إضاءة على المخالفات القانونية في قراري مصرف لبنان/سابين الكك
د.سابين الكك:
في ظلّ، واقع مالي مأزوم ودولة متعثّرة لتسديد ديونها السيادية، وحكومة زادت في التخطيط “للخطّة” حتّى انفلقت، يصدر حاكم المصرف المركزي، الملتزم صورياً كافة المسؤوليات القانونية الملقاة على عاتقه، قرارين متلازمين زمنياً ومترابطين تنظيمياً ومتّحدين سببياً.
في ظاهر القرار ١٣٢١٥، من الخبث والتذاكي والابداعات الهندسية ما جعل الإعلام اللبناني يصرخ ابتهاجاً وتهليلاً لصدقية النوايا، وفي حقيقة مشهد القرار ١٣٢١٥، من العبثية والمواربة والعفن ما يجعلنا ننكفئ عن إبداء ملاحظات قانونية بمعرضها، لعلمنا المسبق أنّه سيكون من النادر، إيجاد من تنطبق عليه الشروط التعجيزية الواردة في متن القرار، وأمّا إذا وجد هذا المحظوظ، صدفة لا قصداً، قد يعتبر نفسه غير معني به لعدم وجود مصلحة مجدية منه. ولكن، حرصاً على الاستمرار بمتابعة كافة الشؤون المصرفية-القانونية،
نوضح الآتي:
عدم استعمال القرار لعبارة “ودائع” أو “مودعين” يؤكّد أنّه بالمفهوم المصرفي، لا تصنّف هذه الحسابات تحت خانة الودائع أوالادخارات، في حين أصرّ أغلب الاعلام اللبناني على استخدام عبارة “صغار المودعين”.
الحسابات المعنية بموجب المادة الأولى والثانية: الحسابات الدائنة قبل تاريخ صدور القرار.
السقف المحدّد للحساب: ٥ ملايين ل.ل. أو ٣٠٠٠$ وما دونهما.
كيفية احتساب الحدّ الأقصى للسقف: مجموع حسابات العميل الدائنة مهما كان نوعها، أو أجلها، أو طبيعتها، لدى المصرف، بعد تنزيل قيمة أيّة ديون مستحقّة على العميل لصالح المصرف، وبأيّ عملة كانت (وطبعاً احتساب الديون من الليرة إلى الدولار أو العكس سيكون على السعر الصرف المطبّق على الحساب الدائن).
الإجراءات المطلوبة: موافقة خطّية من العميل خلال ٣ أشهر من تاريخ القرار.
المبلغ الممكن سحبه: كامل المبلغ دفعة واحدة.
عملة السحب:
لفئة الـ ٥ ملايين ل.ل.: للعميل أن يقبض المبلغ بالليرة اللبنانية بما يوازي قيمته بالدولار الأميركي كما يلي /المبلغ: على سعر الصرف المعتمد للعمليات بين مصرف لبنان والمصارف في ذات اليوم.
*وليس بالضرورة ١٥٠٠ل.ل./قيمة المبلغ بالدولار تحوّل إلى الليرة اللبنانية على حسب سعر السوق المحدد من المصرف يومياً/ لتحويله المبلغ الفعلي المقبوض بالدولار على العميل صرفه إمّا لدى مصرف لبنان وبسعر السوق في تاريخه* والذي قد يختلف عن السعر لدى المصرف، وإمّا لدى أيّ صرّاف.
لفئة الـ 3000 دولار أميركي: الخيار الوحيد المتاح هو الاستحصال على المبلغ كاملاً بالعملة اللبنانية فقط على سعر السوق في ذات اليوم/ ومن هنا يمكن إعادة تحويل المبلغ إلى دولار وفقاً لما ذكرناه آنفاً.
بناء على ما تقدّم، يمكن أن نخلص إلى أنّ هذا القرار يحمل في ثناياه، تدابير غير معلنة ولكنّها ستطبّق حتماً:
رفع مستوى “الكابيتال كونترول” إلى سقفه الأعلى، لناحية تقييد عمليات سحب الدولار من المصارف وحصرها بفئة الـ ٥ ملايين ل.ل. بالشروط التعجيزية المعتمدة في القرار.
