القضاء يتأرجح بين الإستقلالية والإستقالات
كتب علي الموسوي:
تُرك القضاء اللبناني نهْباً لحصار سياسي يرمي إلى تقليص فرص الحياة العزيزة لأعضائه القضاة، فاعترض بالتي هي أحسن.. باعتكاف عطّل مجرى العدالة حتّى تصويب الأمر وتحقيق مطلبه الرئيسي بالعودة، وبموجب معالجة تشريعية، عن الإجحاف اللاحق به في قانون سلسلة الرتب والرواتب.
وقد وجد القضاء نفسه أمام طوق قانوني يقضي بدمج صندوق التعاضد بصناديق أخرى تمهيداً لإلغائه نهائياً، مع تراجع القوّة الشرائية للرواتب بحيث صارت أدنى من تلك المحسوبة لموظّفي الفئة الثانية، فيما القضاة من الفئة الأولى بموجب الدستور الئي اعترف بوجودهم كسلطة مستقلّة، بالإضافة إلى تخفيض العطلة السنوية إلى شهر ونصف الشهر بعدما كانت قد تعرّضت في السابق للحسم من شهرين ونيّف.
ونام قضاة لبنان على تطمينات أهل السياسة بعدم الإقتراب من مكتسباتهم، ليصحوا في موسم العطلة القضائية وقد جُرّدوا من أمنهم الصحّي، وحقّهم في عيشة كريمة، كما قد حِيلَ بينهم وبين التنعّم بحياة هانئة تعزّز عدالتهم، بفعل قانون يستحيل دفنه حيّاً.
أسئلة مشروعة
فهل كان على قضاة لبنان أن يتعلّموا لغة السياسيين ليأمنوا شرّهم؟ وهل استرضاء بعض القضاة لشريحة لا بأس بها من السياسيين في الكثير من الملفّات والطلبات، دفع هؤلاء إلى قضم حقوقهم وبشكل يهدّد ليس قيامة سلطة قضائية مستقلّة في المستقبل وحسب، وإنّما حصول هجرة جماعية إلى الخارج حيث الأمن والأمان والتقدير والإهتمام؟ وهل كان على القضاة أن يتمسكوا باعتكافهم عندما علموا بمضمون السلسلة المذكورة في شهر آذار 2017، وأن يرفعوا نبرة الإحتجاج بلا هوادة حتّى تطمئنّ قلوبهم إلى أنّهم سيكونون بخير فتخشاهم السلطة السياسية وتعترف بتنفيذ مضمون الدستور لجهة اعتبارهم سلطة مستقلّة؟.
تتلاطم الأسئلة من دون أجوبة حاسمة، ولكنْ ما يمكن قوله هو أنّه يتوجّب على قضاة لبنان كبيرهم وصغيرهم، أن يقفلوا هواتفهم بوجه التدخّلات والضغوطات من أيّ جهة سياسية أتت، وأن يغلقوا أبواب مكاتبهم، فلا يُسمح للوزراء والنوّاب والسياسيين الذين كثيراً ما نراهم في قصور العدل يطلبون خدمة من دون حقّ قانوني، بالدخول إليهم، فالقاضي هو الذي يرفع من أيّ منصب يعتليه، حتّى ولو كان هامشياً في أية تشكيلات، وليس المركز على الإطلاق!.
قد يفعلها قضاة دون قضاة، فهذه الخطوة الجريئة والجوهرية لا تحظى بالإجماع، ولا بالأكثرية، ولا بالإتفاق، لتصدر كحكم مبرم غير قابل للطعن أو أيّة طريقة من طرق المراجعة!.
وبمجرّد أن قام المجلس النيابي بإقرار قانون السلسلة في 18 تموز 2017، حتّى ثار الغضب القضائي على يد مجموعة “قضاة لبنان” عبر تطبيق “الواتساب” الذي جرى تفعيله بعد انقطاع لم يعمّر أكثر من شهرين حفاظاً على مبدأ “موجب التحفّظ”، ثمّ انتقل التفاعل التدريجي إلى جمعية عمومية مصغّرة في 19 تموز حيث أعدّ بعض القضاة كتابين مختلفين في النتيجة يتعلّق أوّلهما بتقديم استقالات جماعية، ويرتبط ثانيهما بـ”الإعتكاف الشامل” حتّى تنفيذ المطالب.
النصّ الحرفي لكتابي الإستقالة والإعتكاف
وحصلت “محكمة” على نصيّ الإستقالة والإعتكاف، وقد جاءا متطابقين من حيث العبارات، مع اختلاف في النتيجة والمحصّلة. فورد في كتاب الإستقالة التالي:
“لمّا كان القضاء سلطة مستقلّة بحسب الدستور الذي حفظ لها استقلاليتها في المادة عشرين منه،
ولمّا كان القضاة الموقّعون أدناه لا يقبلون بالإخلال باستقلال السلطة القضائية وهو الركن الأساس في قيام دولة القانون في لبنان،
ولمّا كانت بعض المواد القانونية التي أقرّها المجلس النيابي في جلسته المنعقدة بتاريخ 18/7/2017 تتضمّن مسّاً غير مقبول بالسلطة القضائية من حيث وجودها واستقلالها،
ولمّا كانت ممارسة السطة القضائية وإصدار الأحكام باسم الشعب اللبناني لا يمكن أن ينتظم إلاّ ضمن إطار قانوني متوافق مع الدستور، وهو الأمر غير المتوفّر في ظلّ التعاطي مع السلطة القضائية بالشكل الذي تظهّر في التشريع المتعلّق بشؤونها،
لذلك، يتقدّم القضاة الموقّعون أدناه باستقالتهم لمجلس القضاء الأعلى”.
