آلية تأليف الحكومة في الدستور اللبناني/ عدنان بدر
المحامي الدكتور عدنان أحمد بدر:
ركن الدستور والقانون واللجوء إلى المبارزة وفاقًا لمعايير خاصة، هو ما يميّز السياسي اللبناني في معالجة ما قد ينشب عن أيّ خلاف حول موضوع وطني عام، في حين أنّ الحلّ هو في نصوص الدستور والقانون والمصلحة العامة وليس الخاصة.
يدور الجدل راهنًا، حول كيفية تأليف وتشكيل حكومة عتيدة، بعد مضي أكثر من شهرين على تكليف دولة الرئيس سعد الحريري لتشكيلها، وأكثر من ستّة أشهر على استقالة حكومة الرئيس حسّان دياب، ولبنان تتقاذفه أزمات مفتوحة لناحية كلّ ما يتعلّق بحياة المواطنين، وأوضاعهم الإجتماعية والمعيشية والاقتصادية.
تحوّلت “قضيّة” تشكيل الحكومات إلى أمّ المشاكل المتفاقمة، بدلًا من أن تكون الأساس في معالجتها، حيث تستغرق في تشكيلها فترة طويلة من الزمن تعدّت الفترة التي استغرقها تشكيل الحكومة في العام 2013، عندما سمّت الاستشارات النيابية الرئيس تمام سلام، وهو ما يؤدّي كما هو حاصل حاليًا إلى شلل في عمل وزارات الجمهورية، إذ لا تمارس الحكومة المستقيلة صلاحياتها إلاّ بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال، وفاقًا لما جاء في المادة 2/64 من الدستور.
حيال ما تقدّم، ومن أجل عدم إطالة التأليف ودحضًا لمعايير المبارزات، يطرح السؤال عن آلية تشكيل الحكومة التي رسم أصولها الدستور اللبناني، نجيب بدراسة كيفية اختيار رئيس الحكومة أولًا، وكيفية تشكيلها ثانًيا، ومن ثمّ نسجّل الخلاصات.
أوّلاً: في الاستشارات الملزمة واختيار رئيس الحكومة:
قرّرت المادة 2/53 من الدستور، أنّ رئيس الجمهورية يسمّي رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب استنادًا إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه على نتائجها.
لا بدّ من تسجيل الملاحظات التالية بشأن الإستشارات الملزمة:
أ. رمى المشرّع من الإستشارات الملزمة إلى تعزيز دور المؤسّسة المستحدثة مجلس الوزراء.
ب. كانت مناقشات المشرّع اللبناني الذي أصدر عام 1989 وثيقة الوفاق الوطني أو اتفاق الطائف، متجهة إلى انتخاب رئيس الحكومة من المجلس النيابي على طريقة انتخاب كلّ من رئيس الجمهورية والمجلس النيابي، ولكن هذا الرأي لم ينل الأغلبية، لأسباب نرى أنّها لم تكن في محلّها.
ت. لا يصحّ تفويض رئيس الجمهورية تسمية رئيس الحكومة، لأنّ حقّ التسمية عائد للنائب وبطبيعته غير قابل للتفويض، وبالتالي فإنّ لجوء بعض النوّاب إلى الإمتناع عن تسمية من يرونه مناسبًا لتكليفه بالتأليف، وتفويض رئيس الجمهورية بالتسمية، هو بدعة مخالفة للقانون وروحية اتفاق الطائف، وتفقد نصّ الدستور مبرّره.
ث. إنّ الإستشارات الملزمة ليست إجراء شكليًا، إنّما هي إجراء جوهري، وتبعًا لا يجوز تحت أيّ شكل من الأشكال، أن تكون الإستشارات معلنة ومعروفة قبل إجرائها بسبب تفاهمات سياسية، وهذا ما حذّر منه دولة الرئيس حسين الحسيني بقوله: “إنّ الإستشارات النيابية هي ملزمة لتسمية رئيس الحكومة وليست شيئًا شكليًا وإلاّ كان يمكن النوّاب أن يرسلوا إلى رئيس الجمهورية رسائل من دون أن يعطلّوا له وقته”، (النهار 1996/10/24).
في حين أنّ نصّ المادة /53/ قبل تعديل العام 1990 كان ينيط الإختيار برئيس الجمهورية الذي يعيّن الوزراء ويسمّي منهم رئيسًا ويقيلهم، وبهذا الخصوص قرّرت المادة /54/ من الدستور أنّ مقرّرات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها الوزراء المختصون ما خلا تولية الوزراء وإقالتهم.