الإقرار بالإزدواجية في سعر الصرف داخل كلّ بنك ودون تصنيف العمليات الخاصة بكلّ فئة.
لجوء المصارف إلى تحرير نفسها من قبض ديونها من العملاء على سعر الـ ١٥٠٠ الذي لم يرد ذكره ولا مرّة في القرارين.
التسويق لفكرة تحرير حسابات صغار المودعين هي بدعة وهمية.
التسويق لفكرة أنّ القرار يطال مليون ونصف مليون حساب قيمتهم ما دون ٣٥٠٠ دولار أميركي كذبة سقطت سريعاً، لأنّها هي عبارة عن حسابات التوطين، وليست ودائع صغار المودعين، والتي لن يستطيع أصحابها الاستفادة من القرار بعد صدوره. ومن خطّط وهندس هذا القرار كان يعلم جيّداً طبيعتها، لذلك استدرك الأمر وحصرها بالحسابات الدائنة المستوفية الشروط بتاريخ صدوره.
حسابات التوطين بالعملات الأجنبية لن تدفع بعد الآن إلاّ بالليرة اللبنانية على سعر صرف ترك أمر تحديده يومياً للمصارف.
أمّا وقد تجرأت المصارف ومصرف لبنان على سلوك اتجاه الامتناع عن دفع الحسابات الدائنة بالدولار الأميركي، وإلزام أصحابها بتحويلها إلى الليرة اللبنانية، تحت شرط عدم الدفع، دون حسيب أو رقيب… الآتي سيكون أعظم.
بتفصيل ما أورده القرار ١٣٢١٦، من إجراءات وتدابير تتعلّق بشراء العملات النقدية، على اعتبارها قرارات قانونية سليمة، نورد الآتي:
مخالفة قانونية جديدة تضاف إلى ما سبق، ارتكبها حاكم مصرف لبنان متذرّعاً بتطبيق صلاحيات قانونية أوكلت إليه بموجب النقد والتسليف. وفي حقيقة الأمر، أنّ المشرّع نصّ في المادة ٨٣ بند “ب” من قانون النقد والتسليف على ما حرفيته؛ “خلافاً لأحكام المادة السابقة يمكن للمصرف:
أ-…
ب- أن يقوم مباشرة في حالات استثنائية وبالاتفاق مع وزير المالية بشراء العملات الأجنبية من الجمهور وبيعها منه”.
الصحيح أنّ المادة تعطي للمصرف المركزي، إمكانية القيام بعمليات مباشرة مع الجمهور، خلافاً للمادتين ٨١ و ٨٢، وهي واضحة، في غاياتها وشروطها:
• الهدف، هو السماح لمصرف لبنان، أن يقوم بعمليات “بيع وشراء” للعملات الأجنبية، بغية المحافظة على المصلحة الاقتصادية العليا، المؤتمن عليها؛ إستقرار سعر النقد والحدّ من تدنّي قيمته.
• الإستثناء أعطي لمصرف لبنان، لينفّذ مباشرة، مع الجمهور، سياسة نقدية خاصة فرضتها أحوال معيّنة، وذلك على قاعدة ضخّ سيولة من العملات الأجنبية لمنع أيّ انزلاق أو تدهور خطير في سعر الصرف.
• الإستثناء بحسب المادة ٨٣، حصراً، يجب أن يتمّ حصراً عبر “بيع وشراء” العملات الأجنبية، الأمر الذي يستلزم توفّر كميّة من السيولة بالعملات الأجنبية في يد مصرف لبنان، طالما أنّ هذه العملية تفترض حتماً أداء الثمن نقداً.
• الأصل أنّ مصرف لبنان ينفّذ عملياته عبر المصارف والمؤسّسات المالية، واستثناء في البند “ب” يعطى الحقّ بالتعاطي المباشر مع الجمهور، وبالتالي المقصود هو إزالة أيّ وساطة أو صلة وصل مع العموم، والمبادرة إلى خلق سوق للقطع وللتداول بعيداً عن المصارف والمؤسّسات المالية والصيارفة، وإلا لِما الحاجة لهذا الإستثناء.
