مقـــاربــة دستوريــة حول موضوع قانون انتخاب أعضاء مجلس النوّاب
كتب المحامي هادي خليفـة:
مقدّمة: يعتبر قانون الإنتخابات النيابية العامود الفقري لأيّ دولة ذات سيادة تتبع النظام الديمقراطي كنظام سياسي لها، وله الدور المحوري في تحصين الديمقراطية التي عرّفها الفقيه الفرنسي Montesquieu- أحسن تعريف:
La démocratie, c’est le gouvernement du peuple, par le peuple, et pour le peuple,
ومن قانون الإنتخابات يتمّ تطوير الديمقراطية وبه تتعزّز حرّية اختيار الشعب لممثّليه في مجلس النوّاب وهو حقّ شخصي لهم – Droit individuel- وليس وظيفة – fonction- ويمـارسونه عبر الإقتراع العـام،
وإنّ حرّية اختيار الشعب لممثـّليه من النوّاب يهدف بالدرجة الأولى الى إنجاز العمل الأساسي المطلوب من ممثّلي الشعب عبر إقرار القوانين التي تحقق الإنتظام الإجتماعي المؤدّي الى استقرار المجتمع ضمن نـُظم من القواعد والمبادىء القانونية التي يفترض أن يكون لها دائماً البعدان الإنساني والأخلاقي واللذان منهما يتدفّق البعد الإقتصادي والإجتماعي لتلك القواعد في ظلّ النظام العالمي الذي نعيش فيه اليوم الذي هو في حـركة دائمة لا تعرف الجمـود،
وقد أورد المشترع في الفقرة – د – من مقدّمة الدستور(أضيفت مقدّمة الدستور بعد التعديلات الدستورية التي تمّت في العام 1990) – أنّ الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسّسات الدستورية من باب تعزيز قوّة الشعب تجاه ممثـّليه ولتغليب فكرة سلطان الشعب الذي يعود له وحده ممارسة سلطته الرقابية بصورة دائمة على ممثّليه في مجلس النوّاب، ومنه تترسّخ سلطة محاسبة النوّاب ومنعهـم من الإنحـراف في معرض قيامهـم بعملهـم الرقابـي على السلطـة التنفيذيـــة
وبذلك تتعزّز فكرة دولة القانون – État de Droit- والتي يندرج ضمن إطارها إقامة قاعـدة إنتخابيـة صحيحــة.
إنّ الإنقسام الذي نشهده في لبنان منذ وقت طويل ولغاية اليوم حول قانون الانتخابات النيابية أطاح المعايير والمفاهيم المطلوبة من قانون انتخاب أعضاء مجلس النوّاب وتقدّم الخطاب السياسي والشعبوي على حساب الجوهر المطلوب من تعزيز فكرة أنّ الشعب هو مصدر السلطات،
ولم يخلُ هذا الخطاب من استعمال “اتفاق الطائف” كحمولة زائدة لحرف الرأي العام عن جوهر الإختلاف بين المتحكّمين بالتشريع وحبّهم لذاتهم، كون اختلافهم ما هو في حقيقة الأمر إلاّ اختلاف حول كيفية تقسيم البقع الجغرافية للدوائر الإنتخابية كي يحفظ كلّ فريق ما اكتسبه من قبل، ومن فريق آخر يجد أنّه يرعى الرعية كما يحلو له تحت شعارات دسمـة لتخويف رعيته، وبدون أن يسهى عن بال هذين الفريقين إبقاء نظريـة المؤامرة مطبوعة في ذهـن الرعـايـا،
كما استحضر الساسة في خطابهم السياسي وفي كثير من الضجيج وتبعهم قسم من الإعلام في ضجيجهم قانوناً إتفقوا على تسميته بقانون “الستين”، في حين أنّ هذا القانون ليس له من وجود، وإنّ القانون رقم 25/2008- الصادر بتاريخ 8/10/2008 هو قانون الإنتخابات النيابية في الدولة اللبنانية والذي ألغى القانون الشهير رقم 171- تاريخ 6/1/2000،
وهذ التضليل حول قانون انتخاب أعضاء مجلس النوّاب ما هو إلاّ وسيلة من وسائل التوظيف الشعّبوي إذ أصبح قسم من الشعب اللبناني مقتنعاً بوجود قانون انتخابات يعود إلى العام 1960 ومن الواجب إستبداله وعلى وقع شعار – slogan- بقانون حديـث ، وعصـري ، ويرعـى صحّة التمثيل الخ…
كما شطح فريق آخر وابتدع نظرية – ” قانون Mixte-” بدون أن يفقه أنّ هذا الخلط ما هو إلاّ ضرب لقواعد المساواة الواجب التقيّد بها عند إقرار مطلق أيّ قانون، فكيف إذا كان قانون يتناول الحقّ الشخصي للمواطن في الإنتخاب والذي يجب تحصينـه مـن أيّ اعتـــــــداء؟؟.
