موقف المشرّع اللبناني من قتل الزوج لزوجته/عطاف قمر الدين
الدكتورة عطاف قمر الدين:
عودٌ على بدء… يأبى مسلسل العنف الأسري ضد النساء في لبنان، إلا أن يرسخ الفكرة القائلة بأنّ العلاقة بين الزوج والزوجة مازالت في مجتمعاتنا علاقة غير متكافئة تعطي امتيازات غير مستحقة للرجل على حساب المرأة، ومنها القمع والتعنيف الذي يصل حدّ القتل، لا لشيء إلا لكونها امرأة. وذلك على الرغم من كون المنزل الزوجي، بمعناه المادي والمعنوي، هو الملاذ الآمن للمرء عمومًا، أو كما يجب عليه أن يكون بالحدّ الأدنى. فما هو موقف المشرع اللبناني من قتل الزوج لزوجته؟
من المعلوم أنّ لبنان قد انضم الى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادرة عام ١٩٧٩ والنافذة منذ عام ١٩٨١، بموجب القانون 1996/572 ، وقد أكدت اللجنة المعنية بتنفيذ الاتفاقية في التوصية رقم ١٩ الصادرة عنها عام ١٩٩٢، على أن العنف هو شكل من اشكال التمييز بالمعنى المقصود في الاتفاقية. هذا علمًا أن لبنان قد تحفّظ على بعض بنود الاتفاقية سيما لجهة المطالبة باتخاذ تدابير للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية، بالإضافة إلى عدم التوقيع على البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية والرامي الى تفعيل بنودها.
على صعيد التشريع الوطني، لم ينسجم المشرع اللبناني مع التزاماته الدولية في موضوع القضاء على العنف الأسري ضد المرأة إلا في العام ٢٠١٤ من خلال إقرار القانون رقم ٢٩٣ تاريخ 2014/5/7 المتعلق بحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري والذي كانت قد اعترت نصوصه ثغرات عديدة استدعت تعديله بموجب القانون 2020/204.
وطبقًا لمضمون هذه النصوص، يجب توضيح موقف المشرع اللبناني من القتل الواقع من جانب الزوج بحق زوجته.
والواقع، أن للقتل الحاصل في إطار العلاقة الزوجية من جانب الرجل بحق المرأة خصوصية معينة ناتجة عن ربطه بمفاهيم الشرف، ما يستدعي التوقف عندها والالتفات إلى مسار التعديلات الذي شهدته النصوص القانونية ذات الصلة والتي تبيّن تبدّل النظرة لما يسمى بـ “جريمة الشرف”.
فإذا كان من البديهي القول إنّ القتل هو أشد الجرائم جسامةً على الإطلاق لما يترتب عليه من إزهاق روح انسان، ومع التسليم بسمو الحق في الحياة، إلا أن المشرع اللبناني كان قد تسامح مع القاتل بداعي “الشرف” معتبراً أن الزعم بارتكاب الضحية لما ينافي مفاهيم الشرف، ينفي عن القاتل تجرّده من المشاعر الإنسانية والتنكر للروابط الأسرية ويجعله بطلاً بالمفهوم الذكوري المتخلّف، وقد تُرجم ذلك في المادة ٥٦٢ من قانون العقوبات اللبناني التي كانت تفيد من العذر المُحِلّ من العقاب من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنى المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع فأقدم على قتل أحدهما بغيرعمد.
وعليه كان المشرع قد شجع على الاجرام بصريح العبارة وفسح السبيل أمام اختلاق ” الأعذار ” التي تحفز على الاقتصاص من المرأة بواسطة القتل بداعي ” الشرف “!
وبقي الحال على ما ذكر حتى العام ١٩٩٩ إذْ عُدّلت المادة ٥٦٢ بموجب القانون رقم ٧ تاريخ 1999/2/20 بالاستعاضة عن العذر المحل بالعذر المخفف من العقاب، وفق الشروط عينها المنصوص عليها فيها، إلى أن ألغيت المادة تمامًا من قانون العقوبات اللبناني بموجب القانون رقم ١٦٢ تاريخ 2011/8/17.
