القاضي عبد الله ناصر وقصّة استملاكات القرعون وخبايا ديوان المحاسبة وتأسيس صندوق التعاضد/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
بكثير من التحفّظ، يروي القاضي عبد الله ناصر، مخزون ذكرياته مع ديوان المحاسبة الذي يفترض أن يكون الأمين على مال الدولة والشعب، وذلك خلال تولّيه لرئاسته على مدى عامين كاملين، بعيد انطلاق عجلات الجمهورية الثانية على سكّة اتفاق الطائف.
ويعلّل ناصر الذي خلع “روب” القضاء الأحمر الفضفاض بفعل التقاعد، ليرتدي زيّ المحاماة الأسود إشباعاً لتعلّقه الروحي بالقانون، سبب هذه الإجراءات الاحترازية الذاتية، بأنّ معظم أصحاب العلاقة مما وصله من ملفّات وقرارات، أحياء يرزقون، ويمارسون العمل السياسي بأعلى مستوياته المفصلية، وبكثير من “النفاق والفساد” بحسب ما يستشفّ من تلميحاته التي يرفض تدوينها، فالفضيحة أكبر من أن تقال، وما ذهب لن يعوّض ولن يستعاد خصوصاً وأنّ بعضه طُمس بقرارات رسمية وصارمة من مجالس الوزراء المتعاقبة، ومضت عليه سنوات وسنوات.
إنجاز بحيرة القرعون
وبفعل حرصه وثقة أهالي البقاع الغربي به، استطاعت الدولة أن تنجز بحيرة القرعون الشهيرة بعد عمل مضن ومتعب في الملفّات والمعاملات العائدة للأراضي الزراعية والمملوكة من فلاّحين ومزارعين تعايشوا معها حتّى التلاحم وتربّوا على عدم التنازل عن شبر واحد منها مهما كانت الإغراءات، ومهما علت قيمة الماديات، فحاز على ثقتهم وأعطاهم حقوقهم وأكثر مما كانوا يتوقّعون، ليشقّ نهر الليطاني الخارج من ينابيع البقاع الشمالي، طريقه بحرّيّة ويسر، فيرويهم ويعطي سواهم الماء والكهرباء.
ولهذا الاستملاك قصّة تطول، دخلت السياسة في تشعّباته، كما في كلّ الحياة اللبنانية، وكادت أن تقضي عليه من خلال تواطؤ وزير العدل آنذاك مع قاض مقرّب منه، لاستبعاد القاضي ناصر، ولكنّ رئيس الجمهورية فؤاد شهاب أصرّ على ترؤسه للجنة الاستملاك.
ويروي عبد الله ناصر، بهدوئه، التفاصيل الصغيرة لهذه القصّة، من دون أن يحيد استرساله عن لحظاتها وكأنّها طازجة، وكيف لا وهو الذي منحها سبع سنوات من عمره لكي تبصر النور. يقول:” في العام 1956 تعيّنت لجنة استملاك برئاسة أحد المهندسين وأصدر قرارات عدّة لم يتقبّلها المواطنون فنظّمت على الأثر، مظاهرات واعتصامات، وتعرّضت اللجنة لاعتداء، وتقدّم نوّاب المنطقة بمشروع قانون لإلغاء اللجنة وقراراتها”، وعيّنت لجنة بديلة برئاسة قاض “وأجبروني على ترؤّسها ولم أكن راغباً” وحصلت مشاكل كثيرة كما حصلت محاولة لتغيير وتعديل مرسوم تشكيل اللجنة، ولكنّ الرئيس فؤاد شهاب أصرّ على أنْ يصدر المرسوم بإبقاء عبد الله ناصر رئيساً للجنة الأصيلة وليس اللجنة الرديفة.
ثمّ حدّدت أوّل جلسة وكان الناس ينتظرون معرفة قيمة الاستملاك المحدّدة، وكان يوجد مندوب عن كلّ ضيعة وأرسل المحافظ المرحوم فوزي بردويل فرقة عسكرية لحماية اللجنة، وعندما وصل عبد الله ناصر وشاهدها “استفسرت عن سبب حضورها المفاجئ فأُبلغت بأنّها للحفاظ على حياتي وسلامتي، فطلبت منها الانصراف لأنّني أنا أحافظ على نفسي بنفسي”.
