كتب علي الموسوي:
بعد مرور أربعة شهور على صدور قرار تأديبي بحقّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة القاضي بيتر جرمانوس ترافق مع قرار ذاتي إلتفافي بترك القضاء، وقّع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مرسوم إنهاء خدماته الفعلية التي بلغت 26 سنة و83 يوماً منذ دخوله إلى القضاء العدلي في 17 آذار 1994.
وعلى الرغم من موافقة مجلس القضاء الأعلى قبل أربعة شهور على كتاب استقالة جرمانوس وتوقيعه أيضاً من وزيرة العدل الدكتورة ماري كلود نجم، إلاّ أنّه توقّف في القصر الجمهوري، وإن كان الرئيس عون غير ملزم بمدّة زمنية لتوقيعه.
تعويم
وسيقت في كواليس العدلية تحليلات جمّة حول تأخير توقيع مرسوم الإستقالة، وربَطَها بعضهم بمرسوم التشكيلات القضائية معتقداً بصدورهما معاً، غير أنّ جرمانوس استعجل إنهاء حياته القضائية على طريقته بعد انتقاده أداء زميلته القاضي غادة عون في ملفّ”الفيول المغشوش” ومقدّم الإخبار التيّار الوطني الحرّ عبر أحد أعضائه المحامي وديع عقل، ولم تشفع له مسارعته إلى إزالة التغريدة وإلصاق تهمة وضعها بمقرصن مجهول.
وسعى القصر الجمهوري ممثّلاً بالمستشار وزير العدل الأسبق سليم جريصاتي، مراراً إلى إعادة تعويم جرمانوس للتخفيف من ثقل قرار المجلس التأديبي بحقّه واستقالته، ودعاه مرّات عدّة لحضور اجتماع المجلس الأعلى للدفاع في القصر الجمهوري لبحث التدابير الاحترازية للوقاية من فيروس “كورونا” وإعلان التعبئة العامة. وكان اسم جرمانوس يرد في قائمة الحاضرين من رؤساء ووزراء وقادة عسكريين وأمنيين ومستشارين، مع أنّ النائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات كان يشارك في هذه الإجتماعات، وعند حضور الأصيل يلغى حكْماً، دور الوكيل، وعند وجود الماء لا داعي للتيمّم، لا بل يبطل نهائياً.
العقوبة
ولم يكن بمقدور جرمانوس الفرار من تجرّع كأس العقوبة التأديبية، مع أنّ فريقه السياسي قدّم له تسهيلات كثيرة لإطالة أمد حصولها وإيجاد مسافة وقاية منها أو “تباعد الضرورة”، وحاول حمايته بتدخّلات وافية وكافية لدى هيئة التفتيش القضائي والمجلس التأديبي للقضاة وهذا ما ترجم لاحقاً بشكل جلي في خلاصة المحاكمة السرّية التي توجّت بعقوبة مخفّفة قضت بتأخير ترقيته ستّة أشهر ووقّعها رئيس المجلس القاضي ميشال طرزي والعضوان القاضيان أيمن عويدات وغادة أبو كروم وحملت تاريخ يوم الجمعة الواقع فيه 7 شباط 2020، وهو”اليوم الأسود” في مسيرة جرمانوس القضائية.
لماذا لم يوقف عن العمل؟
وكان يفترض توقيف جرمانوس عن العمل أسوة بزملائه الذين سبقوه على طريق العقوبة، وأوقفهم وزير العدل السابق القاضي المتقاعد ألبير سرحان عن العمل، لكنّ سرحان لم يشأ أن يغضب فريقه السياسي بتوقيف جرمانوس، وقيل إنّه حذّر من مغبّة الإقدام على هذه الخطوة، ولم تفعلها الوزيرة نجم عند تسلّمها مهامها الوزارية، باعتبار أنّها اكتفت بتوقيع مرسوم الإستقالة.
وكان السؤال الرئيسي آنذاك هل يجوز أن يُعامل قاض بغير ما عومل به زملاؤه من منطلق المساواة التي هي ركن عادل ووازن في ميزان العدالة؟
وأين هو العدل في مثل هذه التصرّفات؟
ثمّ أنّ قرار المجلس التأديبي يوجب على وزير العدل، ولو لم يكن هناك نصّ قانوني، أن يبعد القاضي المعني عن مركزه حفاظاً على هيبة القضاء التي لا يتقدّم عليها أيّ اعتبار آخر، لأنّ إبقاءه في مركزه يثير الكثير من الأحاديث والشكوك والاتهامات، والقضاء في غنى عنها وهو الذي في الأصل يعاني من قلّة ثقة الرأي العام به، مع التذكير بأنّ القضاة الذين أوقفوا عن العمل يتقاضون نصف راتبهم الشهري.