ويظهر بجلاء أنّ قرار مصرف لبنان، يتعارض بوضوح تام، مع المفهوم الاستثنائي للمادة ٨٣، مع الأسباب التشريعية الموجبة لها، ومع الشروط القانونية المفروضة بنصّها الحرفي، خاصة أنّه:
• إمتنع عن وضع آلية مباشرة مع الجمهور، واضحة ومعمّمة، تجعل من المصرف المركزي أولوية وبديلاً لإتمام عمليات بيع وشراء النقد الأجنبي.
• عزّز دور المصارف ومؤسّسات الصرافة، عوضاً عن فرض نمط من العلاقة المباشرة مع الجمهور هو المطلوب بالمادة ٨٣، وصولاً للحدّ من احتكار القطاع الخاص لسوق الصرف وتحكّمه بلعبة العرض والطلب.
• أنشأ لهذه الجهات المالية منصّة رسمية عبر مصرف لبنان، وأدخلها شريكة ولاعبة في تنفيذ سياسة نقدية، مفترض أنّها موجّهة ضدّها بالمادة ٨٣، وليس تكريساً لدورها في تدنّي قيمة النقد الوطني.
• حرّر سعر الصرف، في حين أنّ المطلوب هو استقرار سعر الصرف، في هذا الوقت بالذات، والمقصود بتحرير سعر الصرف علمياً، ليس عدم وضع سعر رسمي للعملات الأجنبية صادر عن المصرف المركزي، وإنّما التحرير يعني تحديداً:
تقرير سعر الصرف الرسمي بحسب سعر السوق، وهذا واضح من خلال المنصّة الالكترونية المنوي انشاؤها بغاية التنسيق مع المصارف والصيارفة.
عدم وجود آليات قانونية تسمح بملاحقة المخالفين ومقاضاتهم.
عدم تدخّل المصرف المركزي بضخّ السيولة النقدية من العملات الأجنبية لمنع السوق من احتكار حجم الكتلة النقدية من هذه العملات، وتحديد الأسعار.
عدم التزام المصرف المركزي سقفاً واضحاً لسعر الصرف، تاركاً تحديده رهناً بشفافية المصارف ومؤسّسات الصرافة.
• تكريس الإزدواجية، في أسعار الصرف، في المادتين الثالثة والرابعة من القرار ١٣٢١٥، والذي ستضع المواطن اللبناني أمام مواجهة، داخل المصرف الواحد بحسب نوع العملية (وطبعاً لم تدرج قائمة بالعمليات)، وفي مواجهة بين المصارف، إذ تركت الحرّية لكلّ بنك بأن يعتمد ما يناسبه من سعر للدولار (وطبعاً أفخاخ كثيرة تنتظرنا).
في سياق هذه القراءة القانونية، نرى من الأهمّية بمكان، البحث في المفاعيل التي من شأنها أن تترتّب نتيجة مشاركة مؤسّسات صرافة خاصة، عمليات التداول بالعملات الأجنبية النقدية ضمن “الوحدة” التي أنشئت في مديرية العمليات النقدية لدى “المصرف”، بناء على القرار ١٣٢١٦ الصادر عن الحاكمية المركزية بتاريخ 2020/4/3. وما استدعى انتباهنا تحديداً، ليس فقط عدم قانونية هذه المشاركة لتعارضها المبدئي مع الأسباب الموجبة لنصّ المادة ٨٣، وإنّما أيضاً، خطورة هذه الخطوة، لناحية الآثار العملية التي قد تترتّب بمعرض أو بمناسبة أو بسبب هذه المشاركة.
وإذا كان الغوص، في تحديد هويّة الجهة المسؤولة، قانوناً، عن عمليات تداول الصرف التي ستقوم بها مؤسّسات الصيرفة مع الجمهور، مستخدمةً، مديرية واقعة تحت غطاء وخصوصية وإشراف مصرف لبنان، يبدو مسألة قانونية بديهية، فإنّ الإشكالية الأكبر تثيرها مسألة، استفادة الصيارفة المشاركين من الخصوصية القانونية الممنوحة لمصرف لبنان، كمؤسّسة عامة تتمتّع باستقلالية مادية.
