يُشارُ إليك يا نادر منصور بانحناءة التقدير/محمد وسام المرتضى
الوزير القاضي محمد وسام المرتضى*:
هناك في مُرْتَقى الجبل، حيثُ تتعثَّرُ الريحُ بهبوبِها، تعثَّرَ قلبُك بنبْضِه الذّبيح، وسالَ الأحمرُ على الأبيض الثلجيِّ، كما يسيلُ غروبُ الشّمسِ على الزبدِ في آخرِ الأفق. كأنَّ المنيَّةَ التي لم تَنتظرْها شاءَت لك القمَّةَ العليا منطَلَقًا إلى الأعلى، أو كأنَّها عرَفَتْك لا تهوَى السفوح، فترصَّدَتْك في شاهقٍ من ترابٍ لتُسْلِمَكَ إلى شاهقٍ من سماء.
وما كنتُ أحسبُ يومًا يا صديقي أنّني سأقف هذا الموقف راثياً لك، أو أنّ قلبَكَ الذي رقَّقَتْه العدالةُ يقسو عليك وعلى عائلتِك وزملائك وصحبِك، ويدفعُ بك إلى غيابٍ ممتلئِ الحضور في منازلِ الذاكرة. فقد كان أمامكَ لو استبقَتْكَ الحياة، متَّسَعٌ رحيبٌ من شباب يرتوي بعطائكَ واستقامتِك، وعلمِكَ ومناقبِك، وحبِّكَ العائليِّ الذي سكبتَ به نفسَكَ داخل بيتِك، على دفءِ لقاءٍ بزوجةٍ وأبناءٍ وأهل، أولئكَ الذين من أجلهم عشتَ، كما من أجل العدالة التي رهنت لها العمر على رِفعةِ مودَّةٍ مع القضاة وتعاونٍ مع المحامين واحترامٍ لدى المتقاضين.
لكنَّ قدرَك اختارَ لك شيئًا آخر، أن تسمعَ سريعًا سكانَ الغيومِ يدعونَك للذّهابِ إليهم، فمضيتَ إلى حيثُ تلَجْلَجَ الخفقان، باسطًا يدَيْك نحو السماء وقائلًا: الآنَ صارَ بوسعي أن أصعدَ إلى جوار الله.
يا نادرَ طيبةِ القلب، عرفْتُك مِن أوّل عهدِك بالقضاء، بل قبله، على أَوْدعِ ما تحملُ النفسُ البشريةُ من سماحةِ خُلُقٍ ونقاوةِ ضمير وإتّقاد ذكاء. وتلمَّسْتُ فيك مِن تشاركِنا في العمل اليومي لأداءِ رسالة الحق، أنّك في شغلِ العدالةِ لا تلتفِتُ إلاّ إلى الحقيقة التي آمنتَ بأنّها تحرِّرُ الواقعَ من أسرِ العبوديّة. كان همُّكَ ألّا تُطفِّفَ الميزان، في أيِّ قرارٍ أو تدبيرٍ أو إشارةٍ تَتّخذ، واضعًا نُصْبَ عينيك قولَه تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين﴾، ومستهديًا على الدوام بنصوص القانون وتفسيراتِه المنتِجة، وموازنًا بأمانةٍ كُليّة بين مصلحة المجتمع وحقوق الإنسان.
ولعلَّ من أشدِّ صفاتِكَ رُقِيًّا ذلك البعدَ الإنسانيَّ في تعاطيك مع القضايا الجزائية التي أكسبَك المِراسُ فيها قدرةً كبيرةً على معرفةِ انتهاج الأفضل من غير عنفٍ ولا ضَعف؛ حتى لَيُشارُ إليك، حاضرًا وغائبًا، بانحناءة التقدير، في زمنٍ قضائيٍّ بَئِسَ فيه المصيرُ ويَئِسَ النصير.
نعم يا صديقي لقد ادلهمَّ فضاءُ القضاء في لبنان، لأسبابٍ كثيرةٍ عرفتَها أنت ونعرفُها نحن، لولا نجومٌ وهّاجةٌ فيه، كثيرةُ العددِ والنور، منتشرةٌ على مدى اتّساعِه، ما زالت تضيءُ ليلَ الوطن. وهل ينهضُ وطنٌ بلا قضاء؟ كلّنا يا صديقي على يقينٍ أنّ لبنان سينهضُ من محنِه، وقضاءه سيستعيدُ الهيبةَ والمكانة والثقة، لأنّ إرادةَ الحياةِ في أرضِنا أقوى من إرادات الجحودِ والجمود والأنانيات، وأمتنُ من كلِّ المؤامرات والإعتداءات والأجندات.
وإلى الزميلة العزيزة أميرة، وإلى الحبيبين آدم وجاد، وأبي نادر وأم نادر، والأخ أحمد، وسامر ومايا ومهى، والى سائر زملاء نادر وأصدقائه أقول: أقسى ما في العمر أن يكونَ اللقاءُ بلا لقاء، مقصورًا على الصورةِ والذكرى ولواعج الحنين. لكنكم جميعًا تعرفون أنَّ الإنسانَ الذي هو أكبرُ من النسيان، لا يعلنُ ذلك صراحةً إلاّ بارتحالِه من بيننا. لقد قال نادر ذلك بصوتٍ عالٍ بل بموتٍ عالٍ وحياةٍ أعلى. الآن أنظر حولي وتنظرون، فنرى الحزنَ ممتزِجًا بالرجاء، والدمعَ منسكِبًا في إناء التسليم بقضاء الله وقدره، فلا يسعُنا، أنا وأنتم، إلاّ أن نُردّدَ مع الشاعر: وما المالُ والأهلونَ إلا وديعةٌ ولا بدَّ يومًا أن تُرَدَّ الودائعُ.
طابت ذكراه حيةً على الدوام ، ألهمنا الله والهمكم الصبر والرجاء والسلام عليكم جميعاً ورحمةٌ منه وبركات.
* ألقى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى هذه الكلمة في الحفل التأبيني الذي أقيم للقاضي نادر منصور في قصر الأونيسكو يوم الجمعة الواقع فيه 5 نيسان 2024.
“محكمة” – السبت في 2024/4/6