إنّ عقد المقارنة ما بين نصّي المادة /53/، يبيّن أنّ ما قبل التعديل لم يكن في البناء الدستوري للنظام اللبناني، مؤسّسة مجلس الوزراء، وإنّما مجموعة وزراء يعيّنهم ويقيلهم رئيس الجمهورية، بدلالة أنّ كلمة أو عبارة الوزارة أو مجلس الوزراء لم ترد في الدستور إلاّ مرّتين: في المادتين /53/، “يعيّن الوزراء ويسمّي من بينهم رئيسًا”، و/55/ “يحقّ لرئيس الجمهورية أن يتخذّ قرارًا معلّلًا بموافقة مجلس الوزراء بحلّ مجلس النوّاب”، بل أكثر من ذلك، فإنّ السلطة الإجرائية التي حملت عنوان الفصل الرابع، قد تناولت حكم البلاد من طرف رئيس الجمهورية، بعد انتخابه إلى جانب تعاون الوزراء معه، وتبعًا دون أيّ وصف لمجلس الوزراء بأنّه جزء من السلطة الإجرائية أو شريك معه، والوزراء أشبه ما يكونون موظّفين لدى رئيس الجمهورية، برتبة وزير حيث وصف رئيس الوزراء في مطلع أربعينيات القرن الماضي بأنّه باش كاتب لدى رئيس الجمهورية.
ثانياً: آلية تشكيل الحكومة:
قرّرت المادة 4/53 أنّ رئيس الجمهورية يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة، ما هي الإجراءات التي تسبق أو تمهّد إصدار المرسوم؟
بعد أن تُعرّف المادة /64/ من الدستور رئيس مجلس الوزراء بأنّه “رئيس الحكومة ويتكلّم باسمها ويعتبر مسؤولًا عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء”، ترسم الفقرة الثانية منها الخطوة الرئيسية الأولى لتشكيل الحكومة على النحو التالي:
“يجري رئيس مجلس الوزراء الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها وعلى الحكومة أن تتقدّم من مجلس النوّاب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يومًا من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلاّ بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”.
يتبيّن من نصّ هذه الفقرة ما يلي:
أ. بعد صدور مرسوم تسميته رئيسًا لمجلس الوزراء يتوجّب على الرئيس المكلّف إجراء استشارات نيابية للوقوف على آراء النوّاب المستقلين والكتل النيابية في ما يتعلّق ببرنامج عمل الحكومة والأولويات التي ينبغي اعتمادها.
ب. يتخلّل الاستشارات، الإستماع أيضًا إلى آراء النوّاب حول طبيعة تأليف الحكومة، هل … برلمانية، أو مختلطة، وكذلك رغبة المشاركة في عضويتها.
ت. إنّ هذه الاستشارات غير ملزمة لرئيس مجلس الوزراء، خلافًا لتلك التي يجريها رئيس الجمهورية، كما جرى شرحه أعلاه.
لقد أحسن المشرّع عندما ألزم الحكومة بعد تأليفها، أن تتقدّم ببيانها الوزاري من المجلس النيابي خلال ثلاثين يومًا من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها، سيّما أنّ فترة تشكيلها غالبًا ما تستغرق فترة طويلة من الزمن، كما أشرنا آنفًا. كما أنّ إطالة أمد التأليف تفسح في المجال لنكء الجراح حول الخلافات السياسية والتناقضات حول الحلول الواجب اعتمادها للمشاكل الوطنية، وتبادل الاتهامات في ما بين القوى السياسية حول التأخير في التأليف، وتبعًا حول توزيع الحقائب الوزارية، وبخاصة ما ابتكره العقل اللبناني دون سائر عقول العالم، حول الوزارات السيادية، كما لو أنّ باقي الوزارات فاقدة للسيادة. إنّه ابتكار فقير وطنيًا يعاني من عقد نقص في التمثيل الوزاري، ذلك أنّ الواجب الوطني هو إسناد الحقائب إلى أصحاب الكفاءات من الجوانب كافة، صدقية وطنية، سجّل نظيف بالسمعة الشخصية والمهنية، وعفّة متناهية تجاه المال وفي مقدّمها المال العام، وخبرة وتاريخ ناصع في الشأن الوطني، وحدّ أدنى من الخبرة والمعرفة بشؤون الوزارة المطلوب تولّيها، بمعزل عمّا إذا كان هذا الوزير ينتمي إلى كتلة نيابية من عدمه. وذلك في سبيل استحصال الحكومة على الثقة الشعبية فور تأليفها، قبل نيلها ثقة المجلس النيابي.
