مقالات

مساوئ “كوفيد 19” كثيرة فهل من إيجابيات؟/سلام عبد الصمد

المحامي الدكتور سلام عبد الصمد:
من المستغرب أنْ يذكرَ الإنسان إيجابيات وفوائد للأزمات، فالأزمات على أنواعها إنْ ذُكرت، لا يُذكرُ معها إلاّ الشدّة وقسوة الحياة، وهي كذلك بدون شكّ؛ إلاّ أنّها ومهما كانت مأساويّة، لديها جوانب إيجابيّة، إذ قد تُولّدُ نماذج عمل جديدة، ما كان للبشر ليُقدِموا عليها لو استمرّوا بممارسة حياتهم وأعمالهم بالروتين المعتاد.
واليوم، في وسط الحديث المرعب والغامض حول مصير لبنان والعالم، في ظلّ انتشار وباء كورونا المُستجدّ، ظهرت عدّة متغيّرات إيجابيّة كبرى طالت مختلف الجوانب، أبرزها: تراجع كبير في مستويات التلوّث، نظافة القنوات المائيّة، تطبيق التكنولوجيا الحديثة للتواصل ومتابعة العمل عن بُعْد، ارتفاع أسهم بعض الشركات التي تُوفّر خدمة بثّ الإجتماعات عن بُعْد والشركات الرائدة بخدمة البثّ الترفيهي والتدريب الإفتراضي، طفرة إبداعيّة مختلفة…
أمّا في لبنان، هذا البلد الذي يخوض معركة مضاعفة، فقد حَلّ فيه وباء الكورونا في توقيتٍ اقتصادي صعب، هذا بالإضافة للأزمة النقديّة غير المسبوقة التي يُواجهها منذ فترة. ولكن رغم كلّ هذه الظروف الاستثنائية، لاحظنا بعض الإيجابيات وعلى مستوياتٍ متعدّدة، جعلتنا ولو بحرقةٍ نقول: “شكرًا كورونا”!
فبعد أنْ كانت هناك بعض القرارات والمراسيم بل وحتّى القوانين تحتاج لأشهرٍ وسنواتٍ كي تُتخذّ، صارتْ تتمُّ بطرفة عين، خاصًّة لناحية تعديل السلطة لسياساتها، ليس فقط الماليّة إنّما الصحيّة والصناعية والتربويّة والقضائيّة.
فعلى الصعيد التربوي مثلًا، ورغم أنّ لبنان لا يزال بعيدًا عن تطبيق نظام التعليم الإلكتروني عن بُعْد بمفهومه الصحيح، إلاّ أنّ انتشار وباء كورونا أَجبر المعنيين على إدخال هذه التجربة بشكلٍ سريعٍ على المؤسّسات التعليميّة، المدارس والجامعات الرسميّة والخاصّة. علمًا أنَّ ظاهرة الجامعة الافتراضية قد سبقتنا إليها عدّة دول، من بينها دول عربيّة مجاورة، كجامعة الإسكندريّة في مصر، والجامعة الافتراضية في سوريا، وجامعة الملك عبد العزيز في السعوديّة، وجامعة القدس المفتوحة، والجامعة العربيّة المفتوحة ومقرّها في الكويت.
وعلى صعيد خدمة المكلّفين، فقد أُجيز تقديم المعاملات الخاصة بهم لدى مديرية الواردات والمصالح المالية الإقليمية في المحافظات، بالإضافة إلى المعاملات الخاصة بالضريبة على القيمة المضافة، وذلك عبر البريد الإلكتروني، على أنْ تتولّى الإدارة إنجاز المعاملة وتبليغ المُكلّف بالطريقة الإلكترونيّة عينها. وهذه خطوة مهمّة وضرورية، تُساهم بشكلٍ كبيرٍ في وقف الهدر وتخفيف الكلفة وتسهيل إتمام المعاملات، بعدما كان التصريح يتمّ سابقًا عبر إحدى مكاتب الليبان بوست Liban Post أو في إحدى المديريات الماليّة المختصّة.
أمّا على صعيد القضاء، وفي خطوةٍ لافتةٍ ومُتقدّمة، أصبحت المحاكمة عن بُعْد واقعًا في المحاكم اللبنانية، حيث بات من الممكن تقديم طلبات إخلاء سبيل الموقوفين أونلاين Online واعتماد الإستجواب الإلكتروني، فضلًا، وهذا الأهمّ، بدأنا نشهد تراجعًا ملحوظًا في التوقيفات، إلاّ في الحالات القصوى أو التوقيف احتياطيًا.
وفي سبيل تسهيل طلبات إخلاء السبيل وتخفيف الإكتظاظ في السجون، بادرتْ كلٌّ من نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس مشكورتيْن إلى إنشاء مركز اتصالcall center ، يتمُّ من خلاله تلقّي طلبات إخلاء السبيل من قبل الموقوفين من أماكن توقيفهم عبر الهاتف، ومن ثمَّ يُصار إلى تعبئة استمارة خاصة في المركز، والمصادقة عليها وفق الأُصول، كي يجري إرسالها (أيّ الإستمارة) من قبل المركز إلى القاضي المعني الذي يتخذّ القرار المناسب، ومن ثمّ يتمّ إعادة القرار إلى مركز التوقيف للتنفيذ.
