من انتصر بالحرب: صمود لبنان أم قتل العدو الإسرائيلي للمدنيين؟/حبيب الشاويش
النقيب حبيب الشاويش:
في كل حروب الكون، لا يوجد رابح وخاسر. انما هناك خاسر أكبر، وخاسر اقل منه وطأةً غالباً ما يطلقون عليه تعبير “المنتصر”. فالحرب ليست نزهة او ضوضاء على شبكات التواصل الاجتماعي، بل هي دمار واصابات بشرية وخسائر اقتصادية وتحولات سياسية واجتماعية.
بدأت الحرب بين لبنان والعدو الإسرائيلي في 8 تشرين الأول /أكتوبر 2023 كجبهة إسناد لحرب غزة، ثم تحولت بتاريخ 17 سبتمبر 2024 إلى عدوان شامل على لبنان. مع نهاية الصراع الذي دام 71 يوماً، برزت تساؤلات عميقة حول الطرف المنتصر. كما لا بد من التنبه ان لبنان كان يقاتل بمجموعة من مقاومته امام جيش نظامي بكامل عديده، وبالتالي، من ناحية منطقية، من غير المتوقع قيام لبنان بهزيمة الجيش النظامي.
لفهم من خسر أكثر في هذه الحرب، يجب دراسة المرحلة الأولى (جبهة الإسناد) والمرحلة الثانية (العدوان الإسرائيلي) وفقًا لمعايير سياسية، عسكرية، اقتصادية، اجتماعية، ودولية.
المرحلة الأولى: جبهة الإسناد (8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 – 17 أيلول/ سبتمبر 2024)
أهداف المقاومة:
كانت أهداف المقاومة اللبنانية في هذه المرحلة واضحة ومركزة على:
– إسناد جبهة غزة.
– ضرب الاقتصاد الإسرائيلي.
– تهجير سكان شمال الأراضي المحتلة لخلق ضغط سياسي على حكومة نتنياهو لوقف الحرب على غزة.
تحقيق الأهداف: خلال 11 شهرًا من المواجهات الحدودية، حققت المقاومة أهدافها الاستراتيجية، مما يجعلها المنتصرة في هذه المرحلة بناءً على المعايير التالية:
1. المعايير الاستراتيجية:
– شل الحياة في الشمال: تمكنت عمليات المقاومة من تعطيل الحركة الاقتصادية والتعليمية بشكل شبه كامل في شمال الأراضي المحتلة، مما أدى إلى فرار عشرات الآلاف من المستوطنين.
– ضرب مشروع تل شمايم: استطاعت المقاومة تدمير مشروع “تل شمايم” الخاص بالمنطاد العسكري المتطور الذي كلّف العدو الإسرائيلي مليارات الدولارات.
– اسناد جبهة غزة: عملت جبهة الاسناد عن سحب العديد من قوى الجيش الاسرائيلي باتجاه الشمال، ما خفف الضغط عن جبهة غزة.
2. المعايير العسكرية:
تفوق عسكري: خلال هذه المرحلة، لم يتمكن العدو الإسرائيلي من اجتياح الجنوب اللبناني أو تدمير البنية التحتية العسكرية للمقاومة على الرغم من القصف المكثف.
استنزاف الجيش الإسرائيلي: استدعاء جنود الاحتياط إلى الحدود الشمالية أضعف تركيز الجيش على جبهة غزة وأرهق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
3. المعايير الاقتصادية:
تعطيل المصانع: معظم المصانع الإسرائيلية تتركز في الشمال، ما أدى إلى توقفها عن العمل نتيجة القصف المستمر وهجرة العمالة.
ضرب الاقتصاد المحلي: استدعاء الاحتياط أثّر سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث أن جنود الاحتياط هم اشخاص مدنيين لديهم عملهم الخاص يتم استدعائهم في الحرب، والعديد منهم هم من الفئات الاقتصادية المؤثرة (التجار وأصحاب رؤوس الأموال). كذلك، ادّت الحرب الاسرائيلية ضد المدنيين وعدم وجود بيئة استثمار آمنة الى انسحاب معظم الشركات المتعددة الجنسيات ما خلّف اضرار اقتصادية بمليارات الدولارات.
