هيمنة الشخصانية وغياب النظام المؤسّساتي/عصام اسماعيل
عصام نعمة إسماعيل(أستاذ القانون الإداري والدستوري في الجامعة اللبنانية):
إنّ رهن مصير مؤسّسة على وجود الشخص، دليل قطعي على أنّ من تولّى إدارة هذه المؤسّسة تعمّد إفراغها من كوادرها وحوّلهم أدوات طائعة تنفّذ ولا تناقش، وحجب إمكانية التقرير الجماعي فيها، وامتنع عن تأهيل أفراد قادرين على استلام الإدارة من بعده.
هذه الشخصانية هي نقيض المؤسّساتية، فلا تبنى دولة مؤسّسات إذا كان غياب موظّف يؤدّي إلى انهيار المؤسّسة، ولهذا كان المنطق التخويفي من الكوارث الناجمة عن تبديلٍ في موقعٍ وظيفي لهو الأداة التي يستخدمها التسلطيون لاستمرار إحكام قبضتهم على الإدارات.
ولهذا سعت النظم الوظيفية إلى اقرار قواعد تضمن أن لا يتحكّم قيادي ما بمصير مؤسّسة، لعلّ أوّلها مدّة الولاية وليس آخرها الوضع بالتصرّف، فعندما حدّدت الدساتير والقوانين مدّة الولاية وعدم القابلية لتجديدها إنّما أرادت بذلك التأكيد على مفهوم المؤسّسة، وأنّ من يأتي إلى موقع عليه أن يدرّب ويهيء الفريق القادر على اكمال المسيرة إعمالاً لقاعدة المؤسّسة تدوم والشخص يزول.
كما أقرّ نظام الموظّفين (المادة 68) قاعدة عامة حول الحدّ الأقصى لسنّ تولية الوظيفة وجعله 64 عاماً، وقد اقتبسته كافة أنظمة الموظّفين في المؤسّسات العامة والبلديات وفي مصرف لبنان وغيره من الإدارات العامة، واختارت الأنظمة العسكرية سنّاً أدنى لإنهاء الخدمة، ولم يستثنَ من هذه القاعدة العامة سوى القضاة بنصٍّ خاص (68 عاماً)، وأساتذة الجامعة اللبنانية في ما يتعلّق حصراً بالإشراف على الأطاريح العلمية (لغاية سنّ الـ 68)، بل إنّ قانون العقوبات (المادة 375) جرّم من يستمرّ بأعماله بعد انتهاء المدّة. وبحسب اجتهاد مجلس شورى الدولة فإنّ الطبيعة القانونية الخاصة لأيّ مؤسّسة لا ترفعها إلى مصاف السلطة المستقلّة ذلك أنّ السلطات الدستورية الثلاث محدّدة حصراً في الدستور ممّا يبقي كافة المؤسّسات ضمن إطار أجهزة الدولة وتبقى خاضعة لرقابة القضاء الاداري(م.ش. قرار رقم 195 تاريخ 1995/12/20 بنك نصر الافريقي اللبناني/ مصرف لبنان) وهذا يعني أنّها ملزمة بقواعد القانون الإداري العام ما لم يوجد في نظامها نصّ صريح على استثنائها من تطبيق قاعدة قانونية معيّنة.
ولهذا لا يمكن لمن بلغ السنّ القانونية لإنهاء الخدمة أن يستمّر على رأس المؤسّسة، وإذا جرى التجديد له بموجب مرسوم، فإنّ هذا المرسوم هو مخالف لمبدأ عام راسخ ومتصّل بالنظام المؤسّساتي لا يجوز الحيدة عنه أو خلق الذرائع لعودة الشخصانية والابتعاد عن دولة المؤسّسات، وهذا المرسوم غير المؤتلف مع فكرة المؤسّسة يمكن الرجوع عنه لكونه لا ينشئ حقّاً مكتسباً.