إنطلاقاً من بعض المرتكزات الدستورية والقانونية البديهية سوف نتناول عبر هذه المقاربة ما أمكن لتصويب المغالطات المتداولة حول موضوع قانون الإنتخابات النيابيـة.
أ- مبــدأ المسـاواة كقاعدة دستورية من الواجب إحترامها والتقيّد بها:
يشكـّل مبدأ المساواة قاعدة دستورية نصّت عليها الفقرة ج- من مقدّمة الدستور والمادة -7- منه والتي تنصّ على أنّ كـلّ اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دون فرق بينهـم،
وقد طوّر القضاء الإداري في لبنان هذا المبدأ عبر العديد من القرارات الصادرة عنه قبل إنشاء المجلس الدستوري وقام هذا الأخير بتحصينه إنسجاماً مع المادة -7- من الدستور ومع المبادىء التي لها قيمــة دستوريـــة،
وقد كانت للمجلس الدستوري في لبنان مواقف واضحة في هذا الإطار ومن باكورة قراراته القرار رقم 4/96- الصادر بتاريخ 7/8/1996 الذي أبطل فيه بعض المواد من القانون رقم 530/1996- المتعلـّق بتعديل أحكام قانون انتخاب أعضاء مجلس النوّاب، وقارب هذا القرار النتيجة التي وصل إليها من زاوية مبدأ المساواة أمام القانون الإنتخابي بعد أن أعطى تعريفاً واضحاً للإنتخابات عبر قوله إنّ الإنتخاب هو التعبير الديمقراطي الصحيح والسليم عن سيادة الشعب، وقد استكمل المجلس مساره في هذا التعريف عبر العديد من القرارات الصادرة عنه لا سيّما القرار رقم -1- الصادر بتاريخ 12/9/1997- الذي أبطل القانون رقم 654 المتعلـّق بتمديد ولاية المجالس البلدية والإختيارية وأضاف ضمن هذا الإطار عبر القرارالصادر عنه تحت رقم 1/2005 أنّ القانون لا يمثـّل الإرادة العامة إلاّ بقدر توافقه وأحكام الدستور، وكان سبق للمجلس الدستوري في فرنسا أن كرّس بدوره مبدأ المساواة:
Le principe d’égalité, comme Janus, aurait deux faces, l’une tournée vers l’égalité formelle – (égalité devant la loi)- l’autre vers l’égalité réelle – (égalité par la loi)
Conseil Constitutionnel- n;73-51 – 27/12/1973
Les grandes décisions du Conseil Constitutionnel- Dalloz-éd 2016- p;651
والجدير ذكره،
فإنّ القرارات التي تصدر عن المجلس الدستوري وسنداً للمادة 13 من القانون 250/93- (قانون إنشاء المجلس الدستوري)- هي قرارات مـُلزمة لكافة السلطات وهي قرارات تتمتّع بقوّة القضيّة المحكوم بها نظراً لكون قراراته تسهم إلى حدٍّ كبير في تصويب مسار التشريع في لبنان،
وبالتالي، فإنّ إقرار أيّ قانون لا يحفظ مبدأ المساواة يكون حكماً قانوناً متعارضاً مع أحكام المادة 7- من الدستور والتي ينسحب نصّها إلى العام 1926 ، كما يكون متعارضاً مع قرارات المجلس الدستوري في هذا الإطار والذي تعتبرقراراته هي قرارات مـُلزمة لكافة السلطـــــــات.
ب – في وثيقة الوفاق الوطني والمادة 24 من الدستور:
صدّق المجلس النيابي بتاريخ 5/11/1989- وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية بتاريخ 22/10/1989 ،
وورد في الوثيقة تحت عنوان الإصلاحات السياسية بند يتعلّق بمجلس النوّاب،
وحدّدت الفقرة -4- الواردة تحت هذا البند : أنّ الدائرة الإنتخابية هي المحافظة،
كما نصّت الفقرة التي تليها على ما يلي:
إلى أن يضع مجلس النوّاب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزّع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد الآتية:
أ- بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
ب- نسبياً بين طوائف كلّ من الفئتين.
