ما هي الظروف الإستثنائية التي تمهد إعلان حالة الطوارئ؟/صلاح رعد
كتب المحامي الدكتور صلاح رعد:
يمكن تعريف الظروف الإستثنائية بأنّها نظام إستثنائي محدّد في الزمان والمكان لمواجهة ظروف طارئة وغير عادية تهدّد البلاد أو جزءاً منها وذلك بتدابير مستعجلة وطرق غير عادية في شروط محدّدة ولحين زوال التهديد.
أمّا شروط تطبيق النظرية، فهي وجود حدث غير متوقّع واستثنائي، إستحالة أو صعوبة العمل فيه طبقاً للقواعد العادية وضرورة العمل العاجل حفاظاً على المصلحة العامة.
وفور إعلان الظرف الإستثنائي تتولّى السلطة العسكرية صلاحية المحافظة على الأمن، وفرض التكاليف العسكرية بطريق المصادرة وتحرّي المنازل ومنع التجوّل والإجتماعات.
إذاً، تشرّع الظروف الإستثنائية للإدارة القيام بجميع التدابير الضروروية لمواجهة الظروف الإستثنائي وإن كان العمل يمسّ بالحقوق أو الحرّيات العامة.
من جهة أخرى، فإنّ الأعمال التي تقوم بها الإدارة في هذه الظروف لا تكون بمنـأى عن الرقابة القضائية، بل تخضع هذه الأعمال لرقابة القاضي الإداري، كما أنّه أثناء الظروف الإستثنائية وبالرغم من انتهاكها لبعض الحقوق والحرّيات العامة، فإنّ هناك ضمانات وحقوقاً تبقى سارية كمبدأ شرعية الجرائم والعقاب، وحرّية التعبير والإعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية، والحقّ في الحياة، وعدم التعرّض للتعذيب والإسترقاق.
في لبنان، لم يلحظ الدستور أيّ نصّ يتعلّق بالظروف الإستثنائية أو بإعلانها أو آثارها، ممّا قد يطرح فرضية بأنّ هذه النظرية ليست دستورية كون الدستور لم يتطرّق لها، إنّما لحظ المشترع اللبناني حالة الظروف الإستثنائية في المرسوم الاشتراعي رقم 52 الصادر في 5 آب 1967 وحدّدها في حالة واحدة فقط هي حالة الطوارئ. ولها مفعولان هما إناطة السلطة العسكرية صلاحية حفظ النظام العام، والثاني التضييق على الحرّيات العامة.
وقد نصّ المرسوم الاشتراعي رقم 52، على أنّه “تعلن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية في جميع الأراضي اللبنانية أو في جزء منها عند تعرّض البلاد لخطر مداهم ناتج عن حرب خارجية، أو ثورة مسلّحة، أو أعمال، أو إضطرابات تهدّد النظام العام والأمن، أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة”.
تعلن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية بمرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء، وعلى مجلس النوّاب الإجتماع خلال مهلة ثمانية أيّام للنظر بهذه التدابير حتّى وإن لم يكن في دور الإنعقاد.
كي نكون أمام ظرف إستثنائي، هناك شروط يجب أن تتوافر أوّلاً قبل الإعلان عن هذا الظ،رف وبالتالي إتخاذ الإجراءات المقرّرة له.
أوّلاً: الشروط الموضوعية
حتّى يبرّر للإدارة أعمالها القائمة أثناء الظروف الإستثنائية، هناك قيود وضوابط معيّنة عليها، تتمثّل هذه الشروط بالتأكّد من أنّ الإدارة قد مرّت في ظرف شاذ غير مرتقب، عجزت عن مواجهته بالطرق العادية وأنّ هناك ضرورة فرضت على الإدارة مواجهة هذا الظرف، وذلك من أجل المصلحة العامة.
ثانياً: الشروط الشكلية
يشترط لإعلان حالة الطوارئ:
1 – صدور مرسوم في مجلس الوزراء. نصّ المرسوم الاشتراعي رقم 52 الصادر في 5 آب 1967 بأنّه تعلن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية بمرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء.
2 – إجتماع مجلس النوّاب خلال مهلة ثمانية أيّام للنظر بهذه التدابير حتّى وإن لم يكن في دور الانعقاد.