4. المعايير الاجتماعية والنفسية:
تهجير السكان: أدى استهداف المقاومة للمستوطنات إلى نزوح جماعي لسكان شمال الأراضي المحتلة، مما خلق أزمة اجتماعية ونفسية عميقة.
تأثير معنوي: الضغط النفسي على المستوطنين أفقدهم الثقة بقدرة الحكومة الإسرائيلية على حمايتهم.
5. المعايير الدولية:
فقدان الشرعية الدولية: تصاعد العمليات الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة وفي لبنان ادّى لانتقادات واسعة على الكيان من المجتمع الدولي.
المرحلة الثانية: العدوان الإسرائيلي الشامل على لبنان (17 أيلول/ سبتمبر 2024 – 27 تشرين الثاني/ نوڤمبر 2024)
بعد مرحلة جبهة الإسناد التي استمرت لمدة 11 شهرًا، دخلت الحرب بين لبنان والعدو الإسرائيلي مرحلة جديدة بدأت في 14 سبتمبر 2024، عندما كشفت المقاومة عن عملية عسكرية استخباراتية معقدة قادها العدو الإسرائيلي. العملية استهدفت سلسلة التوريد الخاصة بأجهزة البايجر والبطاريات اللاسلكية التابعة للمقاومة منذ عام 2009 واستمرت محاولة تنفيذها 15 عامًا، حيث تم زرع متفجرات داخل 15,000 وحدة بايجر وبطاريات. بعد تنبه المقاومة للأمر، تمكنت من سحب 10,000 وحدة، لكن العدو علم تنبهها للأمر واسرع بتفجير الـ 5,000 وحدة المتبقية، ما أسفر عن وقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى.
تُعتبر هذه العملية واحدة من أخطر العمليات العسكرية في التاريخ الحديث بسبب تعقيدها ونتائجها الكارثية. كما أنها مثّلت انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، مما أدى إلى موجة من الغضب الدولي ضد الكيان الصهيوني.
تصعيد العدوان: الاغتيالات وضرب القيادة
بعد عملية البايجر، انتقل العدو إلى مرحلة جديدة من التصعيد، حيث استهدف قادة الصف الأول للمقاومة، ومن بينهم فؤاد شكر وإبراهيم عقيل. ثم جاءت الضربة الأكبر في 23 سبتمبر 2024، المعروفة بـ”الاثنين الأسود”، حيث استهدف العدو أكثر من 3000 هدف في لبنان، بما في ذلك قيادات المقاومة ومراكز عمليات رئيسية وبيوت ومؤسسات المدنيين ومراكز للجيش اللبناني والصليب الاحمر والدفاع المدني.
توالت الاغتيالات بعد ذلك لتشمل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ورئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، الذي يُعد الرجل الثاني في المقاومة. استمرت سلسلة الاغتيالات لتشمل معظم قادة الصفين الأول والثاني، مما أحدث صدمة كبيرة في بنية القيادة العسكرية والسياسية للمقاومة.
أهداف العدو الاستراتيجية
بعد النجاحات الأولية التي حققها العدو في استهداف قيادة المقاومة، أعلن بنيامين نتنياهو عن أهداف استراتيجية طموحة تضمنت:
– احتلال منطقة جنوب الليطاني بالكامل وضمها إلى الكيان الصهيوني.
– إزالة الوجود الشيعي من لبنان وتهجير سكانه إلى العراق.
– القضاء التام على المقاومة اللبنانية ومصادرة ترسانتها العسكرية.
رافق ذلك تطبيق سياسة “الأرض المحروقة”، التي تقوم على تدمير كامل للأراضي والبنية التحتية اللبنانية باستخدام سلاح الجو، تلاه محاولة إدخال القوات البرية لاحتلال الأراضي.
ومع ذلك، ومع مرور الوقت، واجه العدو فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافه. لم يتمكن من احتلال أي قرية لبنانية، وظلت المقاومة تُطلق الصواريخ الثقيلة على تل أبيب وحيفا. بل إن أهداف نتنياهو بدأت بالتراجع تدريجيًا لتصبح:
عملية برية محدودة من خلال دخول القوات البرية إلى أجزاء صغيرة من جنوب لبنان لتدمير البنية التحتية للمقاومة. اضافة الى استبدال قوات اليونيفيل بقوة متعددة الجنسيات مكونة من الجيشين الأميركي والبريطاني تعمل تحت الفصل السابع، لمنع عودة السكان اللبنانيين إلى جنوب الليطاني، وفرض قيود صارمة على نشاط المقاومة.
