رئاسة الجمهورية اللبنانية ومواجهة الأزمات في ظلّ الدستور اللبناني!/كنده عبد الساتر
إعداد: كنده جمال عبد الساتر:
لبنان هذا البلد الصغير الواقع في الشرق الأوسط غرب القارة الآسيوية، والذي وإن كان يمتاز بعاصمته بيروت “أمّ الشرائع” صاحبة الدور الفعّال في ورشة صناعة القانون الروماني الجدّ الشرعي لتشريعات معظم دول العالم المعاصر ومنها التشريعات اللبنانية الحالية، إلاّ أنّه في الوقت عينه بلد التناقضات حيث يبدو أنّه تخلّى عن هذا الدور: فالنصوص الدستورية اللبنانية تحتمل عدّة تأويلات وتفسيرات والعلاقة بين النصّ الدستوري والممارسة السياسية علاقة جدلية وأغلب القوانين اللبنانية تصدر عقيمة، فحتّى موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية الموقع الأوّل دستورياً في الدولة لم يسلم من هذه التشوّهات.
رئيس الجمهورية اللبنانية هو رئيس الدولة بالنصّ الدستوري وهو الذي أقسم اليمين دون غيره من المسؤولين على سلامة الوطن وتطبيق أحكام الدستور. فما هي صلاحيات رئيس الجمهورية من حيث النصّ الدستوري وما مدى فعالية هذه الصلاحيات وهل رئيس الجمهورية حاكم مطلق الصلاحيات أو مجرّد شريك في الحكم؟ والسؤال الأهمّ هل أنّ هذه الصلاحيات التي يتمتّع بها الرئيس دستورياً تسمح له بمواجهة الأزمات المتتابعة التي يمرّ بها لبنان ومنع تفاقمها؟
قبل العام 1990 أيّ قبل التعديلات الدستورية التي أُقرّت تنفيذاً لاتفاق الطائف كان الرئيس يتمتّع بصلاحيات واسعة، إذ أناط دستور 1926 السلطة الإجرائية به ليعاونه الوزراء بها، الأمر الذي جعل منه سيّد السلطة التنفيذية ومحور استقطاب الحياة الدستورية والسياسية.
أمّا بعد التعديل، فقد أصبحت السلطة الإجرائية تناط بمجلس الوزراء، وتنامت صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء نفسه. وبعد أن كان رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويسمّي منهم وزيراً أصبح دوره يقتصر على تسمية رئيس الوزراء المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب إستناداً إلى استشارات نيابية ملزمه يطلعه رسمياً على نتائجها ويُصدِر بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم. وإن كان التعديل الجديد يعطي للرئيس دوراً واضحاً في عملية تشكيل الحكومة التي يضع مع رئيس الوزراء مرسوم تكليفها، إلاّ أنّنا نجد أنّ الصياغة المتبعة في التطبيق هي بتحديد حصّة محدّدة لرئيس الجمهورية في الحكومة وإطلاق يد رئيسها في الباقي. وهو، أيّ رئيس الجمهورية وإن كان له الحقّ بترؤس جلسات مجلس الوزراء عندما يشاء، ولكن لا يحقّ له التصويت على مقرّرات هذا المجلس. وما تبقّى من صلاحيات للرئيس لا يستطيع ممارستها بدون رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين، كما أنّ العديد من المواد الدستورية تكرّر دائماً مقولة بالإتفاق مع رئيس الوزراء والحكومة في مجمل إجراءات وقرارات السلطة التنفيذية، فمثلاً إذا طلب الرئيس من مجلس النوّاب إعادة النظر بالقانون، فيتمّ ذلك بعد إطلاع مجلس الوزراء.
بالرغم من إدراج هذه التعديلات، فالصلاحيات المناطة بكلّ من رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء ومجلس الوزراء متشابكة وغير محدّدة نتيجة عدم تعديل القوانين بما يتماشى مع هذه التعديلات، من هذه التناقضات مثلاً: يعطي الدستور مجلس الوزراء صلاحية تعيين جميع الموظّفين، بينما يعطي قانون الموظّفين هذه الصلاحية لرئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الوزراء.