حيال ما تقدّم، نقترح وندعو المجلس النيابي لإجراء تعديل دستوري، بأن يسمّى رئيس الحكومة عن طريق الانتخابات في المجلس النيابي وبموجبه يصبح الرؤساء الثلاثة، رئيس الجمهورية، والمجلس النيابي والحكومة، منتخبين من هذا الأخير، وتاليًا تكون شرعيتهم مرتكزة على مرجعية واحدة هي المجلس المنتخب من الشعب اللبناني. ويتحرّر رئيس الحكومة من التجاذبات السياسية، حتّى لا نقول أكثر، سيّما إسقاطه وحكومته في المجلس النيابي، وإلاّ عليه الإنصياع لما تطلبه بعض الكتل النيابية من مطالب محقّة وغير محقّة، ولا يردّ على هذا الاقتراح بأنّه يحول دون التداول في السلطة والمساءلة، إذ يتحوّل المبدأ إلى محاسبة ومساءلة الوزير فقط،
نحن نعلم أنّ اقتراحنا في التعديل الدستوري ليس بالأمر السهل، أيّ من الممكن أن لا يتحقّق في وقت قريب، لأنّه من المتعارف عليه في دول العالم بخصوص التعديل، أنّه لا يجري إلاّ في حالات الضرورة والحاجة الوطنية، ووجوب توافر شبه إجماع وطني، وكذلك الحال عندنا في لبنان، إنّما رهاننا أن يدرك المجلس النيابي والقوى السياسية، ضرورة تحرير لبنان من أزمة أو مشكلة بين سنة وأخرى لتأليف حكومة جديدة، ونقول أزمة إذ على سبيل المثال قد عاشت البلاد وعاش العباد أكثر من سنة في عهد الرئيس ميشال عون، بدون حكومة، بل حكومة تصريف أعمال، أيعقل من العاشر من شهر آب من العام 2020 تاريخ استقالة حكومة الرئيس حسّان دياب، وحتّى تاريخه، لم تشكّل حكومة أصيلة، والوطن يعاني من جائحة كورونا، وانهيار مالي واقتصادي، وازدياد نسبة الفقر لدى الشعب اللبناني. والمعنيون يتجادلون حول كيفية تشكيل حكومة المحاصصة الطائفية وليس الحكومة الوطنية؟
بناء عليه، عندما تتقدّم الحكومة ببيانها الوزاري، تنال الثقة من المجلس النيابي على أساسه فقط، وليس على أساس تأليفها، ذلك أنّ انتخاب رئيس الحكومة من المجلس، يمنع عليه حكمًا أن يطعن في وزراء اختارهم رئيس الحكومة المنتخب، وهذا يترتّب عليه أنّه يبقى على رئيس مجلس الوزراء طوال فترة ولاية المجلس النيابي، كما هو حال رئيس المجلس، ممّا يولّد استقرارًا سياسيًا ووطنيًا في إدارة البلاد، ويدفع بالوزراء إلى التقيّد بسياسات الحكومة، وبذل جهد مخلص من كلّ وزير للنجاح في إدارة الوزارة والذي يشكّل جزءًا من نجاح الحكومة العام.
يفضي الاقتراح، إلى إلغاء الإستشارات الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية، لفقدان ما يبرّرها، مع الإبقاء على تلك التي يجريها رئيس الوزراء.
