب فراغه في السجّل العقاري وصيانته حتّى الفراغ، تحت طائلة تعويض الدائن من العطل والفوائد.
فيستفاد من المواد السابق ذكرها أنّ الهبة العقارية تنشئ على عاتق الواهب موجب تسجيل نقل الحقّ العيني، موضوع الهبة.
ويتبيّن، من جهة ثانية، من نصّ المادة 508 من قانون الموجبات والعقود أنّه «يبقى للواهب حقّ الرجوع عن العرض ما دام القبول لم يتمّ»، وبالتالي، إذا تمّ القبول من الموهوب له يُلزم الواهب ويتوافر توافق الإرادتين، وينبني على ما سبق قيام العقد وفقاً لنصّ المادة 165 من القانون السابق ذكره لأنّ التئام المشيئتين يرمي إلى إنشاء علاقات إلزامية.
ومن جهة ثالثة، إنّ المادة 507 من قانون الموجبات والعقود تنصّ على أنّه «تتمّ الهبة وتنتقل الملكية في الأموال الموهوبة سواء أكانت منقولة أم ثابتة، عندما يقف الواهب على قبول الموهوب له مع الإحتفاظ بتطبيق الأحكام الآتية». وإنّ المادة 510 من القانون عينه المتعلّقة بالهبات العقارية تقع بعد المادة 507 المذكورة، وبالتالي فهي المقصودة بعبارة «مع الإحتفاظ بتطبيق الأحكام الآتية»، وهي تنصّ على «أنّ هبة العقار أو الحقوق العينية العقارية لا تتم إلاّ بقيدها في السجّل العقاري».
فيقتضي معرفة ما هو المقصود بكلمة «تتمّ» المستعملة في المادتين 507 و510 من قانون الموجبات والعقود.
إنّ الفقرة الأولى من المادة 11 من القرار رقم 188 تاريخ 1926/3/15 تنصّ على «أنّ الصكوك الرضائية والإتفاقات التي ترمي إلى إنشاء حقّ عيني أو إلى نقله أو إعلانه أو تعديله أو إسقاطه لا تكون نافذة، حتّى بين المتعاقدين، إلاّ اعتباراً من تاريخ قيدها ولا يمنع ذلك المتعاقدين من ممارسة حقوقهم ودعاويهم المتبادلة عند عدم تنفيذ إتفاقاتهم».
وبالتالي يستنتج ممّا تقدّم أنّ مفعول الهبة العقارية هو نقل الحقّ العيني، وأنّ نقل هذا الحقّ لا يتمّ إلاّ من تاريخ التسجيل عملاً بأحكام المادة 510 من قانون الموجبات والعقود، إذ إنّ كلمة «تتمّ» المستعملة في المادتين 507 و510 من القانون السابق ذكره لا يمكن أن تعني سوى تنفيذ مفعول عقد الهبة لأنّ العقد قد نشأ، وهذا التنفيذ يتمّ بالتسجيل في السجّل العقاري الذي ينقل الحقّ العيني. وإنّ المادة 511 من القانون عينه تدعم ما سبق ذكره، إذ تنصّ على أنّه « لا يصحّ الوعد بالهبة إلاّ إذا كان خطّياً، ولا يصحّ الوعد بهبة عقار أو حقّ عقاري إلاّ بقيده في السجّل العقاري». فاستعمل المشترع في المادة المذكورة عبارة «لا يصحّ» لبيان بطلان الوعد بالهبة غير المسجّل، ولو كان أراد أيضاً ذلك في الهبة العقارية لكان استعمل العبارة عينها في المادة 510 التي سبقتها، الأمر الذي لم يفعله.
أمّا في ما يتعلّق بحجّة إجتهاد محكمة التمييز السابق للعام 2010 المتعلّق بخطورة عقد الهبة العقارية التي تفرض إخضاعه لشروط شكليّة، فيردّ على ذلك بأنّ قيمة المال المنقول قد ازدادت في أيّامنا هذه، وقد تكون هبة بعض الأموال المنقولة أهمّ وأخطر من هبة العقار، وبالرغم من ذلك يبقى عقد هبة المال المنقول رضائياً دون الحاجة لإخضاعه لشروط شكليّة.