وبالتالي، لم يعد هناك أي نص في التشريع الجزائي اللبناني يفيد بأي شكل من أشكال التساهل في المعاملة العقابية تجاه المجرم الذي يتمسك بمقتضيات الشرف المزعومة، لكي يقتل أنثى من أفراد عائلته!
ولكن هذا الواقع التشريعي لم يترجم في اطار الواقع القضائي حيث بقيت للقضاء السلطة الاستنسابية في تقدير مدى توافر عناصر المادة ٢٥٢ من قانون العقوبات اللبناني في عملية قياس على شروط حالة “جريمة الشرف”، وهي التي تنص على ما حرفيته الآتي: “يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجنى عليه”، هذا فضلاً عن منح الأسباب التخفيفية مراعاةً للحالة النفسية التي يتواجد فيها الجاني لدى توافر شروط حالة “جريمة الشرف”.
وكان في ذلك التفاف واضح على إلغاء المادة ٥٦٢ المذكورة سابقًا، لصالح الحفاظ على الرواسب الذهنية الذكورية التي تدعم الحفاظ على ” الشرف ” ولو بالقتل! وما يؤكد على ما نقول، هو الأثر الذي تركه هذا التوجه القضائي في النفوس لجهة تذرع بعض الرجال بتوافر ” الدافع الشريف” المنصوص عليه في المادة ١٩٣ من قانون العقوبات، في بعض حالات القتل ، التماسًا لرأفة المحكمة وتعاطفها مع المجرم حتى في ظل غياب ما يبررّه كمجرد ممارسة السلطة الذكورية على المرأة والتحكم بخياراتها أو التعرض للرفض أو الصدّ من قبلها في إطار العلاقة الزوجية أو طلبها الانفصال أو ما شابه ذلك من الأمور التي تُدخل دافع القتل في عداد الأسباب الشخصية البحتة والانتقام الشخصي من الضحية، لا في عداد الأسباب الموضوعية المجردة من كل باعث أناني واعتبار شخصي ومنفعة ذاتية بما يستدعي إفادة المجرم من مفاعيل “الدافع الشريف”.
أمام هذا الواقع، كان لازمًا تدخل المشرع من جديد كي يحسم القول بانقضاء مرحلة المعاملة العقابية المخففة تجاه القاتل الذي يتذرع بدافع الشرف، واستبدالها بمعاملة عقابية مشددة تتناسب مع جسامة الفعل الجرمي من جهة أولى، ومن جهة ثانية مع جهود مكافحة العنف الأسري على وجه العموم. وبالفعل، جاء نصّ الفقرة الرابعة من المادة ٣ من قانون العنف الاسري 2014/293 المعدّلة، ليقرر إضافة فقرة جديدة على نص المادة ٥٤٧ من قانون العقوبات بحيث تصبح كالآتي:
” من قتل إنسانًا فصداً عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة الى عشرين سنة.
تكون العقوبة من عشرين سنة الى خمسة وعشرين سنة اذا ارتكب فعل القتل أحد الزوجين ضد الآخر “.
إذا، خلافًا لما قد يعتقده البعض لجهة وجود ما يفيد منح العذر بالمعنى القانوني للقاتل بداعي ” الشرف ” في التشريع الجزائي اللبناني، فإنّ القتل الواقع من الزوج على زوجته يعتبر قتلاً مشددًا طبقًا لأحكام المادة ٥٤٧ المعدّلة بموجب قانون العنف الأسري 2014/293 المعدَّل وفق ما سبق تبيانه، وذلك بمعزل عن طبيعة الدافع الذي لا يعتد القانون به طبقًا للقواعد العامة.
وعلى ما تقدّم، نهيب بالقضاء اللبناني إنزال أشدّ العقوبات بالمجرمين ذوي الدم البارد ممّن يحاولون تبرير وحشيتهم بمفاهيم بالية طوتها الأيام وترفضها أبسط مبادئ حقوق الانسان!
“محكمة” – الإثنين في 2023/3/27