أمّا عن صلاحيات الرئيس تجاه السلطة التشريعية، فبعد أن كان حلّ مجلس النوّاب من صلاحيته بعد موافقة رئيس الوزراء، مع العلم أنّ هذه الموافقة كانت موافقة شكلية، إقتصر حقّه بموجب التعديل على الطلب من مجلس الوزراء حلّ المجلس النيابي إذا ما توفّرت الأسباب التي حدّدها الدستور لهذه الغاية وهي حالات محدّدة وصعبة التحقّق. لكن للرئيس، وبحسب التعديل، توجيه رسائل إلى مجلس النوّاب عندما تقتضي الضرورة ليبدي رأيه في الأمور العامة وتوجيه النصح، دون توضيح ما يمكنه فعله إذا لم تتمّ الإستجابة لنصائحه.
آلية إنتخاب الرئيس بدورها، لم تسلم أيضاً من الخلافات والتجاوزات، فالدستور لم يتوسّع في تحديد هذه الآلية ما شكّل كذلك محور تجاذبات سياسية أثّرت على موقع الرئاسة سواء من حيث شروط الترشّح لهذا الموقع، أو من حيث مدّة الرئاسة (تجديدها وتمديدها)، أمّا الجدل الأبرز فتمحور حول نصاب جلسة الإنتخاب. كما أنّه ونتيجة عدم إلزام المجلس النيابي بمدّة محدّدة يتوجّب عليه خلالها إنتخاب الرئيس، شهد منصب الرئاسة الأولى شغوراً مرّتين، الأولى عام 2007 بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، والثانية عام 2014 إثر إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان حين دام الشغور حوالي سنتين ونصف السنة.
مع ذلك وعند أيّ أزمات أو خلافات تعصف بلبنان تتجّه الأنظار إلى الرئيس للمساهمة باجتياز الصعوبات والأزمات، وقد يرى القارئ للدستور اللبناني في المادة 49 منه السبيل لذلك، إذ تنصّ هذه المادة على أنّ “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور”. لكن هل هذه المادة قابلة للتطبيق؟ وبمعنى آخر ما هي الآلية التي يمكن للرئيس من خلالها التدخّل عند حصول أيّ خرق لأحكام الدستور أو تهديد لاستقلال لبنان؟ كما أضافت هذه المادة على أنّ “رئيس الجمهورية يرأس المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوّات المسلّحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”، فليس معنى ذلك أنّ له سلطة مباشرة على هذه القوّات وإنّما سلطة رعاية، فهذا اللقب لقب شرف وليس لقباً عملياً. لذلك يبقى التساؤل المحوري حول فاعلية موقع الرئيس ودوره في ظلّ غياب أيّ وسائل أو صلاحيات تمكنّه من أن يلعب دوره كحكم في الصراعات السياسية وكحامي للبلاد، فكيف يستطيع من هو على رأس الدولة أن يقوم بالمسؤوليات التي حمّله إيّاها الدستور دون أيّ آلية تنفيذية تتيح له ذلك؟ كما أنّ خلافات وأزمات دستورية وسياسية تظهر من حين إلى آخر سببها الخلافات والجدل القائم على تفسير وتنفيذ النصوص نتيجة للإجتهادات الكثيرة التي تثار عند الحاجة إلى تطبيق أيّ من النصوص الدستورية.
كما أشرنا آنفاً، فإنّ التعديلات الدستورية قلَصت كثيراً من صلاحيات رئيس الجمهورية وحوّلته من حاكم مطلق الصلاحيات إلى حكم وشريك، فهو لم يحافظ على صلاحيته كاملة ولم يجرّد منها بصورة كاملة أيضاً. طبعاً ليس المطلوب العودة إلى المرحلة التي سبقت هذه التعديلات حين كان رئيس الجمهورية حاكماً مطلقاً يتمتّع بصلاحيات واسعة ولا يتحمّل أيّة مسؤولية أو تعزيز موقعه بين السلطات الدستورية، وإنّما الأزمات التي مرّ ويمرّ بها لبنان أثبتت أنّه من الضروري تدخّله إذا ما تهدّدت وحدة البلاد أو أمنها أو اقتصادها، أو إذا لم تتمكّن الحكومة من السيطرة على الأوضاع العامة أو عند تقصير مجلس النوّاب في أداء مهامه، فرئيس الجمهورية سلطة أساسية يقتضي العمل على تعزيز صلاحياته.