أمّا كتاب الإعتكاف المهدّد بالإستقالات الجماعية، فانتهى إلى الخلاصة التالية:”لذلك، قرّر القضاة الموقّعون أدناه، الاعتكاف الشامل عن أداء جميع المهام القضائية بما فيها أعمال اللجان القضائية وذات الصفة القضائية وصولاً إلى تقديم الإستقالات الجماعية لحين تعديل المواد المتعلّقة بالسلطة القضائية”.
واضطرّ مجلس القضاء إلى “دعوة القضاة العدليين إلى الإعتكاف عن العمل القضائي، باستثناء النظر في قضايا الموقوفين، إعتباراً من صباح الخميس الواقع في 20/7/2017 وذلك لحين إجراء المعالجة التشريعية”، وهذا ما أدّى إلى إصابة العدليات والمحاكم بالشلل.
لقاء بري مثمر
ولم تكد تمرّ 72 ساعة على إقرار قانون السلسلة، حتّى كان الرئيس نبيه بري أوّل المستقبلين لمجلس القضاء الأعلى الذي سارع إلى القيام بحركة إلتفافية لتلقّف الغبن اللاحق بالجسم القضائي.
وعلمت “محكمة” من مصادر مطلعة أنّ هذا اللقاء كان إيجابياً جدّاً، وقد وضع الرئيس بري الوفد في أجواء المداخلات التي قيلت خلال جلسة إقرار القانون من بعض الوزراء والنوّاب، حيث كانت هنالك محاولات لتوليد صناديق إضافية بذرائع مختلفة، منها لهذه المؤسّسة(أحد الوزراء)، ومنها لقطاع آخر(النائب أحمد فتفت)، فاستشعر الرئيس بري أنّ هناك نيّة لإطاحة السلسلة برمّتها وهو الذي كان حريصاً على المضي قدماً في إقرارها، وسبق له أن جاهر بذلك قبل نحو أسبوع من موعد الجلسة التشريعية.
وإزاء ارتفاع الأصوات في سوق المزايدات والمطالبات الكلامية، وهي متعمّدة، كان لا بدّ من تطويقها، بالمصادقة على البند الثالث والثلاثين والمتعلّق بدمج الصناديق كما هو وارد في المشروع.
وطلب بري إلى الوفد القضائي إعداد مشروع قانون من مادة وحيدة لتعديل النصوص المشكو منها على أن يقدّمه عدد من النوّاب(من واحد إلى عشرة كأقصى حدّ) بصيغة معجّل مكرّر، وتُوضَّح فيه صفة الإستعجال، وعند إقرار سبب الإلحاح والإستعجال، تجري مناقشتها والتصويت عليها، وفي حال رفضها، وهو أمر غير مستبعد، يحال الإقتراح على اللجنة المختصة، وهي لجنة الإدارة والعدل النيابية لدرسه مجدّداً.
جمعية عمومية موسّعة
ويوم الإثنين في 24 تموز 2017، عُقِدت جمعية عمومية موسّعة لقضاة لبنان في القاعة الكبرى لمحكمة التمييز في الطبقة الرابعة من قصر عدل بيروت بحضور حشد من القضاة العاملين والمتقاعدين في القضاء العدلي والإداري والمالي، وضع خلالها القاضي جان فهد الحاضرين في مآل القانون المعجّل المكرّر الذي طلبه الرئيس بري، وتحدّث رئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر والقاضي رندة حروق، لكنّ القضاة، وبشكل إجمالي، لم يكونوا راضين عن مسار الأمور في ظلّ التعاطي السلبي من بعض أهل السلطة السياسية.
وحرص المعنيون على استباق إمكانية رفع بعض القضاة سقف الكلام في مداخلاتهم في هذه الجمعية، فوجّهوا رسالة لهم بطريقة غير مباشرة، بضرورة “التكلّم بروية وهدوء ومناقبية، ودون استفزاز وتهكّم، ودون توجيه أيّ سباب إلى أيّ سياسي!” وذلك خشية تكرار ما حصل في “الجمعية المصغّرة” في 19 تموز 2017 حيث كان سقف الكلام عالياً جدّاً.
وزار مجلس القضاء الأعلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في 25 تموز، ورئيس الحكومة سعد الدين الحريري في 31 تموز، من دون أن يخرج بنتيجة مرضية تشفي غليل القضاة المنتظرين، ليبقى القضاء معلّقاً بـ”سلسلة” لن يكون التراجع عنها لا خطأ ولا خطيئة، وإنّما الإبقاء عليها هو إجهاز على روح العدالة المتبقيّة في لبنان.