من “النترات” إلى الحصانات والمحاكم الأربع: أسئلة برسم القرار الإتهامي بانفجار المرفأ/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
إذا كانت الغاية المنشودة من التحقيق بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، معرفة الحقيقة الكاملة عن أسرار وصول شحنة “نترات الأمونيوم” في رحلة بحرية غامضة إلى المياه الإقليمية اللبنانية، وكيفية وقوع الإنفجار، وإماطة اللثام عن الفاعلين وسوقهم إلى العدالة، فإنّها تتجاوز مسألة رفع الحصانات عن النوّاب وإعطاء الأذونات لملاحقة الموظّفين بمراكزهم المختلفة، فلا أحد متمسك بقدسية هذه الحصانات وإنْ كانت نابعة من مبدأ دستوري وقانوني لأسباب متنوّعة معروفة من جميع القانونيين المحترفين غير الغارقين في وحول السياسة اللبنانية، إلّا أنّ الأهمّ تقديم رواية متكاملة تروي ظمأ الرأي العام المحلّي تحديدًا، إلى الحقيقة النافعة، وتمنع الإفلات من العقاب للحؤول دون اصطياد اللبنانيين بانفجار مماثل في أيّ مكان عام أو خاص.
بانتظار القائمة الثانية
وقد رمى المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار حجر رفع الحصانات في مياه السياسة اللبنانية وجلس يتفرّج ويتأمّل الإرتدادات والتداعيات، من دون أن يستتبعها بحجر آخر يطيح حصانات سياسية وأمنية أخرى كان الناس موعودين بها وهي معروفة من خلال التسريبات المتاحة لمضامين تحقيقات يفترض أنّها تحمل طابع السرّية، ممّا خلق التباسًا وربّما شكوكًا كان في غنى عنها، لذلك كان من الأفضل على القاضي البيطار أن يحشد الحصانات في سلّة واحدة وكفّة واحدة، بحيث لا يكون هنالك أيّ استغلال سياسي من هذا الفريق أو ذاك، على مشارف الإستعداد للإنتخابات النيابية المفترضة في أيّار 2022.
تسعة قضاة على الأقلّ
وعرّضت الإستنسابية والإنتقائية في اختيار شخصيات “قائمة 2 تموز” التحقيق لوعكة لن يخرج منها، ما لم يكشف البيطار عن شخصيات القائمة الثانية، ومن بينها من دون أدنى شكّ، قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون، ومدير المخابرات السابق طوني منصور، ورئيس الأركان السابق اللواء وليد سلمان الذي وقّع بناء لطلب العماد جان قهوجي كتاب التقاعس الشهير عن التصرّف بمادة “نترات الأمونيوم” والتخلّص منها وأقلّه رفعها من المرفأ إلى مكان آخر على غرار ما حصل مع كمّية من هذه المادة وجدت هناك بعد 4 آب 2020، فضلًا عن وزراء العدل والداخلية ورؤساء الحكومات الذين شغلوا مواقعهم بين 2013 و2020، من دون أن ننسى القضاة المعنيين في دائرة التنفيذ(ثلاثة قضاة) وقضاء العجلة في بيروت(ثلاثة قضاة) وهيئة القضايا في وزارة العدل(قاضيان على الأقلّ) ممن أتاحت لهم وظيفتهم النظر في ملفّ السفينة “روسوس” من دون أن يحرّكوا ساكنًا تجاه “نترات الأمونيوم”.
أربع محاكم
وإزاء تشعّب التحقيقات وربّما “شبهة” المسؤوليات بين سياسيين وأمنيين وقضاة، بانتظار ما تحمله سطور القرار الإتهامي من مضامين واعتبارات، فهذا يعني أنّنا سنكون أمام أربع محاكم، وأنّ المجلس العدلي، وهو أعلى هيئة قضائية جزائية في لبنان لن يكون المسرح الوحيد للمحاكمات حتّى ولو كانت جريمة انفجار المرفأ محالة عليه بمرسوم من مجلس الوزراء، إذ يقتصر دوره على المدنيين والعسكريين من موظّفين وعمّال وضبّاط،
فيما تنظر محكمة التمييز الجزائية في أمر قضاة التنفيذ والعجلة وهيئة القضايا، عملًا بما يفرضه قانون أصول المحاكمات الجزائية في مواده المحصورة بين 344 أ.م.ج. و 354 أ.م.ج.،
وتُؤلَّفُ هيئة قضائية خماسية لمحاكمة النائب العام التمييزي في حال تقرّرت ملاحقته وفقًا لمندرجات المادة 354 أ.م.ج.،
وتكون المحكمة الرابعة هي المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء للبتّ في مصير ما قد يتهمّ به الوزراء نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل ويوسف فنيانوس ورئيس مجلس الوزراء حسّان دياب ومن قد ينضمّ إليهم في قائمة البيطار الثانية.