مرسوم تشكيل الحكومة:
قبل الحديث عن مرسوم تشكيل الحكومة، وطالما أنّ موضوعنا هو آلية تشكيل الحكومة في الدستور، تقتضي الإشارة إلى أنّ التعديل الهام الذي أدخله المشرّع على المادة /17/ من الدستور، عندما أناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء بعد أن كانت مناطة برئيس الجمهورية… لنصّها ما قبل التعديل وبعده:
“تناط السلطة الإجرائية برئيس الجمهورية وهو يتولّاها بمعاونة الوزراء وفاقًا لأحكام هذا الدستور”،
“تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء وهو يتولّاها وفاقًا لأحكام هذا الدستور”،
ثمّ عاد المشرّع وأكّد على إسنادها إلى مجلس الوزراء وإخضاع القوّات المسلّحة إلى جانب صلاحيات أخرى في تعديله للمادة /65/ من الدستور، وفاقًا لمطلع نصّها:
“تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء وهو السلطة التي تخضع لها القوّات المسلّحة ومن الصلاحيات التي يمارسها…”،
إنّ تعديل هاتين المادتين يدلّ على أنّ المشرّع، قد حسم الهويّة أو الطبيعة الدستورية للنظام اللبناني، فأكّد أنّه نظام برلماني ديمقراطي، خلافًا، لما كان عليه الوضع قبل التعديل، نظامًا هجينًا ما بين الرئاسي والبرلماني، وقد وصفه الدكتور إدمون رباط بالطغيان الرئاسي” (مقدّمة الدستور اللبناني، دار النهار للنشر، ص 69)، الذي ولّد مشاكل وطنية عرفت بالغبن الإسلامي، وفي سبيل القضاء عليه كانت التعديلات التي أدخلت على الدستور.
بعد هذه الخطوات التمهيدية، يصدر رئيس الجمهورية بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم، المادة 4/53 من الدستور، ويوقّع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة مع رئيس الجمهورية، المادة 2/64 من الدستور.
في ضوء الخطوات التمهيدية المشروحة أعلاه، وحسم إسناد السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء، وتبعًا للتوسّع في صلاحيات رئيس الحكومة المدرجة في المادة /64/، ومجلس الوزراء في متن المادة /65/ من الدستور، والوزير في المادة /66/، كلّ ذلك يدلّل على أهمّية وضرورة استحداث مؤسّسة تحت مسمّى مجلس الوزراء، وتاليًا فإنّ ما ورد في المادة 53/4 لجهة:
“يصدر رئيس الجمهورية بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة”، لا يمكن تفسير عبارة بالإتفاق، الدائر النقاش والجدل حولها، بأنّها تعني مشاركة رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة. لكن ماذا تعني هذه العبارة ومَنْ مِنَ الطرفين، عليه العمل بوجهة نظر الطرف الآخر في حال الخلاف، وهل يترتّب على عدم الإتفاق إبقاء الجمهورية بلا حكومة تدير شؤونها، أم تعوّم الحكومة المستقيلة إلى حين حلّ الخلاف.
إعتبر البعض أنّ مرسوم التشكيل بروتوكولي، بمعنى احتفالي، طالما أنّ مؤسّسة مجلس الوزراء هي السلطة الإجرائية القابضة على إدارة الدولة اللبنانية. ولكن لماذا المشرّع ترك الأمر بدون تحديد المرجع الدستوري الذي يقتضي اللجوء إليه في حال لم يحصل الإتفاق.
وبخصوص هذا الجانب من الموضوع، أعلن دولة الرئيس حسين الحسيني أنّ اقتراحات عديدة طرحت في لقاءات الطائف منها أن تعرض التشكيلة الوزارية على مجلس النوّاب فإذا نالت الأكثرية تعتبر الحكومة قائمة، وإن صوّتت ضدّها يعاد النظر عندئذ في هذه التشكيلة (النهار 1999/10/7).
لن ندخل في بازار النقاش الدائر حول “ماهية الاتفاق”، وترجيح رأي على آخر، وهو ما نعتبره برمّته نقاشًا سياسيًا ليس إلاّ، دونما العودة إلى نصّ الدستور والتشريعات ذات الصلة، كما أشرنا في مطلع بحثنا، لذلك نقول ودائمًا وفاقًا لأحكام الدستور:
لا يمكن تفسير عبارة “بالإتفاق” إلاّ على سبيل الترجمة الفعلية لما نصّت عليه المادة /49/ من أنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفاقًا لأحكام الدستور”،
1. إنّ عدم الأخذ بهذا التفسير، يفرغ هذا النصّ من جوهره وتاليًا ما أراده المشرّع، في رئاسة رئيس الجمهورية للدولة من جهة، ومن جهة أخرى لو أراد المشرّع خلاف الرئاسة والرمزية وقيادته لاحترام الدستور، لاعتمد نصًا مماثلًا للإستشارات النيابية الملزمة، بالإتفاق الملزم أو الإلزامي كأن ينصّ “يصدر رئيس الجمهورية مرسوم تشكيل الحكومة بعد الاتفاق الملزم مع رئيس مجلس الوزراء”.