واستمعت اللجنة إلى الأهالي وأرجئت الجلسة لإصدار القرار “وبعد يومين أو ثلاثة، اجتمعت اللجنة مع مندوب من بلدة القرعون اسمه خليل عميص وتداولت معه في الأسعار” ووضعت سعراً مختلفاً عن السعر الذي كانت اللجنة السابقة قد وضعته ولاحظت تعويضاً لكي تمكّنوا من شراء أرض في غير منطقة ويعتاشون منها لأنّ حوض البحيرة أتى على كامل أراضيهم الزراعية”. وهكذا ذهب عميص إلى الأهالي المنتظرين بشوق جامح، سماع النبأ العظيم، ” فالكلّ يريد أن يعرف”راس الشمّوط”” على حدّ تعبير ناصر، فأخبرهم وعاد إلى اللجنة حاملاً “موافقة الجميع على الرغم من أنّهم كانوا يرفضون بيع أراضيهم”، وبقيت اللجنة حتّى الانتهاء من الاستملاكات في العام 1963.
الأسرة والجذور
أطلّ عبد الله ناصر على الدنيا في 14 تموّز من العام 1924 في بلدة مرجعيون في جنوب لبنان، حيث كان والده القاضي حمّود محمود ناصر رئيساً لمحكمة البداية هناك قبل أن يحال على التقاعد في العام 1930 ويستقرّ في مسقط رأسه بلدة الحصين الكائنة في فتوح كسروان. ووالدته هي فاطمة يونس من بلدة البترون الشمالية، وكانت أرملة القاضي نجيب المقدّم “وتزوّجها والدي عندما كان قاضياً للتحقيق في البترون”.
وعبد الله هو الثاني في تسلسل إخوته المرحومين، البكر السفير حكمت، وعبد الجليل الذي كان رئيس مصلحة الموازنة في المالية، وأحمد رضا الذي قضى شاباً.
درس في مدرسة الإخوة المريميين “الفرير” في مدينة جبيل حتّى نال شهادة” البريفيه”، ثمّ انتقل إلى ذات المدرسة ولكنْ في مدينة جونيه حيث نال شهادة الفلسفة، ومنها توجّه إلى جامعة القدّيس يوسف “اليسوعية” لدراسة الحقوق، ووزّع وقته بين تحصيل العلم والوظيفة، إذ تسنّى له أن يعمل مساعداً قضائياً في قصر العدل القديم في بيروت قرب السراي الحكومي(مقرّ شركة سوليدير حالياً)، وفي قصر عدل بعبدا ولازم رئيس محكمة البداية القاضي جاد حاتم كظلّه والمؤتمن على ملفّاته، وبقي معه حتّى تعيينه قاضياً في العام 1953 بعدما نظّمت وزارة العدل مباراة لتعيين قضاة “فاشتركت ونجحت وتعيّن كلّ مرشحي الدورة البالغ عددهم 16 قاضياً” وهم: رئيس مجلس القضاء الأعلى في العام 1990 عاطف النقيب، والنائب العام التمييزي كميل جعجع، ورئيس هيئة التفتيش القضائي بين العامين 1978 و1992 عبد الباسط غندور، وعضو أوّل هيئة للمجلس الدستوري في العام 1993 كامل ريدان، وسميح فياض، وعصام بارودي، ولطيف ديب، وعقل فرح، وعبد الكريم سليم، وفرح حدّاد، وجورج ملاّط، وجورج معلولي، وسليم العازار، وشريف قيس، وإدوار عيد.
في السابق كان القضاة لا يأبهون للمكان الذي يعيّنون فيه سواء أكان في بيروت أو سواها من المناطق، ولا همّ إذا كان بعيداً عن مكان الإقامة، على الرغم من عدم توافر سبل المواصلات وصعوبة تأمينها، طالما أنّهم مؤمنون بعملهم وبأنّهم ذاهبون للفصل بين الناس بالحكمة والوجدان، بينما نشهد اليوم مزاحمة قوّية بين القضاة للبقاء في قصر عدل بيروت، أو قصر عدل بعبدا، أو المجيء إليهما وكأنّهما الحصن الحصين الذي يرفع المرء ويوصله إلى تحقيق الأمنيات بسرعة قياسية.
ففي الماضي كان القاضي يعمل بجدّ ونشاط ويبدأ خطواته الأولى خارج “عدلية” بيروت ويصل إلى منصب لم يكن يحلم به، وأكبر مثال على ذلك القاضي عبد الله ناصر الذي عيّن في أوّل تشكيلات قضائية صدرت في العام 1953، قاضياً منفرداً في مدينة زحلة، وتنقّل فيها على مدى ستّ سنوات بين قاضي جزائي، وقاضي مدني، وقاضي تنفيذ، فقاضي في محكمة البقاع الغربي التي كانت موزّعة بين صيفية في بلدة صغبين، وشتوية في بلدة جبّ جنين، ويصرّح ناصر “بأنّني أنا من أسّس هذه المحكمة بعدما لاحظ المعنيون ضرورة لتأسيس محكمة في منطقة البقاع الغربي”.