رغم ذلك، استمرت المقاومة بتنفيذ العمليات، لا بل بدأت بالتصعيد واستهداف العدو بصواريخ فرط صوتية وصلت إلى عمق تل أبيب. وبعد مرور شهرين من العدوان، وافق العدو الإسرائيلي على وقف إطلاق النار، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701، مما يعني عدم تحقيق أي من أهدافه الاستراتيجية باستثناء عودة سكان الشمال الذين يرفضون العودة بوجود المقاومة الحالي.
المعايير لتقييم المرحلة الثانية
1. الأهداف الاستراتيجية
لبنان: رغم تعرض مقاومته لضربات مؤلمة على مستوى القيادة، حافظت على قدرتها العملياتية واستمرت في إطلاق الصواريخ وتنفيذ العمليات النوعية. كما تمكنت من إفشال خطط العدو لاحتلال أي أراضٍ لبنانية أو فرض تغييرات سياسية جذرية.
العدو الإسرائيلي: فشل في تحقيق أهدافه المعلنة، سواء على مستوى السيطرة على الأرض أو تدمير البنية التحتية للمقاومة. تراجعت أهدافه من القضاء على المقاومة إلى مجرد محاولة وقف الصواريخ، دون تحقيق ذلك بالكامل.
2. المعايير العسكرية
لبنان: مما لا شك فيه انه كان من المتوقع ان تضرب المقاومة العدو بغزارة وحزم اكثر، الا ان الضربات المتتالية لعديدها وقيادتها خفف من وطأة هجومها. مع ذلك، أظهر لبنان صموداً إستثنائياً، حيث منعت مقاومته تقدم الجيش الإسرائيلي رغم استخدام الأخير لأحدث الأسلحة والتقنيات. مقارنة بحرب 1982، حيث وصلت القوات الإسرائيلية إلى بيروت في غضون 4 أيام، وحرب 2006 التي وصلت فيها إلى مرجعيون خلال يومين، فشل العدو في حرب 2024 في تحقيق أي تقدم على الأرض، رغم مرور أكثر من شهرين.
كذلك، يعتبر لبنان اول بلد يستهدف منزل رئيس وزراء الكيان، كما تم استهداف منزل قائد القوات الجوية، وقتل قائد اركان لواء جولاني، اضافة الى تدمير اكثر من 63 دبابة اسرائيلية.
العدو الإسرائيلي: تكبد خسائر بشرية كبيرة، وأظهر عجزًا في مواجهة صواريخ المقاومة، خاصة الصواريخ الباليستية التي ضربت العمق الإسرائيلي. الا انه قام باستهداف حوالي 4000 شهيد لبناني.
3. المعايير الاقتصادية
لبنان: لم تؤثر الحرب على الوضع الاقتصادي كونه كان يعاني من وقف الاستثمارات وركود القطاع المصرفي حتى قبل الحرب. الا انه عانى من خسائر مادية كبيرة بالممتلكات نتيجة القصف الإسرائيلي المكثف.
العدو الإسرائيلي: تعطلت حياة الشمال الإسرائيلي بالكامل، مع توقف المصانع والمدارس وهجرة السكان، اضافة الى استنزاف هائل في ميزانية الدفاع، خصوصًا تكلفة منظومة القبة الحديدية التي أثبتت محدودية فعاليتها أمام صواريخ المقاومة.
زد على ذلك تدمير 8800 وحدة سكنية في الداخل الإسرائيلي نتيجة ضربات المقاومة.
4. المعايير الاجتماعية والنفسية
لبنان: رغم الخسائر البشرية والمادية، حافظ البلد على دعم ووحدة شعبية واسعة داخل لبنان وخارجه. الا ان اعداد الشهداء وصلت لحدود 4000 شخص ما ادى لازمة نفسية عند البعض. اضافة الى معارضة بعض الاشخاص الحرب في لبنان ما يعكس عدم رضاهم النفسي والاجتماعي.
العدو الإسرائيلي: فقد سكان الشمال الثقة بالحكومة، وتصاعدت الدعوات لإقالة نتنياهو. اضافة الى الأزمات النفسية والاجتماعية الناجمة عن النزوح الجماعي لسكان الشمال ستترك أثرًا طويل الأمد.