2. إنّ إعطاء البعض لعبارة الإتفاق تفسيراً للمشاركة في إدارة البلاد، وإلاّ يصبح رئيس الجمهورية باش كاتب، كما كان يوصف رئيس الوزراء قبل تعديل الدستور في العام 1990، في الواقع إنّ هذا التفسير لم يعد له مبرّر بعد التعديل، لأنّ جزءًا من الصلاحيات التي كانت مسندة إلى رئيس الجمهورية انتقلت إلى مؤسّسة مجلس الوزراء الذي أصبح مناصفة ما بين المسيحيين والمسلمين خلافًا لما كان عليه التشكيل قبل التعديل. والمناصفة شاملة وفاقًا للفقرة /ب/ من المادة 95 جميع وظائف الفئة الأولى دون تخصيص أيّة وظيفة لطائفة مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة، وكذلك الأمر بالنسبة لعضوية المجلس النيابي، بمعنى أنّ المشاركة المحكي عنها ليست مشاركة حصرية برئيس الجمهورية، وإنّما توسّع بها التعديل حيث باتت …. وراجحة لصالح أهلنا المسيحيين، وتاليًا يصبح توسّلها بمرسوم التشكيل، بمثابة إساءة لها، وتجاوزًا للدستور طالما أنّ المشرّع الدستوري لم يقرّر نصًا مماثلًا للإستشارات الملزمة كما أشرنا.
3. إنّ الهدف الرئيس من المادة 4/53 من الدستور، والمشترك ما بين رئيسي الجمهورية والحكومة، هو إصدار مرسوم التشكيل لإعلام الغير في الداخل والخارج عن تشكيل حكومة جديدة تحلّ محلّ الحكومة المستقيلة، وتبعًا على الجميع التعامل مع لبنان من خلالها بعد نيلها الثقة من المجلس النيابي. وليس في متن المادة أيّ هدف آخر مشترك بينهما يقتضي أن يكون جزءًا أو يجب إيراده في متن المرسوم، بدليل أنّ من بين بناءات المرسوم تتضمّن فقرة أساسية بدونها يفقد المرسوم مسوّغه وهي:
“بناء لاقتراح رئيس الحكومة”، مرسوم تشكيل حكومة الرئيس سليم الحص تاريخ 1989/11/25، وهي الحكومة الأولى التي تشكّلت وفاقًا للتعديل الدستوري عام 1990، وكذلك حكومة الرئيس رشيد الصلح تاريخ 1992/5/16، وحكومة الرئيس رفيق الحريري تاريخ 1996/11/7.
إنّ ما يدلّل أكثر على جدّية وصحّة انعدام أيّ هدف أو عمل مشترك بينهما، قبل إصداره، خلاف الهدف الرئيس المحكي عنه، هو عقد المقارنة ما بين مرسومي التكليف والتشكيل، حيث يرد حكمًا في متنه مشاورة رئيس الجمهورية لرئيس المجلس النيابي وفاقًا لما ورد في مرسوم تكليف الرئيس رفيق الحريري على النحو التالي:
“بعد أن تشاور فخامة رئيس الجمهورية الأستاذ الياس الهرواي مع دولة رئيس مجلس النوّاب الأستاذ نبيه بري استنادًا إلى الإستشارات النيابية التي أجراها فخامته، والتي اطلع دولته رسميًا على نتائجها، استدعى فخامة الرئيس عند الساعة التاسعة عشرة من مساء يوم الأحد الواقع فيه 1995/5/21 دولة الرئيس رفيق الحريري، وكلّفه تشكيل الحكومة الجديدة عملّا بأحكام الفقرة الثانية من المادة /53/ من الدستور، بعبدا في 1995/5/21”.
إنّ إيراد المشاورة في مرسوم التكليف، يعني أنّها ملزمة لرئيس الجمهورية عملًا بأحكام الفقرة الثانية من المادة /53/ من الدستور كما جاء في المرسوم، بينما جاء نصّ الفقرة الرابعة منها بصياغة غير ملزمة، ممّا يثبت مرّة أخرى وجوب إصدار مرسوم التشكيل وإنْ لم يحصل اتفاق بينهما حول أسماء الوزراء وتوزيع الحقائب كما هو شائع راهنًا عن سبب التأخير في تأليف الحكومة.