وفي سبيل الحفاظ على الطابع المؤسّساتي وتعزيزه، ومن أجل منع أيّ قيادي من التحكّم بإدارة مؤسّسة والهيمنة عليها، أقرّ المشترع نظام الوضع بالتصرّف بموجب مشروع القانون المنفّذ بموجب المرسوم رقم 3169 تاريخ 1972/4/29 الذي أجاز لمجلس الوزراء وضع أيّ موظّف من موظّفي الفئة الأولى بتصرّف رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المختص، وهذ التدبير يقرّره مجلس الوزراء سنداً للمادة 65 من الدستور التي منحته صلاحية الإشراف على أعمال كلّ أجهزة الدولة بلا استثناء…. وتعيين موظّفي الدولة وصرفهم وقبول استقالتهم وفق القانون، وسلطة الإشراف هذه تستتبع سلطة اتخاذ القرارات الملائمة لحسن سير الإدارات العامة بما فيها صرف الموظّفين. ولقد بيّن مجلس شورى الدولة حدود صلاحيات مجلس الوزراء في شؤون صرف الموظّفين عندما قضى أنّ لمجلس الوزراء صرفهم (أيّ أعضاء مجالس الإدارة) عند الاقتضاء إذا تبيّن له من خلال إشرافه على عمل الهيئة بأنّه لا يحقّق المصلحة العامة أو الغاية المطلوبة من المرفق العام” (مجلس القضايا- القرار رقم 1046 تاريخ 2018/7/9 مجموعة شركات جودة Applus/ هيئة إدارة السير والمركبات والآليات).
إنّ هذا القانون الصادر في العام 1972 لم يستثنِ من أحكامه (المادة 6) سوى:”رؤساء وأعضاء وهيئات مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي والمجلس التأديبي العام”. أمّا ما عداهم فهم جميعاً يخضعون لتدبير الوضع بالتصرّف، الذي وصفه مجلس شورى الدولة في أكثر من قرارٍ له بأنّه عمل إداري بحت تتخذه الإدارة لحسن سير وتنظيم المرفق العام (م.ش. قرار رقم 2018/362 -2019 تاريخ 2019/1/15 سيزان الخوري/ الدولة) وأنّ القانون هو الذي يعطي الحقّ للإدارة بوضع أيّ موظّف قيادي بالتصرّف، وذلك في إطار تقدير المصلحة العامة وحسن سير وتنظيم المرفق العام (م.ش. قرار رقم 2015/346 -2016 تاريخ 2016/2/25 جوزف طربيه/ الدولة).
بخلاصة القول، إنّ مقولة “لو دامت لغيرك ما آلت إليك” التي تعبّر عن الشخصانية وانتقال الحكم من فرد إلى فرد، هي مقولة لا تتلاءم مع النظام المؤسّساتي الذي يجب أن يكون عماده صناعة القادة الحقيقيين، وفي ظلّه كون هاجس مدير المؤسّسة تدريب من يتولّى الإدارة بعده وفق أسس تقوم على الكفاءة والتفوّق والعلم والخبرة والذكاء والمناقب الحميدة والتواضع وحبّ الوطن وامتلاك الشجاعة والقدرة على إعلاء المصلحة العامة على المصالح الخاصة.
وكما جاء في كتاب “رؤيتي”، فإنّ تدريب القادة هو أساس التنمية البشرية وهي مقياس لتحديد مدى تقدّم الدولة، فمن دون موارد بشرية لن تستطيع أيّ جهة تحقيق النجاح، فلكي تأخذ يجب أن تعطي، ولكي تحصل على الموهبة يجب أن تنمّيها، ولكي تحصل على المدرِّب الجيِّد يجب أن تدرّبه أولّاً. ولكي تحصل على القياديين عليك أولّاً أن تأخذ بيد أصحاب المواهب الواعدة وتخضعهم للتجارب القاسية والامتحانات العملية الصعبة وتعلّمهم فنون اقتناص الفرص وتفادي الوقوع في فكّي الفشل. فالإنسان أغلى ما تملكه الأمم والشعوب، وهو أهمّ عناصر التقدّم لأيّ دولة.
وهذا الإنسان ليس فرداً واحداً يتوقّف عليه مصير الوطن ومؤسّساته، وإنّما هو كلّ مجموع المواطنين.
“محكمة” – الخميس في 2020/4/30
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.