رسالة إلى وزير العدل: إحمِ القضاء!
كتب علي الموسوي:
معالي وزير العدل سليم جريصاتي الموقّر
تحيّة العدالة الحقّة.. وبعد،
لا شكّ أنّ تعيينك في منصبك الوزاري الجديد كوزير للعدل في أولى حكومات عهد الرئيس ميشال عون، ترك ارتياحاً كبيراً لدى القضاة والمحامين وأهل القانون، لأنّك مارست العمل القضائي على مدى سنوات في المجلس الدستوري، ولأنّك محام فعلي وفاعل من خلال دورك الدفاعي والإستشاري في غير ملفّ، ولاسيّما تقديمك العون لمكتب الدفاع في المحكمة الخاصة بلبنان، وبالتالي فأنت إبن العدلية بجناحيها المختلفين القضاء والمحاماة، وعارف بأمورها وشؤونها وشجونها، ويفترض أن يؤدّي هذا الأمر إلى تنشيطها للقيام بدورها على أكمل وجه!.
ومن أُولى إيجابيات تعيينك يا معالي الوزير، إستعادة وزارة العدل إلى ضفّة رجالات القانون وهو بالأمر الثمين في مسيرة الوصول إلى سلطة قضائية مستقلّة، فضلاً عن أنّ استرجاع رئيس الجمهورية لحقيبة هذه الوزارة السيادية بامتياز، وتحميلك مسؤوليتها، يدلّل على وجود حرص شديد من قبل الرئيس عون على تفعيل السلطة القضائية لما تمثّله من حماية أكيدة للدولة العادلة والقادرة، ولانتظام الحياة في المجتمع على مختلف الصعد.
ولأنّ عمر الحكومة قصير جدّاً ربطاً بموعد إجراء الانتخابات النيابية المنتظرة بعد تمديد قسري للمجلس النيابي، فإنّه لا داعٍ لإطالة المقدّمات، بل يتوجّب رسم خريطة العمل الوزاري المرتقب والنزول فوراً إلى ميدان الإنتاج، بما ينعكس إيجاباً على العدليات المصابة بـ”أنفلونزا الترهّل” المُعدي، لذلك جئت إليك بهذه الرسالة الموجزة لإنقاذ الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها، باعتبار أنّ القضاء هو الملجأ الأوّل والأخير للمواطنين الذين لا يحميهم سوى قضاء عادل ونزيه ومستقلّ.
وعليه نأمل التالي:
أولّاً: ضرورة حماية القضاء من أهل السياسة، ومن بعض أهل القضاء أنفسهم، إذ لا يجوز أن يستبيح السياسيون من مرجعيات ووزراء ونوّاب حاليين وسابقين وفاعليات وأحزاب، العدلية، فهي ليست مكسر عصا لأحد، وليست ملكاً لأحد، وليست من حصّة طرف ضدّ طرف آخر ولن تكون كذلك، وما دامت الأحكام تصدر بقوّة القانون وباسم الشعب اللبناني، فإنّه لا بدّ من منع اختلال ميزان العدل بفعل التدخّلات السياسية والحزبية، وإقفال مكاتب القضاة أمام هؤلاء مهما علا شأنهم ونفوذهم، وإبقاء الكلمة للقانون بحيث يُعطى الحقّ لصاحبه ومهما كان وضعه الإجتماعي. وليبقَ القانون واسطة خير إلى الحقّ، لا وساطة فلان أو فلان ممن يعيثون في سياسة الوطن إرباكاً وإفساداً.
ولا بدّ يا معالي الوزير، من تفعيل هيئة التفتيش القضائي لمنع استرسال بعض القضاة في محاكاة التدخّلات السياسية وتحقيق رغباتها دون وجه حقّ، ولا بدّ من الحؤول دون تمادي قضاة في إقامة المآدب والولائم على شرف فاعليات، أو الاشتراك في الحفلات والمناسبات السياسية كما بات واضحاً من خلال الصور المنشورة في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، ممّا ولّد شكوكاً في نفوس الناس باتوا معها يخشون على مصالحهم من الضرر المادي والمعنوي في آن معاً.