الدستور أوّلًا
وإذا كانت الحصانات والأذونات الملهاة التي شغلت الرأي العام بعض الوقت في تموز 2021، إلّا أنّها ليست الأساس، فماذا لو اعتبر المجلس النيابي المعطيات المقدّمة من القاضي البيطار غير كافية للظنّ والإحالة على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء؟ لذلك فإنّ السؤال الجوهري لا يكمن في ما إذا كان مجلس النوّاب سيرفع الحصانة أم لا، بل هل سيلاحق من خلال المجلس الأعلى المذكور من يمكن الظنّ به بحسب معطيات القضيّة من الرؤساء والوزراء أم يتقاعس عن تشغيل محرّكات الملاحقة؟!
على أنّ المحقّق العدلي وكما سبق لـ“محكمة” أن كتبت، أخطأ في احتفاظه لنفسه ولصفته القضائية بحقّ ملاحقة الرؤساء والوزراء والنوّاب بعكس ما يقول الدستور اللبناني، واعترف بحقّ النيابة العامة التمييزية في ملاحقة القاضيين جاد معلوف وكارلا شواح بحسب منطوق أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية، فهل يعقل أن يكون قانون الأصول المذكور أقوى من الدستور علمًا أنّ الدستور يعلو القانون؟
وثمّة خطأ شكلي آخر، فالكتاب الموجّه من القاضي البيطار إلى المجلس النيابي يتهم نوّابًا بارتكاب جرائم جزائية ويطلب رفع الحصانة عنهم تمهيدًا لملاحقتهم، بينما الواقع أنّنا إزاء شبهة بارتكاب الوزراء الأربعة زعيتر والمشنوق وحسن خليل وفنيانوس لجرم جزائي في معرض ممارسة عملهم الوزاري، لذلك كان يتوجّب على القاضي البيطار إحالة الملفّ على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لا طلب رفع الحصانة عن ثلاثة من هؤلاء الأربعة بحكم أنّهم أعضاء في المجلس النيابي، مثلما فعل في إحالة الملفّ على النيابة العامة التمييزية لملاحقة القضاة.
السنيورة وبرسوميان
فالغاية تتمثّل في محاكمة الوزراء على إخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم في حال ثبوتها، وليس رفع الحصانة عن النوّاب، وقد كان الدستور اللبناني واضحًا لجهة تحديد الجهة المخوّلة بمحاكمة هؤلاء وهي المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إذ ورد في سياق المادة 80 من الدستور أنّ مهمّة المجلس الأعلى محاكمة الرؤساء والوزراء معطوفة على المادة 71 من الدستور التي تتحدّث بدورها عن أنّ رئيس مجلس الوزراء والوزير المتهم يحاكم أمام المجلس الأعلى.
وليس من مهام المحقّق العدلي أن يعتبر نفسه صالحًا بداعي عدم تفعيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، فهذا الأمر يخرج عن نطاق المهمّة المسندة إليه والتي تنتهي بإصدار قراره الإتهامي، علمًا أنّ المجلس الأعلى موجود، لكن لم يسبق له أن حاكم أحدًا من الرؤساء والوزراء، وملفّا الرئيس فؤاد السنيورة والوزير شاهي برسوميان لم يصلا إليه، إذ انتهيا في أحضان المجلس النيابي بعد اتباع الإجراءات بطلب الإتهام بموجب عريضة، ونشوء لجنة تحقيق برلمانية، ووضعها تقريرًا، والتئام المجلس النيابي في جلسة واستماعه إلى التقرير ومرافعتي الإدعاء والدفاع من دون أن يصدر قرار الاتهام لكي يحاكمهما المجلس الأعلى المذكور.