ج – نسبياً بين المناطق.
كما ورد بند آخر حول قانون الانتخابات النيابية أكّد فيه المشترع مرّة أخرى على إجراء هذه الانتخابات على أساس المحافظة على أن يصدر قانون جديد يراعي قواعد العيش المشترك بين اللبنانيين ويؤمن صحّة التمثيل السياسي لشتّى فئات الشعب وأجياله بعد إعادة النظر في التقسيم الاداري في إطار وحدة الأرض والشعب والمؤسّسات،
كما تناول بند آخر موضوع اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة عبر توسيع صلاحيات المحافظين وإعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمّن الإنصهار الوطنـي،
وتمّ بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني من قبل مجلس النوّاب تعديل المادة 24 من الدستور وتمّ استبدال النصّ القديم بكامله بنصّ جديد ورد فيه حرفياً ما أقرّ في وثيقة الوفاق الوطني لجهة الأسس الواجب التقيّد بها لإنتخاب أعضاء مجلس النوّاب والمشار إليها أعلاه،
ومن باب تأكيد ما انصرفت إليه إرادة المشترع حول اعتماد قاعدة الإنتخاب خارج القيد الطائفي، فقد تمّ أيضاً تعديل نصّ المادة 22 من الدستور والذي استبدل أيضاً بنصّ جديد ينبع من ما اتفق عليه في وثيقة الوفاق الوطني والمتعلّقة بإنشاء مجلس الشيوخ مع انتخاب أوّل مجلس نوّاب على أساس وطني لا طائفي،
إستناداً إلى هذه المبادىء المتعلّقة بقانون الإنتخابات،
وعملاً بقواعد وأصول تفسير النصوص القانونية فإنّه يقتضي النظر إلى هذه النصوص كأنّها واحدة متمّمة لبعضها البعض وضمن إطار تقريب مضمونها كي يكون التفسير صحيحاً يجسّد ما اتفق عليه في وثيقة الوفاق الوطني،
وطالما أنّ الهدف المنشود من قبل الجميع هو تطبيق وثيقة الوفاق الوطني،
فإنّ هذه الوثيقة أوجبت إعتماد المحافظة كدائرة إنتخابية بعد إعادة التقسيم الإداري وأرشدت الجميع إلى وجوب إقرار قانون إنتخاب خارج القيد الطائفي، وإنّ رسم الإطار لقانون الإنتخاب يجب أن ينطلق من المبادىء التي كرّستها هذه الوثيقة والمادة 24 من الدستور، ويجب دفع هذه المبادىء إلى المقدّمة بدون إحداث هذا الكمّ من الضجيج حول قانون الإنتخاب، هذا إذا كان هناك فعلاً إرادة جدّية لبناء مجتمع وطني لبناني والذي عبره فقط نتمكّن من محو الفكر المذهبي والطائفي من ذهن المجتمع.
ج- في القانون رقم 25/2008 – وما سمّي بقانون “الستين”:
صدر بتاريخ 26/4/1960 القانون المنفـّذ بالمرسوم رقم 3474 – تاريخ 5/3/1960 المتعلـّق بانتخاب أعضاء مجلس النوّاب الذي حدّد في المادة الأولى منه عدد النوّاب بـ 99 – وحدّدت المادة الثانية منه الدائرة الإنتخابية التي يجب أن تتألّف من القضاء شرط أن لا يقلّ عدد النوّاب فيه عن إثنين، وأُرفق بالقانون جدول حدّد عدد الدوائر وعدد المقاعد وفقاً لتوزيع طائفي ومذهبي بلغ فيه عدد النوّاب المسيحين 54 نائباً و45 نائباً للمسلمين (بكافة مذاهب هاتين الطائفتين باستثناء العلويين).