إكتشاف سبب “كورونا”
ومنذ إعلان نيّته بالإستقالة والقاضي جرمانوس يمضي وقتاً ممتعاً بالتنقّل بين موقعي التواصل الإجتماعي”الفايسبوك” و”تويتر”، مطلقاً العنان لسلسلة منشورات وتغريدات يومية تبحث في شتّى صنوف الحياة، من السياسة إلى الاقتصاد، إلى القانون إلى الطبّ ومنها “اكتشافه” العلمي الفذّ والمتقدّم باعتباره جائحة “كورونا” هي نتيجة علاقة جنسية بين المريض الأوّل وعدد من الحيوانات منها الوطاويط وذلك بداعي عدم وجود عدد كاف من الإناث في الصين!
وبعدما وجد جرمانوس أنّه وقع ضحيّة خبر كاذب لموقع متخصّص بالتسلية والخفّة، سارع إلى حذف هذه التغريدة التي ضجّت بها مواقع التواصل الإجتماعي ومواقع إلكترونية وجرى تناقلها والإحتفاظ بها لتبقى علامة بارقة وفارقة في مسيرة هذا الرجل الذي لم يسعفه حظّه في ترك لمسات مضيئة في القضاء العدلي ولا في القضاء العسكري الذي وصل إلى أهمّ مركز قضائي فيه وهو مفوّض الحكومة متجاوزاً قضاةً من طائفته المارونية أكثر حضوراً منه في العمل القضائي، غير أنّ اختياره جاء تكريماً لنضاله مع التيّار الوطني الحرّ قبل أن يدخل إلى القضاء.
المثقّف والغموض
ولم يكن جرمانوس يأخذ بعين الاعتبار في منشوراته “موجب التحفّظ” المفروض من مجلس القضاء الأعلى على القضاة، علماً أنّ كلامه في بعض الأحيان لا يكون واضحاً بالشكل المناسب للمتلقّي، ليس لتضمّنه أخطاء لغوية وإملائية وهذا أمر متوافر في الكثير من القرارات والأحكام القضائية ولقضاة كثر، وإنّما بسبب احتوائه غموضاً أو عدم قدرة على الربط والصياغة بين العبارات لإيصال المعنى بشكل واضح، وامتلاكه خيالاً شاعرياً خصباً، وهذا لا يقلّل بطبيعة الحال من الفكرة الرائجة عن جرمانوس من أنّه مثقّف ومنهوم كتاب، أيّ أنّه يقرأ كثيراً، وربّما هذا ما قاده إلى وضع روايات وكتب باللغة الفرنسية منها: “Les minarets du Levant”.
باختصار
ولد بيتر سمير جرمانوس في 6 تشرين الثاني 1970، في بيت قانوني فجدّه الشيخ بطرس جرمانوس كان محامياً، وعمّته النائب الأسبق نهاد جرمانوس سعيد والدة النائب الأسبق فارس سعيد.
دخل بيتر جرمانوس إلى القضاء العدلي في دورة 17 آذار 1994 التي ضمّت إليه كلاً من: هاني البرشا، غسّان الخوري، حسن شحرور، رهيف رمضان، عبد زلزلة، هاني الحبّال، أدهم قانصو، عصام ضاهر، إميل شهاب، منذر ذبيان، داني شرابيه، رجا الحاموش وماهر شعيتو، وتخرّجوا معاً من معهد الدروس القضائية وصدر مرسوم تعيينهم قضاة أصيلين في 6 شباط 1997.
واستلم إبن بلدة العاقورة الجبيلية مراكز قضائية مختلفة منها:
1- قاض منفرد في بيروت بموجب المرسوم رقم 8636 تاريخ 12 أيلول 2002.
2- مستشار في الغرفة الخامسة لمحكمة الاستئناف في بيروت مع رئيستها القاضي سلام شمس الدين والمستشارة القاضي ريما خليل بموجب المرسوم رقم 11237 تاريخ 24 تشرين الأوّل 2003.
3- محام عام استئنافي في البقاع(زحلة) بموجب المرسوم رقم 13653 تاريخ 26 تشرين الثاني 2004.
4- مستشار في الغرفة السابعة لمحكمة الاستئناف في حبل لبنان(الهيئة الاتهامية) مع رئيسها القاضي رياض أبو غيدا والمستشار القاضي مصطفى ترو بموجب المرسوم رقم 1465 تاريخ 6 آذار 2009.
5- قاضي تحقيق في جبل لبنان بموجب المرسوم رقم 5079 تاريخ 1 تشرين الأوّل 2010.
6- مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة بموجب المرسوم 1570 تاريخ 10 تشرين الأوّل 2017. ويومها قال جريصاتي عن جرمانوس الذي تربطه به “صداقة عميقة وشخصية وعلمية” إنّه “مرجع قضائي وقانوني كبير(..) ويتمتّع بحسّ سياسي وأمني كبيرين وفراسة قانونية”!
ومع انتهاء حياته القضائية، يكون جرمانوس قد وصل إلى الدرجة 17(بما فيها الدرجات الثلاث”المالية” التي زيدت في العام 2018).
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/6/9
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.