والجدير بالذكر في هذا السياق، أنّه قبل اللجوء لمثل هذه الحالات من حالات الظروف الإستثنائية، يستوجب حتماً إستنفاذ جميع الآليات الأوّلية خاصة منها كافة التشريعات العادية ، والتي يمكن من خلالها معالجة الأوضاع وتهدئتها بطريقة سلمية في المرحلة الأولى مع إعطاء وتكييف ما هو لازم من النصوص القانونية والتدابير العقابية بشكل يتماشى مع كافة معطياتها المادية الميدانية ، بناء على دراسة جدّية ومعمّقة لتشخيص الأسباب والمبرّرات التي أدّت إلى تدهور الأوضاع وتفاقمها، وهذا بإشراك كافة القوى الفعّالة في الدولة من مؤسّسات شخصيات سياسية وعلمية وممثّلي المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ومنظّمات و جميع الكتل الشعبية الأخرى مهما كان نوعها ودون إقصاء أيّ طرف ، لما تتمتّع به السلطة من إمتيازات عامة تستطيع بموجبها تحقيق ذلك بشكل يدفع إلى بعث الثقة وارتياح النفوس واستبعاد السخط والتذمّر الشعبي والتعنّت والتصلّب في المواقف ضدّ السلطة الحاكمة. وهذا تفادياً وتجنّباً للدخول في مثل هذه الظروف التي نراها قاسية، بحكم طبيعتها التي يصعب التحكّم فيها وفيما قد لا يحمد عقباه، لاسيّما إذا تفاقمت أحداثها وووقائعها إلى درجة إقترانها بالجرائم والأعمال الإرهابية والتخريبية، والتي يصعب تحديد مصدرها غالباً، بحكم ارتكابها القائم على أساس الطابع الجماعي والذي يعتبر مساساً خطيراً تكون له آثار بالغة الضرر، خاصة على الحرّيات العامة، كتلك التي عاشها لبنان في ظلّ الحرب الأهلية التي دامت قرابة الخمسة وعشرين سنة سوداء، والتي تعتبر زوبعة قوية هزّت كيان الدولة ومؤسّساتها الدستورية واستقرارها وسيادتها، بفعل ما عرفته من إرهاب خطير وتخريب كبير بأبشع الصور اللاإنسانية التي يستنكرها العقل والضمير الانساني بصفة عامة ، مهما كانت الأسباب والمبرّرات نظراً لكونها بعيدة كلّ البعد عن القيم الإنسانية والحضارية وعادات الشعب اللبناني برمّته.
والجدير بالذكر، أنّ لبنان يعدّ من بين دول العالم التي أدركت القيمة الفعلية الملموسة لمكانة الحرّيات العامة لاسيّما بعدما أصبح طرفاً في العديد من الإتفاقيات الدولية بموجب مصادقته وتوقيعه على عدة إتفاقيات دولية بشأنها لا سيّما الإعلان العالمي لحقوق الانسان، والذي يحدّد من ضمن الأهداف الأساسية للجمهورية الدفاع عن الحرّيات واحترام كرامة الإنسان .وإنْ دلّ ذلك عن شيء، فإنّما يدلّ على مدى تأثّر لبنان بموضوع الحرّيات العامة بسبب الحرمان الذي تعرّض له شعبه خلال فترة الإنتداب.
وعليه فرغم شرعية الظروف الإستثنائية إذا دعت الضرورة الملحّة بإلزامية اتخاذها من أجل حماية النظام واستتباب الأمن، إلاّ أنّها تتطلّب إعادة النظر في كلّ النصوص الخاصة بها، كتلك المتعلّقة بإعلانها وتقريرها وتطبيقها، مع ضرورة دعمها برقابة دستورية وقضائية وإدارية فعّالة يمكن أن تجدي نفعاً في تحقيق ضمان حماية الحرّيات العامة لما قد تقرّره من أحكام أثناء فصلها في القضايا المطروحة أمامها في بعض المسائل ذات العلاقة بإجراءات وتدابير الظروف الإستثنائية. بأمل أن ينعكس ذلك إيجاباً على روح الوحدة وبحثاً عن تحقيق المصالحة الوطنية والتي هي في أمسّ الحاجة إليها حالياً، بالنظر لما كانت عليه في السابق من أجل تضميد الجراح ونبذ الأحقاد ونسيان الماضي المرير وخلق روح التسامح والتعايش في جوّ سلمي يبعث أملاً بلبنان أفضل في الغد.