في دولة الفساد فيها مستشري ويُهدر فيها المال العام، وفي دولة مؤسّساتها الدستورية (وتحديداً مجلسا النوّاب والوزراء) معطّلة، والطائفية تتحكّم بكافة القرارات أيّاً كانت أهمّيتها، لا بدّ من منح رأس الهرم صلاحيات تتيح له التدخّل بفعالية لمواجهة الأزمات ولمنع تعطيل المؤسّسات الدستورية ولضمان وحماية ممارسة سائر الصلاحيات. فضرورة توفّر رأس للسلطة تحتّم أن لا يبقى رئيس الدولة مجرّد رمز، وإنّما مرجعية دستورية ذات صلاحيات تستخدمها في أوقات الشدّة، وما أكثر هذه الأوقات في لبنان!
ساد الإعتقاد أنّ التعديلات الدستورية سوف تؤدّي إلى تأمين الإستقرار الدستوري وتحقيق التوازن غير أنّ التجربة أثبتت عكس ذلك، إذ برزت عدّة معوّقات حول فعالية ممارسة رئيس الجمهورية لدوره كرئيس للدولة وكحارس وضامن للدستور. تنتج هذه المعوّقات تارة بسبب غموض بعض النصوص الدستورية أو تناقض بعض المواد وتضاربها، وطوراً بسبب نصوص تمنح الرئيس صلاحيات مجرّدة من أيّ آلية تنفيذ. لا شكّ أنّ الدساتير وضعت لتحترم وتطبّق، وإنّما كذلك لتتغيّر عندما تستدعي الحاجة ذلك. لذلك نقدّم بعض المقترحات لتعزيز صلاحيات الرئيس كحامٍ للدستور ورمز لوحدة الأرض والشعب، وكحكم بين السلطات، ولإعطائه دوراً فاعلاً يتيح له وضع حدّ للأزمات وليبقى المرجعية الوطنية الأعلى:
– إعطاء المجلس الدستوري صلاحية تفسير النصوص الغامضة في الدستور.
– تمكين رئيس الجمهورية من حلّ مجلس النوّاب لإعادة إنتاج السلطة السياسية وفق ضوابط دستورية وقانونية.
– منح الرئيس صلاحية طرح الثقة بالحكومة أمام مجلس النوّاب عند تقصيرها في مهامها.
– تحديد دور الرئيس في تأليف الحكومة وتحديد مهلة لهذا التأليف.
– إعطاء المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور لا سيّما ما يتعلّق بالنصاب المطلوب في جلسة انتخاب الرئيس، وتحديد نصاب هذه الجلسة بوضوح تام.
– الحؤول دون الوقوع مرّة ثالثة في فراغ رئاسي بتضمين الدستور مادة تنصّ على اعتبار المجلس النيابي منحلاًّ إذا لم ينتخب رئيس الجمهورية في موعد محدّد.
– تحديد آلية للترشّح لمنصب رئاسة الجمهورية.
– تضمين الدستور نصوصاً تسمح لرئيس الجمهورية بلعب دور الحكم الفاعل على احترام تطبيق الدستور وحسم الأزمات الوطنية والدستورية والسياسية وخاصة في ظلّ تقصير مجلس الوزراء أو مجلس النوّاب عن أداء مهامهم (من ذلك مثلاً الحقّ بدعوة مجلس الوزراء إلى الإجتماع إستثنائياً إذا رأى ذلك ضرورياً دون الحاجة إلى موافقة رئيس الحكومة)، أو تفسير المادة 49 وبيان الوسائل التي من خلالها يمكن تطبيق هذه المادة.
– تمكين رئيس الجمهورية من عرض بعض القضايا على الإستفتاء الشعبي العام والإحتكام للشعب في القضايا المصيرية.
في النهاية، لا بدّ من التأكيد أنّ هذه التعديلات تمليها المصلحة الوطنية ليس من أجل تغيير النظام اللبناني وإنّما لتأمين التوازن المنصوص عليه في الدستور ولتطبيق وثيقة الوفاق الوطني بشكل صحيح من خلال تمكين كلّ سلطة دستورية من أداء صلاحياتها إنسجاماً مع الدور المعطى لها في الدستور!
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/11/3