من جهة أخرى، القول إنّ التسجيل في السجّل العقاري هو شرط لصحّة عقد الهبة العقارية يخالف القاعدة الأدبية التي تفرض الأخذ بعين الإعتبار مبدأ حسن النيّة الذي يحتّم واجب عدم الإساءة إلى الغير، بالتالي يفرض الجزاء على الإخلال بهذا الواجب.
فالدائن والمدين بالموجب التعاقدي، وهو موجب إجراء التسجيل في السجّل العقاري، ملزمان بإحترام العلاقة القانونية التي تجمع بينهما بتصرّفهما بحسن نيّة الواحد تجاه الآخر.
وبالتالي إذا اعتبرنا أنّ الهبة غير المسجّلة هي باطلة، نكون قد غلّبنا اللاأخلاقيّة على غيرها من الأمور، لأنّ المتعاقد الذي لم يُقدم على التسجيل هو مذنب، لأنه أخلّ بواجبه بألاّ يسيء إلى المتعاقد الآخر، وبالرغم من ذلك، فلا يلاحق فعله ويكون بمنأى عن الملاحقة القضائية، لأنّ الهبة العقارية باطلة.
وبالنتيجة ينبني على كلّ ما سبق أنّ عقد الهبة العقارية غير المسجّل في السجّل العقاري والذي لا يعتريه أيّ عيب في إنشائه هو صحيح ومنشئ لموجبات، لاسيّما لجهة موجب الواهب بإجراء التسجيل الناقل للحقّ العيني، موضوع الهبة، لأنّ هذا العقد هو رضائي، كعقد هبة المنقول، فهو ينشأ بفعل فقط رضى الفريقين، لأنّ القانون لم يفرض شروطاً شكليّة خاصّة لإنشائه.
هوامش:
1 – إدمون كسبار، الوصايا والهبات والإرث، 1959، ص 219؛ جان باز، القانون العقاري اللبناني، دراسة نظريّة وعمليّة، 1968، ص 199 وما يليها؛ إدوار عيد، الأنظمة العقارية، 1977، ص 270 وما يليها.
2 – زهدي يكن، تفسير قانون الموجبات والعقود، الجزء 8، ص 62 وما يليها؛ مؤلّفنا، الوجيز في القانوني المدني – الأموال (حق الملكيّة والحقوق المتفرّعة عنه)، الطبعة الثالثة، 2009، ص 129 وما يليها؛ كما يراجع باللغة الفرنسيّة :
Bichara Tabbah, Propriété privée et registre foncier, Tome 2, Editions L.G.D.J., 1950, P.407; Emile Tyan, Questions de droit foncier, Annales de la faculté de droit et des sciences économiques de Beyrouth, vol. 41, 1963, PP. 21 et s.; Nicolas Assouad, Les biens, Annales de la faculté de droit et des sciences économiques de Beyrouth, vol. 49, 1966, PP. 253 et s.; مؤلفنا باللغة الفرنسية : La publicité foncière des libéralités immobilières en droit libanais et en droit français comparés, 1986, PP. 155 et s.; Ibrahim Najjar, Droit patrimonial de la famille – les libéralités, 3ème Edition, 1996, PP. 288 et s.
3 – تمييز مدني (الغرفة الأولى) رقم 53 تاريخ 28/4/1958، المجلة القضائية 1958 ص 813؛ تمييز مدني (الغرفة الأولى – الهيئة الثانية) رقم 72 تاريخ 1968/5/10، مجلة العدل 1968 ص 653؛ تمييز مدني (الغرفة الثانية) تاريخ 1974/5/13، مجموعة باز 1974 ص 168 وما يليها.
4 – فوفق هذا الإجتهاد، إن عبارة «n’est parfaite» في الأصل الفرنسي، أي «لا تتم» المستعملة في المادة 510 من قانون الموجبات والعقود المذكورة آنفاً تحتّم تسجيل عقد الهبة العقارية في السجل العقاري كشرط لإنشائه.
5- تمييز مدني (الغرفة العاشرة) رقم 75، مجلة العدل – الجزء 4 – عام 2010 – ص 1630 وما يليها.
6 – تمييز مدني (الغرفة العاشرة) رقم 50، مجلة العدل – الجزء 3 – عام 2011 – ص 1225 وما يليها.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 18 – حزيران 2017).