4. نكمل المقارنة ما بين نصوص مواد الدستور التي تتناول صلاحية مشتركة بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ونصل إلى نصّ المادة /52/ التي تنصّ على عقد المعاهدات الدولية على النحو التالي:
“يتولّى رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالإتفاق مع رئيس الحكومة ولا تصبح مبرمة إلاّ بعد موافقة مجلس الوزراء. وتطلع الحكومة مجلس النوّاب عليها حينما تمكّنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة”.
يتبيّن من النصّ، أنّ الصلاحية المشتركة بينهما هي
أ. المفاوضات لعقد المعاهدات الدولية.
ب. إبرام تلك المعاهدات.
ت. عرض المعاهدات على مجلس الوزراء للموافقة حتّى تصبح مبرمة.
يتبيّن مرّة أخرى أنّ عبارة الإتفاق تعني أنّ رئيس الجمهورية ملزم حكمًا أن يشترك مع رئيس الحكومة في المفاوضات والإبرام، في حين أنّ عبارة بالإتفاق الواردة في المادة 4/53 غير ملزمة لرئيس الحكومة، لأنّ عدمه لا يرتّب أيّة نتائج دستورية أو سياسية أو وطنية، على غرار الوارد في المادة /52/، الأمر الذي يوجب على فخامة رئيس الجمهورية إصدار تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء من عدمه، بدون تأخير.
نضيف إلى ما تقدّم، أنّ التداول السياسي والإعلامي وبعد صدور مرسوم التكليف، يصف من جهة تسميته بالرئيس المكلّف، يعتبر الوصف عن قصد من عدمه من الأخطاء الشائعة التي تجافي الواقع، ومنطوق المرسوم، إذ دائماً يكون نصّ مادته الأولى بمنح المسمّى صفة رئيس مجلس الوزراء، على النحو التالي: (نصّ المادة الأولى من المرسوم رقم /4339/ تاريخ 2019/1/31):
“يسمّى السيّد سعد الدين الحريري رئيسًا لمجلس الوزراء”،
إنّ هذا النصّ الموحّد، عملًا بأحكام الفقرة /30/ من المادة 53، يعلن ويفيد أنّه قد بات لدى لبنان رئيس لمجلس الوزراء، بمعزل عمّا سيحصل في ما بعد لجهة تشكيلة الحكومة ومن ثمّ نيل الثقة من المجلس النيابي، ويبقى الشخص متمتّعًا بهذه الصفة رئيسًا لمجلس الوزراء، حتّى لو لم تتشكّل الحكومة، وتسقط باعتذاره عن التأليف فقط، لأنّه لا يوجد نصّ في الدستور يحدّد فترة للتأليف على غرار نصّ المادة 2/64 الذي حدّد ثلاثين يومًا من تاريخ صدور مرسوم التأليف، للحكومة الجديدة للتقدّم ببيانها الوزاري من المجلس النيابي لنيلها الثقة.
ثالثاً: في المخالفات:
نختم بالمخالفات المرتكبة للدستور والتي لا يجوز الإستمرار في ارتكابها، لأنّها فضائح دستورية، تؤشّر إلى استعداد الحاكمين لمخالفة القوانين والمراسيم والقرارات الإدارية أيضًا، ونرى أنّ هذه المخالفات مجتمعة ومنفردة هي التي أدّت إلى سيادة الفساد بكلّ أنواعه وإشكاله في طول وعرض البلاد في القطاعين العام والخاص على حدّ سواء، لأنّ لهذا الأخير اليد الطولى في إفساد وفساد القطاع العام. ونسوق في ما يلي لتلك المخالفات:
1. عدم جواز عقد اجتماعات مجلس الوزراء الدورية والإستثنائية إلاّ في مقرّه الخاص إنفاذًا للفقرة الخامسة من المادة /64/، وفي العاصمة بيروت عملًا بأحكام المادة 26 من الدستور. بمعنى أنّ الاجتماعات التي تعقد لمجلس الوزراء في القصر الجمهوري أو في السرايا الكبير، مقرّ رئاسة مجلس الوزراء، غير دستورية أيًا تكن الدوافع والتبريرات، سيّما أنّه وأثناء ولاية الرئيس إميل لحود 1998- 2007، استحدث مقرًا خاصًا بمجلس الوزراء يقع في بيروت بالقرب من المتحف الوطني وعقد فيه أكثر من اجتماع لمجلس الوزراء.