ويُسجّل لنقابتي المحامين في بيروت وطرابلس، اتّخاذ سلسلة تدابير تُمكّن المحامين من متابعة جميع الإجراءات الهادفة إلى خفض أعداد السجناء البالغ حوالي /7066/ سجينًا، والموقوفين البالغ عددهم حوالي /2408/ موقوفًا. وإنفاذًا لما تقدّم، تمّ إنشاء غرفة عمليات في كلّ من نقابتي المحامين، وبعد أخذ موافقة مجلس القضاء الأعلى، من أجل المساعدة على تقديم طلبات إخلاء السبيل أعلاه، ومتابعتها واستلام القرارات المتصلة بها، وكلّ ذلك عبر الوسائل الإلكترونيّة الحديثة.
وفي سبيل عتماد الإستجواب الإلكترونيّ على الوجه السليم، تمّ وضع الأُسس المناسبة لذلك، من خلال أداء عنصر قوى الأمن اليمين القانونية، عند كتابة محضر الإستجواب وذلك في وجود الشخص المطلوب استجوابه، على أنْ يُوقّع الأخير على محضر التحقيق أو يبصمه. مع التشديد على “ضرورة أن يرسل عنصر الأمن، المحضر، إلى القاضي ورقيًا، في حال تعذّر ذلك إلكترونيًا، فيوقّعه القاضي ويمهره بختمه، وفي هذه الحالة يؤشّر عليه أنّه نسخة إلكترونية إلى حين ورود المحضر الأساسي، فيُوقّعه ويُمهره ويُرفقه ربطًا بالنسخة، على أن “ترسل مذكّرة الترك أو مذكّرة التوقيف بالطريقة نفسها بحسب القانون، فتنفّذ ويعاد إشعار التنفيذ إلى القاضي”.
ولا بدّ من أنْ نُنوه في هذا السياق بتسجيل أوّل حالة استجواب عبر “سكايب” في لبنان، وفي قضايا ذات طابع مدني، جرت من قبل القضاء اللبناني مع شخص موجود خارج لبنان، وتحديدًا في دولة مصر، حيث تمّ الاستناد إلى نصّ المادة 139 أ.م.م.، كما وفي خطوةٍ غير اعتياديّةٍ إنّما في الشق الجزائيّ، قام القضاء باستجواب بعض الموقوفين عبر تطبيق الواتساب.
وفي المحصّلة، يجب الإعتراف بأنَّ المحاكمة عن بُعْد هي تجربة حديثة، كان من غير الممكن اعتمادها لولا وجود هذه الجائحة (كورونا). ولكن نأمل لها النجاح والتوفيق في التطبيق العملي، والجميع معنيُّ بتطبيقها وإنجاحها، لما لها من ميزاتٍ تُوفّر على الجميع الوقت والجهد والنفقات وحماية أمن المجتمع والقضاة والمحامين والشهود وأطراف القضيّة.
ونأمل في الوقت عينه أنْ تحذو المؤسّسات الرسمية في لبنان، حذو القضاء اللبناني ونقابتي المحامين في بيروت والشمال من خلال اعتماد تقنية الفيديو كونفرنسنغ video conferencing عبر مؤسّساتٍ متخصّصة، الأمر الذي يوفّر وقتًا وكلفة انتقال الأشخاص إلى مكانٍ واحد، كما يمنع تعطُّل سير مرافق الدولة، ومعها مصالح المواطنين.
من دون أدنى شكّ بأنّ كورونا هزّ البلد، فأخرج ابتكاراتٍ وغيّر عقلياتٍ ما كانت ستنتقل من مرحلةٍ لأُخرى، لولا ضرورات الأزمة، لينطبق على الوضع المستجدّ بيت شعر المتنبّي: “مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ”. إذ وبينما كانت المؤسّسات – وتحديدًا العامة – تتذرّع بآلاف الحجج لعدم اعتماد الوسائل التكنولوجيّة، باتت اليوم، وتحت ضغط الكورونا – تعمل على تطبيق هذه الوسائل من دون تردّد.
فمرحلة ما قبل كورونا، لن تكون كما بعدها.
ليبقى السؤال الأساس، هل أنَّ أهل الحكم في لبنان عليهم دائمًا انتظار الأزمات لاعتماد جديد التقنيات؟ أليس من الأولى تقديم مصلحة المواطن على أيّة مصلحةٍ أُخرى، ومواكبة التقدّم والتطوّر بمعزل عن المستجدّات، صحيّة كانت أو أمنية أو مالية؟
لنعش ولنر.
“محكمة” – الإثنين في 2021/2/1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!