وصدر بتاريخ 8/10/2008 القانون رقم 25/2008- المتعلـّق بانتخاب أعضاء مجلس النوّاب الذي ألغى القانون رقم 171- تاريخ 6/1/2000- والذي بموجبه أجريت الإنتخابات النيابية في العام 2009 وحدّد الفصل الأوّل منه عدد النوّاب بمئة وثمانية وعشرين نائباً ينتخبون على أساس النظام الأكثري ووفقاً للجدول المرفق بالقانون الذي قسّم الدوائر الإنتخابية في محافظة بيروت خلافاً لما كانت عليه في القانون الصادر في العام 1960، كما زاد على الدوائر الإنتخابية في محافظة لبنان الشمالي دائرة قضاء المنية- الضنية الذي لم يكن موجوداً في القانون الصادر في العام 1960 (إستحدث هذ القضاء بموجب القانون رقم 272- تاريخ 23/10/1993- الذي عدّل المرسوم الإشتراعي رقم 11/1954 المتعلّق بالتنظيم الإداري).
والجدير ذكـره، أنه في العام 1960 لم يكن يوجد أيّ من المحافظات التالية: النبطية- بعلبك –الهرمل وعكّار، كما أنّ القانون المذكور، لم ينصّ على إنشاء هيئة للإشراف على الحملة الإنتخابية، ولم ينصّ على تحديد التمويل والإنفاق الإنتخابي، ولم يتطرّق إلى الإعلام والإعلان الإنتخابي، ولم يلحظ موضوع إقتراع اللبنانيين غير المقيمين على الأراضي اللبنانية، في حيــن، أنّ القانون رقم 25/2008 – وتعديلاته- أنشأ الهيئة للإشراف على الحملة الإنتخابية وحدّد في المادة 19 منه مهام وصلاحيات تلك الهيئة، كما أنّه وبهدف ضبط عملية الإنفاق وتمويل الإنتخابات ألزم كلّ مرشّح على فتح حساب مصرفي يسمّى حساب الحملة الإنتخابية مرفق به تصريح الترشيح وهذا الحساب لا يخضع للسرّيّة المصرفية، وحدّد الفصل السادس منه الضوابط الواجب إعتمادها في مجال الإعلام والإعلان الإنتخابي، وأدرج في الفصل العاشر منه موضوع إقتراع اللبنانيين غير المقيمين على الأراضي اللبنانية وأردف في هذا الفصل إحدى عشرة مادة تحدّد الإجراءات والأصول الواجب مراعاتها لتأمين عملية الإقتراع للبنانيين غير المقيمين على الأراضي اللبنانية.
تشكـّل هذه المبادىء القانونية المنصوص عنها في القانون رقم 25/2008 وتعديلاته مرحلة متقدّمة في مجال التشريع الإنتخابي والتي لم يكن لها من وجود في القانون المتداول فيه أيّ قانون “الستين” الذي اندثـر ولم يعد لـه من وجـود، وإنه لو يـقيـّد للقانون رقم 25/2008 التطبيق السليم لضُبطت العملية الإنتخابية،ومُنع الفساد الإنتخابي، وبذلك يصبح المواطن يشعر بمكانته عند الإقتراع ممّا يخلق له حافزاً لممارسة هذا الحقّ الشخصي.
أمّا الضجيج المُفـّتعل حول ضرورة إقرار قانون جديد للإنتخابات وإطلاق نظريات من هنا وهناك حول العصرية والعدالة وصوابية التمثيل، فإنّها لا تعدو إلاّ مفردات تطلق وعلى منطق – moulin á paroles – التي هي كالكابوس الواجب إزاحته،
فالقانون الحالي هو قانون متقدّم ويجب تطبيقه بشكلٍ نزيه وبدون أن نُغفل ما أوردته وثيقة الوفاق الوطني ومن بعدها النصوص والقواعد الدستورية حول آلية الإنتخاب واللامركزية الإدارية، والعمل في مرحلة لاحقة وبصورة جدّية على إقرار قانون خارج القيد الطائفي والمذهبي لعـلـّنا بذلك لا نعود ونستعمل النسبية ونظرية حقوق الإنسان كشعار نتغنّى بهما عند أيّ مفترق نحتاجه إلى جانبنا لكي يصبح إلتزامنا بحقوق الإنسان أمراً حقيقياً وفعلــياً.
ونقول في النهاية لأهل السياسة في لبنان ما قيل في فرنسا في الماضي القريب ما معنـــاه: إذا كان الرجال يصنعـون التاريـخ، ولكنّهـم لا يعلمون التاريـخ الذي صنعـوه..
Si les hommes font l’histoire, ils ne savent pas l’histoire qu’ils font…
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 14- شباط 2017).