إنقلاب “القوميين”
بقي هناك لغاية العام 1959، ثمّ عيّن قاضياً منفرداً في مدينة عاليه لغاية العام 1961 حيث نفّذ الحزب القومي السوري الاجتماعي انقلابه على الرئيس فؤاد شهاب وألقي القبض على عدد من أفراد هذا الحزب وبوشرت التحقيقات، فنقل عبد الله ناصر مع آخرين للعمل قضاة تحقيق عسكري باعتبار أنّ هناك نحو أربعة آلاف موقوف ويحتاج فرزهم وإنهاء التحقيق معهم تمهيداً لتقديم المشارك والمحرّض والمساهم والفاعل إلى المحاكمة أمام المحكمة العسكرية.
لم يخلُ التحقيق مع” القوميين” من مواقف وطرائف يستذكر ناصر منها التالي: “لقد كان الموقوفون موضوعين في المدينة الرياضية لأنّه لا يوجد سجن يتسعّ لأعدادهم الغفيرة، ولمّا وصلت سمعت عويلاً وصراخاً فسألت الضابط المسؤول عن الأمر، فقال لي إنّهم جائعون ويريدون أن يأكلوا، فطلبت منه إحضار الطعام لهم، فأُحضرت شاحنة عسكرية كبيرة محمّلة بالطعام، وصار يوزّع عليهم من الشبّاك لأنّه لم يكن أحد يستطيع الدخول إلى مساجين جائعين”، وطبعاً خشية التعرّض له بالأذى.
ولا ينسى القاضي ناصر من تلك التحقيقات اعتراف موقوف نسي اسمه بسبب التقادم، أقرّ أمامه بأنّ اجتماعاً حصل في بلدة ديك المحدي في قضاء المتن الشمالي، وضع فيه مخطّط يقضي بخطف ضبّاط الجيش اللبناني من مساكنهم الواقعة في شارع محمّد الحوت في محلّة رأس النبع في بيروت، ونقلهم إلى ديك المحدي ومنها إلى مدينة جبيل. وقد “جرجر” هذا الاعتراف الخَطِر العشرات معه.
وخلال تلك التحقيقات التي كانت تتمّ في ثكنة المير بشير في بيروت، حضر وزير العدل آنذاك فؤاد بطرس، فوقف ملّياً على عمل ناصر ونشاطه. وبعد مدّة وجيزة، أي في العام 1962، حصلت التشكيلات القضائية ” فعيّنني رئيساً لمحكمة الاستئناف في بعبدا، وهي قفزة جريئة ونوعية، وصعدت لأشكره فقال لي بالحرف الواحد:”بعدك صغير روح ربّي شوارب”!.
وفي العام 1964 عيّن ناصر رئيساً للهيئة الاتهامية في بيروت ورئيساً لمحكمة الاستئناف الناظرة في دعاوى الإيجارات في آن معاً وبقي لغاية العام 1972، ووضع خلالها عشرات الاجتهادات القانونية، فارتأى جمعها في كتاب صدر في العام 1980 بعنوان”الدعوى العامة أمام الهيئة الاتهامية”. وكان الدافع على ما يخبر هو أنّه” لم يكن أحد، لا في لبنان ولا في فرنسا، قد ألّف كتاباً عن الهيئة الاتهامية وصلاحياتها”فتحرّك هو لهذه المهمّة، ونجح بفعل قراراته المتعدّدة واجتهاداته المعمول بها حتّى اليوم وربما تكرّست لتبقى لسنوات وسنوات.
والقاضي ناصر هو أوّل قاض من الطائفة الشيعية يعيّن عضواً في الهيئة المصرفية العليا لدى المصرف المركزي في العام 1975 خلال عهد الحاكم ورئيس الجمهورية لاحقاً الياس سركيس مع أنّ وزير العدل آنذاك فؤاد رزق كان يريد تعيين قاض من مجلس شورى الدولة مكانه، ولكنّ مساعيه باءت بالفشل، لأنّ النص القانوني يوجب تعيين قاض عدلي وهو ما ينطبق على ناصر، فصدر مرسوم التعيين باسمه “وخلال قيامي بهذه المهمّة وضعت اليد على عشرة مصارف في بيروت إشعاراً بإعلان إفلاسها، ثمّ تعيّنت رئيس المحكمة الناظرة بدعاوى المصارف الموضوعة اليد عليها بين العامين 1975 و1976”.
ووصل عبد الله ناصر إلى رئاسة الغرفة الثانية لمحكمة التمييز المدنية “حيث لم يكن هناك شغل بسبب الأحداث الأمنية وعدم قدرتنا على الوصول إلى العدلية”.
الحكومة وتعطيل ديوان المحاسبة
كما أنّ ناصر أوّل قاض من الطائفة الشيعية يتسلّم رئاسة ديوان المحاسبة بموجب المرسوم الرقم 402 الصادر بتاريخ 25 تموز من العام 1990 استناداً إلى التعديلات التي طرأت على التوزيع الطائفي لمناصب الفئة الأولى وذلك في حكومة الرئيس سليم الحصّ في عهد الرئيس الياس الهراوي الذي كانت تربطه به صداقة متينة.