5. المعايير الدولية
لبنان: حصل على تعاطف دولي كبير نتيجة العدوان الوحشي.
اضافة الى ارتفاع التأييد الدولي لموقفه كمقاومة شرعية ودعم المظلومين في غزة، اضافة الى صدور وعود من دول بمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين.
العدو الإسرائيلي: فقدان كبير للشرعية الدولية نتيجة استهداف المدنيين وخرق القانون الدولي. رغم ذلك، استعاد بعض التأييد من حلفائه التقليديين بعد اغتيال قيادات حزب الله.
مذكرات توقيف دولية: صدرت مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالنت، مما أضعف موقف العدو الإسرائيلي على الساحة الدولية مع توعد العديد من الدول بتنفيذ المذكرات.
6. المعايير السياسية
لبنان: تمكن بفضل مقاومته وصموده من فرض معادلة جديدة تجعل من جنوب لبنان جبهة تهديد دائم للعدو. اضافة الى كشف موقف بعض الأطراف الداخلية اللبنانية التي شمتت بقتل اللبنانيين واخذت تراهن على “ما بعد المقاومة”.
العدو الإسرائيلي: فشل في تحقيق أي مكاسب سياسية، بل تعمق الانقسام الداخلي في إسرائيل حيث ان 88% من السكان كانوا يعارضون وقف اطلاق النار.
الخلاصة
خلال فترة أحد عشر شهراً من حرب الاسناد، انتصر لبنان بنصر ساحق، ادى لتهجير سكان الشمال وضرب الاقتصاد الاسرائيلي ومساندة مظلومي غزة.
بعد الدخول بالعدوان الشامل، حاول العدو الاسرائيلي محو المقاومة اللبنانية، فقطف ثمار عملية البايجر، وأحسّ بنشوة اغتيال القادة، وعمل على تدمير الكثير من الابنية في لبنان، اضافة الى قتل حوالي 4000 لبناني. كل ذلك يظهر عدم قدرة لبنان بالانتصار اذا اردنا التحدث من دون تحليل عسكري. اما اذا سُئل اي محلل عسكري عن الانتصار فقطعاً سيكون جوابه ان النصر من نصيب لبنان.
على الرغم من الضربات الموجعة التي تلقّاها لبنان، إلا أنّه نجح في فرض معادلة ردع جديدة، وأثبت صلابته العسكرية والسياسية. في المقابل، فشل العدو الإسرائيلي في تحقيق أهدافه الاستراتيجية، سواء على مستوى العملية البرية أو القيادة أو التأثير الشعبي. وهكذا، يبدو أن لبنان تمكّن من الانتصار في معركة الصمود، بينما تكبّد العدو خسائر عسكرية واقتصادية واجتماعية ستؤثر على مستقبله على المدى البعيد.
فبعد الربط بين مرحلتي جبهة الاسناد والعدوان الشامل، نرى ان المنتصر الاخير هو لبنان، انتصر بصموده، انتصر بوحدته، انتصر بمنع العدو من احتلال ارضه. الا ان هناك خسائر كبيرة بالممتلكات، فاذا تمّ التعويض واعادة الاعمار، سيكون بلا شك انتصار للبنان. ذلك كان بسواعد المقاومين، وبفضل الشهداء المغدورين في بيوتهم رحمهم الله وهنيئاً لهم. والمقصود بالانتصار هنا هو انتصار معركة الصمود. فلبنان البلد الصغير بالحجم دون أي موارد مالية، استطاع إيقاف احتلال مموّل من كبار الدول، يملك أحدث التقنيات والتكنولوجيا. من هنا، قد يرى البعض ان لبنان مني بهزيمة من وجهة نظرهم، ويبقى تقرير المنتصر بناءً على معايير الحروب.
وبالرجوع الى رأيي الشخصي، اعتبر انّ النصر، او بالأحرى “الخسارة الأقل”، كان من نصيب لبنان في كافة معايير الحرب، باستثناء في خسارة السيد حسن نصرالله، فخسارته بالرغم من بعث القوة والصمود في رسالة المقاومة، الا انّ طعم النصر ينقصه الامين العام. حمى الله بلدنا العزيز لبنان، وقوّى من صموده.
“محكمة” – الجمعة في 2024/11/29