وأيضًا لدى المجلس العدلي والمحقّقين العدليين ملفّات تغطّ في سبات عميق ولا توقظها إلّا المصالح السياسية حتّى ولو كانت نتيجتها دون رضا الجمهور والرأي العام مثلما حصل في جريمة اغتيال القضاة الأربعة في قصر عدل صيدا القديم، من دون إغفال أهمّية انفجار مرفأ بيروت وعدد الضحايا والجرحى والأضرار المعنوية والمادية والنفسية.
إنفجار وليس تفجيرًا
ويتضح من سطور الكتاب الموجّه من القاضي البيطار إلى المجلس النيابي وما ورد فيه من مواد ادعاء أنّه حسم أنّ ما حصل في المرفأ في 4 آب هو انفجار وليس تفجيرًا، كما أنّه استخدم عبارة “انفجار”، ذلك أنّ اعتباره الجريمة تفجيرًا يُسقط ادعاءه على الوزراء.
شقّة معوّض
وليس من المنطقي الإيحاء على طريقة المحقّق الدولي الألماني ديتليف ميليس بأنّ الوزراء الأربعة شكّلوا مشروعًا جرميًا واحدًا، على غرار ما حصل مع الضبّاط الأربعة جميل السيّد وعلي الحاج ومصطفى حمدان وريمون عازار الذين جمعهم ميليس في شقّة معوّض في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت قسرًا، من ضمن الألاعيب التي مارسها في التحقيق لهدر الوقت وزيادة الصراعات الداخلية والمساعدة في تحقيق غايات سياسية محض لبنانية وتبيّن مع الأيّام تلاشيها.
نظرية التلحيم
وبالعودة إلى الأصل، وفي ظلّ سقوط نظرية تلحيم باب العنبر رقم 12 وتسبّبها بإشعال “نترات الأمونيوم” لانعدام تطاير شرارات نارية من آلة التلحيم، فضلًا عن أنّ التلحيم حصل من الخارج وليس من الداخل، بعكس ما ورد في تقرير “شعبة المعلومات” في قوى الأمن الداخلي ، فأين هو دور هذه “الشعبة” في اكتشاف سرقة “نترات الأمونيوم” وهي السبّاقة وبإجماع الجميع منذ العام 2006 في اكتشاف جرائم بقضايا مختلفة وكبيرة حتّى ولو كانت تقع ضمن اختصاص فصائل ومكاتب ومفارز أخرى تابعة لقوى الأمن الداخلي أو من صميم عمل أجهزة أمنية أخرى؟
وقد بقيت “نترات الأمونيوم” في العنبر رقم 12 سنوات من دون أن يقوم أحد بأمر ما تجاهها. فمن سرق كمّية منها؟ وهل يعقل أنّ كلّ الأجهزة الأمنية اللبنانية عاجزة عن معرفة السارق؟ إذن ماذا كان يفعل ضبّاطها وعناصرها في حرم المرفأ؟ ومن وضع شحنة “النترات” إلى جانب مفرقعات وربّما صواعق؟ ووجود الغيمة ذات اللون البرتقالي دليل على وجود مواد أخرى غير “نترات الأمونيوم”، فما هي؟ وهل جرت معرفتها؟
ثمّ ألا تقع مسؤولية ما على من كان في موقع مفوّض الحكومة في المحكمة العسكرية الدائمة إبّان فترة دخول السفينة مرفأ بيروت في العام 2013 ووقوع الإنفجار في 4 آب 2020، وذلك لعدم طلبه من المعنيين عسكريًا وأمنيًا دَهْم العنبر رقم 12 ورفع “نترات الأمونيوم” والتخلّص منها في أماكن مخصّصة لهذا النوع من المواد القابلة للإشتعال، على غرار ما يفعل أيّ قاض في سدّة المسؤولية في النيابات العامة عندما يعرف بوجود مادة ما تشكّل خطرًا على السلامة العامة؟
أسئلة بحاجة إلى أجوبة في متن القرار الإتهامي إلّا إذا قرأناها قبل ذلك في وسائل إعلامية محدّدة من ضمن التسريبات الكثيرة عن التحقيق من دون أن يتحرّك أحد لمعرفة المسرّب، وإن كان معروفًا في بعض الأحيان، وأسباب التسريب، وما إذا كان هذا الأمر يستحقّ الملاحقة القضائية عملًا بالأصول المرعية الإجراء في هكذا حالات.
“محكمة” – الإثنين في 2021/7/19
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.