2. تشكّل الإجتماعات الدورية التي تعقد في القصر الجمهوري في بعبدا ويرأسها رئيس الجمهورية ميشال عون، مخالفة للفقرة الخامسة من المادة /65/ التي تنصّ على أن “يجتمع مجلس الوزراء دوريًا في مقرّ خاص ويترأس رئيس الجمهورية جلساته عندما يحضر”،
في الواقع العملي أضحى رئيس الجمهورية الحالي وكأنّه هو رئيس مجلس الوزراء إذ إنّه نادرًا ما عقدت اجتماعات مجلس الوزراء في السرايا الكبير، وإن عقدت غالبًا ما يكون البرنامج قضايا إدارية عادية جدًا، وبذلك لم يعد رئيس الجمهورية بحاجة أن يحضر ليرأس مجلس الوزراء، فهو حاضر دائمًا من خلال استدعاء مجلس الوزراء إلى القصر الجمهوري.
إنّ هذه المخالفة الدستورية، تذكّرنا بنصّ المادة /53/ ما قبل تعديله في العام 1990، حيث كانت تعقد اجتماعات مجلس الوزراء دائمًا في القصر الجمهوري ويرأسها رئيس الجمهورية.
في الحقيقة إنّ هذه المخالفة تشكّل بالمعنى الوطني، وبالنظر لقيام الحكم على قاعدة التوازن الطائفي، امتهانًا وانتقاصًا، بحقّ مجلس الوزراء ورئيسه كشخص، وما يمثّل في منصبه للمسلمين اللبنانيين السنّة في التركيبة السياسية الطائفية للنظام، وتاليًا يفترض العمل الجاد على توفير مقتضيات المادة 5/65 حتّى لا تتحوّل الاجتماعات في القصر الجمهوري إلى إجراء عادي ومن ثمّ إلى عرف. مع الإشارة إلى خلو مواد الدستور من أيّ نصّ يبيح انعقادها في القصر الجمهوري، سيّما أنّ وثيقة الوفاق الوطني قرّرت في أحد بنودها استحداث أمانة خاصة لمجلس الوزراء في مقرّه الخاص المستحدث أيضًا، لا صلة لها بأمانتي كلّ من رئيس الجمهورية والسرايا الكبير.
3. إنّ عدم رفع الحكومة موازنة العام 2021 إلى المجلس النيابي حتّى تاريخه ويعتبر مخالفة دستورية للمادة /83/ التي ألزمت الحكومة بتقديم الموازنة كلّ سنة في بدء عقده الثاني الذي يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأوّل. ليس هذا فحسب إنّما لم يصل مشروع الموازنة إلى رئاسة مجلس الوزراء ولم تنجزه وزارة المالية. إمعانًا من الطبقة الحاكمة، أصدر المجلس النيابي عن حين غرّة في الجلسة التي عقدها بتاريخ 2021/1/15 خصيصًا لسنّ قانون خاص، باستيراد لقاح فيروس الكورونا، أصدر قانونًا يرمي إلى إجازة جباية الواردات لغاية صدور موازنة العام 2021 على قاعدة الإثنتي عشرية.
يشكّل القانون مخالفة للفقرة الأخيرة من المادة /86/ التي ربطت اعتماد القاعدة بوجود مشروع الموازنة، لدى المجلس ولم ينجز دراسته. ناهيك أيضًا عن مخالفة المادة /87/ التي تلزم الحكومة بعرض حسابات الإدارة المالية أو ما يعرف بقطع الحساب، كلّ سنة ليوافق عليها مجلس النوّاب، قبل نشر موازنة السنة الجديدة، وناهيك أيضًا وأيضًا عن مخالفة العديد من القوانين،
في الحقيقة، إنّ المخالفات متمادية، وليست جديدة، ممّا ولّد الفساد وأدّى إلى استشرائه، وتاليًا لا يمكن وقف الإنهيار السياسي والمالي والنقدي والإجتماعي إن لم تحترم الطبقة الحاكمة الدستور احترامًا جدّيًا وشاملًا لكلّ نصوصه وكذلك القوانين، ممّا يستدعي إصدار مرسوم تأليف الحكومة دون إبطاء.
“محكمة” – السبت في 2021/1/30