ما هو أثر إعلان حالة الطوارئ بحرّية التنقّل المكفولة بالدستور؟
يعتبر التجمّع السلمي والتظاهر إحدى طرق ممارسة حرّية التعبير في المجتمعات الديمقراطية. ونصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1948 في المادة 20 منه على أنّه:”لكلّ شخص حقّ في حرّية الإشتراك في الإجتماعات والجمعيات السلمية”. كما ونصّت المادة 21 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أنّه: “يكون الحقّ فى التجمّع السلمي معترفاً به، ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحقّ إلاّ تلك التى تفرض طبقاً للقانون، وتشكّل تدابير ضرورية فى مجتمع ديمقراطي لصيانة الأمن القومي، أو السلامة العامة، أو النظام العام، أو حماية الصحّة العامة، أو الآداب العامة، أو حماية حقوق الآخرين وحرّياتهم.”
وفي لبنان كغيره من الدول الديمقراطية، أولى الدستور اللبناني إهتماماً خاصاً بالحرّيات، حيث نصّت الفقرة ج من مقدّمته على أنّ: “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحرّيات العامة “، كما ونصّت المادة 13منه “حرّية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرّية الطباعة وحرّية الإجتماع وحرّية تأليف الجمعيات كلّها مكفولة ضمن دائرة القانون”.
وإذا كان الدستور نصّ على حقّ الإجتماع وحقّ تكوين الجمعيات، فقد نظّم القانون كيفية ممارسة هذه الحقوق، واشترط إبلاغ الحكومة، وعدم حمل السلاح وأن يكون للإجتماع وتكوين الجمعية غاية مباحة ودون أن يتضمّن ذلك مخالفة للنظام العام أو الآداب في الدولة.
ورغم أنّ المبدأ العام هو حرّية التجمّع والتظاهر، إلاّ أنّ هذا الحقّ ليس مطلقاً، فقد وضع له المشترع قيوداً، حيث نصّت المادة الثانية من القرار رقم115/ل.ر. تاريخ 12 /8/1932 المتعلّق بقمع المخالفات التي من شأنها الإخلال بالأمن العام في لبنان على أنّه:”يعدّ إخلالاً بالسلام والنظام العام ويقع تحت طائل العقوبات المذكورة في المادة الأولى: الإشتراك بجمع أو حشد أو موكب غير مأذون به”.
أمّا عند إعلان المنطقة العسكرية أو حالة الطوارئ، فالأمر يبدو مختلفاً لأنّ هذا الحقّ المكفول دستورياً يتلاشى مع أحكام المرسوم الاشتراعي رقم 1967/52، ليزول كلّياً هذا الحقّ فقد نصّ المرسوم المذكور على منع الإجتماعات المخلّة بالأمن …ومختلف أماكن التجمّع بصورة مؤقّتة.
لنظرية الظروف الإستثنائية تأثير بالغ الخطورة على الحرّيات العامة، فمواجهة هذه الأحوال والأوضاع الإستثنائية لا يمكن أن تتمّ بالوسائل العادية ومن دون التعرّض للحرّيات العامة، بل إنّ هذه الظروف توجب التنازل عن كثير من الضمانات المقرّرة للحرّيات العامة ولحقوق المواطنين، ولكن يجب عدم المبالغة وإساءة استخدام هذه الظروف الإستثنائية لغير الغاية التي أعدّت لها، أو إبقاء هذه الحالة لمدّة طويلة.
إنّ الحرّيات العامة مدعوة لأن تمارس في محيط إجتماعي معين قائم على مرتكزات مادية معيّنة، وبالتالي فإنّ كلّ تهديد لسلامة هذه المرتكزات هو تهديد للمجتمع من جهة، وللحرّيات التي تمارس في إطاره من جهة ثانية. لذلك كان من الضروري أن لا تصل ممارسة حرّية ما إلى نقطة المسّ بما يسمّى “النظام العام” للمجتمع مع كلّ ما يتضمّنه هذا المفهوم من معاني السلامة والأمن وعدم الفوضى.
“محكمة” – الأحد في 2020/3/15