وهذا الديوان تقرّر إنشاؤه بصدور الدستور اللبناني في 23 أيّار من العام 1926 بحسب ما نصت المادة 87 منه، ولكنّه لم يتأسّس إلاّ في العام 1951 بموجب المادة 223 من قانون المحاسبة العمومية الصادر في 16 كانون الثاني من العام 1951 وذلك لـ”لسهر على إدارة الأموال العمومية”.
وعن هذه المهمّة يُخبر ناصر أنّ” الجو كان جديداً عليّ لأنّ الديوان قضاء مالي، ووجدت أنّ هيكليته هزيلة، فالتقيت برئيس مجلس النوّاب حسين الحسيني وأبلغته بأنّني اقترح زيادة عدد قضاة ديوان المحاسبة وتوسيع صلاحياته، فوافق، وصدر قرار بزيادة “الكادر” البشري دون الصلاحيات، لأنّها تتعارض مع مصالح السياسيين، وأصدرت قرارات فَسَخ معظمها مجلس الوزراء كونها تتعلّق بمصالح ذاتية لبعض الوزراء آنذاك”.
بعيد إحالته على التقاعد في العام 1992، تمّ تعيين عبد الله ناصر عضواً في لجنة المراقبة على المصارف التي أنشئت بهدف التخفيف من ضغط الولايات المتحدة الأميركية على لبنان لإلغاء سرّيّة المصارف، وكانت هذه اللجنة برئاسة حاكم مصرف لبنان ميشال الخوري وعضوية القاضي عبد الباسط غندور أيضاً وبقيت لغاية العام 1994 حيث توجّت عملها بتنظيم قانون تبييض الأموال وصدّق مجلس النواب عليه.
مؤسّس صندوق تعاضد القضاة
وأسّس ناصر صندوق تعاضد القضاة للمساعدات المرضية والاجتماعية في العام 1984 بعدما وضع القاضي بشارة متّى نظامه الذي صدر بتاريخ 29 تموز من العام 1983 بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم 52/1983، وتألّفت أوّل لجنة من ناصر رئيساً ومتّى أميناً للسرّ، والقضاة رشيد مزهر والمرحومين ديب درويش ومنح متري عن القضاء العدلي، والقاضي عفيف المقدّم عن ديوان المحاسبة، والقاضي سليم سليمان عن مجلس شورى الدولة أعضاء، وبقي رئيساً لمجلس إدارة الصندوق لغاية تقاعده.
كما أنّ ناصر أسّس رابطة قدامى القضاة في لبنان واستحصل باسمه على العلم والخبر الرقم 79/أد بتاريخ 8 تموز من العام 1999، وكان معه من المؤسّسين القضاة فرح شارل حدّاد، وأنور عبد الحميد الحجّار، وريمون نقولا المعلوف.
دفعه شغفه بالقانون إلى التماهي معه، “فقد كنّا ننتحر في إصدار الأحكام في أوقاتها ومواعيدها”. وتسأله ماذا علّمتك تجربتك في القضاء؟ فيجيب:” علّمتني أنْ أعدل بين الناس حتّى بعد تركي القضاء، وعلّمتني كمحامي ألا آخذ دعوى خاسرة”. وماذا عن نصيحتك للقضاة؟ فيقول: “التواضع ومعاملة المتقاضين بالتساوي”.
مارس القاضي ناصر التدريس في كلّيّة الحقوق والعلوم الإدارية والسياسية في الجامعة اللبنانية، ومعهد الدروس القضائية. وعيّن عضواً في المجلس الأعلى للتحكيم لدى غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت منذ العام 1998 مستفيداً من خبرته القضائية وله كتاب في هذا المجال بعنوان “قواعد وأصول التحكيم في لبنان”.
تأهّل ناصر من سهار إبراهيم زيدان من مدينة جبيل، ورزقا أربعة أبناء هم: المحامي محمّد وليد، والمصرفي فادي، والطبيب حميد (رئيس فرع جراحة الشرايين في مستشفى تورونتو في كندا)، وحنان زوجة سمير لاوند.
توفّى القاضي عبد الله ناصر يوم الأربعاء الواقع فيه 2 كانون الثاني 2008، وشيّع إلى مثواه الأخير في بلدته الحصين في فتوح كسروان ظهر يوم الجمعة الواقع فيه 4 كانون الثاني 2008.
• إلتقيت القاضي عبد الله ناصر في شهر حزيران من العام 2007 ودوّنت عنه حكايته مع القضاء، للتاريخ.