صحيح أنّه من حقّ أيّ شخص أن يتطلّع إلى الخدمة العامة من الباب السياسي باعتلاء منصب وزاري أو مقعد نيابي، والقاضي في نهاية المطاف إنسان له طموحاته وتطلّعاته وأحلامه، إلاّ أنّه ليس من حقّ هذا القاضي أو ذاك، أن يغتنم وجوده في السلطة القضائية لكي يحقّق أمانيه السياسية، أو أمنيات فريق سياسي يؤيّده ويناصره، وما دام أنّه في الخدمة الفعلية، فعليه أن يترفّع عن كلّ ما قد يستشفّ منه زعزعة للثقة أو النزاهة والمصداقية، فالمنصب القضائي ملك الشعب وليس حقّاً شخصياً لتحقيق مكاسب شخصية، وهذا ما درج عليه كبار القضاة في غابر الأيّام، وتحكي سجّلاتهم والأحاديث المتداولة عنهم الكثير ممّا تُرفع له القبّعة تقديراً.
ثانياً: وجوب إجراء تشكيلات قضائية شاملة وواسعة، إذ لا يخفى على أحد أنّ آخر مرسوم تشكيلات كبيرة صدر في تشرين الأوّل من العام 2010، أيّ منذ ستّ سنوات ونيّف، وهي من أطول المهل الزمنية التي يتأخّر فيها أهل العدلية عن تنفيذ مرسوم تشكيلات تطال جميع المناصب والمراكز ومن دون استثناء، فلم يعد مقبولاً أن يحتكر قضاة مناصب لأنفسهم، وأن يبقى الواحد منهم في مركزه أكثر من عشر سنوات، ولا بدّ من المداورة هنا وهناك وهنالك، وضخّ دم جديد في كلّ مكان من أجل تنشيط دورة العمل وتفعيلها.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فلا بدّ من السعي لدى مجلس النوّاب، إلى إقرار مشروع تعديل المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي بحيث تصبح التشكيلات القضائية من صنيعة مجلس القضاء الأعلى بمفرده ومن دون تدخّلات هذا وذاك، وأن تعتبر نافذة حتّى ولو أبقى وزير العدل مشروع التشكيلات في دُرْجه شهراً واحداً بعدما تعطّلت في السنوات السابقة مشاريع تشكيلات بالجملة، وأهدر الكثير من الوقت عليها من دون طائل.
ثالثاً: إنّ إعادة الثقة بالقضاء تكون بالحثّ على زيادة وتيرة العمل، وتسريع المحاكمات، وإصدار الأحكام في مواعيدها المحدّدة، ومكافأة القضاة الأنقياء، والتصدّي لكلّ من تسوّل له نفسه الاعتداء بالكلام على القضاء والتطاول على رجالاته، كما حصل في المرحلة السابقة، ممن يعتقدون أنّ هذا الحُكْم أو ذاك القرار، لا يتناسب ومصالحهم الشخصية، وقد مرّ الأمر بشكل اعتيادي على شاشات التلفزة من دون مقاضاتهم ومحاسبتهم، ولا يخفى على أحد الأثر السلبي الذي يتركه مثل هذا التطاول لدى الناس، وفي العقل الجماعي.
لا شكّ أنّ الحمل ثقيل يا معالي الوزير، ودون هذه المطالب المتراكمة منذ سنوات عقبات كثيرة، ونحن ندرك صعوبة تحقيقها برمّتها حتّى ولو صفيت النيّات واتحدت الإرادات، ومع ذلك لا يسعنا إلاّ أن ندعو لك بالتوفيق في مهامك لما فيه خير العدالة والإنسان في وطننا الحبيب لبنان.
ودمت أنت والقضاء والقضاة المعطّرين بياسمين النزاهة والصيت الحسن بألف خير..
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 13 – كانون الثاني 2017).