من المتفق عليه، بأنّ مصرف لبنان، هو مؤسّسة عامة تجارية غير إدارية، يتمتّع بطبيعة قانونية خاصة تجعله تاجراً في علاقته مع الغير (المادة ١٣ من قانون النقد والتسليف) ويخضع للقواعد التجارية والمصرفية والعرفية، وهو:
” يكتسب الصفة التجارية بمناسبة قيامه بنشاطاته لكونه مصرفاً يمارس أعمالاً مصرفية عادية سواء مع المصارف الأخرى أم مع المؤسّسات المالية أم مع القطاع العام… على أن يكون القضاء العدلي مختصاً للنظر في النزاعات الناشئة عن الأعمال الذي يكتسب مصرف لبنان الصفة التجارية على أساسها.” (مجلس شورى الدولة، مجلس القضايا، قرار رقم ٢٧٨ تاريخ 1995/2/15، الجامعة اللبنانية، موقع مركز المعلوماتية القانونية الإلكتروني، www.legiliban.ul.edu.lb)
واعتبرت الأعمال التنظيمية التي تقرّرها حاكمية المصرف المركزي من ضمن الصلاحيات الممنوحة لها لتنفيذ سياسات المصرف النقدية المالية، تقع ضمن السلطة العامة الاقتصادية (Police Economique) وفي هذا الصدد، من المحسوم،”بأنّ حاكمية مصرف لبنان وبموجب المادة ٧٠ من قانون النقد والتسليف، أعطاها المشرع وسائل تنظيمية ومنحها لذلك امتيازات السلطة العامة (prérogative de puissance publique) لاتخاذ أعمال من جانب واحد تنتج بحدّ ذاتها واجبات والتزامات للأشخاص الثالثين، علماً بأنّ القانون الخاص لا يعرف مثل هذا النوع من التدابير.” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم ١٦٠ تاريخ 1993/12/6، الجامعة اللبنانية، موقع مركز المعلوماتية القانونية الالكتروني، www.legiliban.ul.edu.lb).
إذا، من المرجّح أنّ عمليات تداول العملات الأجنبية مباشرة مع الجمهور، والتي منحت استثناء لمصرف لبنان تصنّف ضمن السلطات التنفيذية الممنوحة له كشخص من أشخاص القانون العام وبموافقة خاصة من وزارة المالية على اعتبارها وزارة الوصاية، وبالتالي لا بدّ من بحث مدى قانونية إشراك الصيارفة والمصارف في آليات التنفيذ والتسعير، ليبنى على الشيء مقتضاه. حيث إنّ القول بقانونية القرار١٣٢١٦، قد يعني، توحيد المسار القانوني لناحية طبيعة العمليات وشروطها والأحكام المطبّقة عليها، بين مؤسّسات الصيرفة من الفئة “أ” المشاركة والـ “وحدة” المنضوية تحت مديرية العمليات النقدية والمتمتّعة بسلطات المؤسّسة العامة، وبالتالي، ستكون هذه المؤسّسات استعملت مصرف لبنان للقيام بعمليات تجارية وصيرفية مضمونة بخصوصية لا تعطى إلاّ للقطاع العام.
وأخيراً للتذكير فقط، فإنّ تطبيق المادة ٨٣ يقتضي موافقة وزير المالية! والمنطق، يقودنا إلى طرح سؤال بديهي، هل أعطى وزير المالية موافقته على استعمال مصرف لبنان احتياطات نقدية بالعملة الأجنبية استناداً للمادة ٨٣؟ وهو المكلّف أصلاً، بقرارٍ صادرٍ عن مجلس الوزراء في تاريخ 2020/3/16 التحقيق والتدقيق في البيانات المالية للمصرف المركزي لاتخاذ المقتضى. وفي الواقع، إذا صدر القرار بناء لموافقة مقدّر وجودها ولكنّها لم تصدر رسمياً عن الوزير، فهذه مصيبة!!!، وإذا كان قد أجاز، استثناء لمصرف لبنان بيع وشراء العملات الأجنبية من الجمهور مباشرة، وهو لا يملك الأرقام الحقيقية لاحتياطات العملات الأجنبية، فهذه مصيبة أكبر!!!
“محكمة” – السبت في 2020/4/4
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.