ديوان المحاسبة: قرارات واجتهادات جريئة تدعو للتفاؤل.. ماذا تغيّر وهل يستمرّ؟/غسان بيضون
غسان بيضون*:
من يتابع شؤون ديوان المحاسبة ونتاجه، يلاحظ أن تغيّراً ما قد حصل خلال السنتين الأخيرتين، من خلال عدة ملفات وقضايا مهمّة اتخذ بشأنها قرارات متميّزة بنيت على اجتهادات جريئة، تؤشّر إلى الانطلاق من مقاربة مختلفة لصلاحياته وأولويات اهتماماته، وإلى اتجاه جدّي نحو تفعيل دوره ورقابته.
وقد أتاحت بعض الصحف متابعة هذه الملفات من خلال مقالات نشرت حول تلك القرارات أو الاجتهادات، مدعّمة بالمستندات. وأكتفي من تلك بقضيتين: الأولى تتعلق باعتبار الوزير خاضعاً لصلاحية ديوان المحاسبة ومسؤولاً تجاهه، والثانية تتعلق بعدم الموافقة على توظيف عاملين تابعين لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في الوزارات، بموجب موافقات استثنائية صدرت عن رئيسي الجمهورية والحكومة خلال فترة تصريف الأعمال وخلافاً للقانون.
في القضية الأولى، كان ملفتاً قرار ديوان المحاسبة رقم 318 تاريخ 2020/9/24، في إطار رقابته القضائيّة، وذلك لناحية ترسيم جديد لحدود صلاحياته واختصاصه في مساءلة الوزراء ومحاكمتهم عن المخالفات المالية المتعلقة بإدارة أو استعمال الأموال العمومية، إنطلاقًا من أحكام قانون تنظيم ديوان المحاسبة، وفي تمييز هذه المساءلة عن صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء واعتبار هذه الأخيرة محصورة بالملاحقة الجزائية.
وقد انطلق الديوان في إخضاع الوزراء لمساءلته من كونه محكمة إدارية تتولّى القضاء المالي، مهمّتها السهر على الأموال العموميّة وتشمل صلاحياتها محاكمة المسؤولين دون استثناء، عن مخالفة القوانين المتعلقة بالأموال العمومية، بمن فيهم الوزير كونه المرجع الصالح لعقد النفقة والتصديق على الصفقات العمومية، وأنه المرجع الصالح لمراقبة حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلّقة باستعمال الأموال العموميّة.
وقد اعتبر ديوان المحاسبة في هذا القرار:
• أنّ الوزير هو المسؤول الأوّل عن إدارة واستعمال الأموال العموميّة في وزارته،
• أنّ الوزراء مسؤولون أمام ديوان المحاسبة، وأنّ الديوان يتمتّع بالصلاحية والاختصاص لمحاسبة ومساءلة أيّ وزير عن الأخطاء والمخالفات الماليّة الّتي يرتكبها، ضمن الحدود المنصوص عنها في القوانين ذات الصلة، لا سيّما قانون تنظيم الديوان،
• أن الوزير هو المسؤول عن عقد النفقة وتقتضي ملاحقته أمام ديوان المحاسبة في حال مخالفة القانون، وذلك بناءً على ارتباط المسؤولية مباشرة بالصلاحية، وأنّ القول بغير ذلك لا يمكن الاعتداد به لأنّه يؤول إلى تعطيل أحكام قانونَي المحاسبة العموميّة وتنظيم ديوان المحاسبة،
• أن صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء محصورة بملاحقة الوزراء الجزائية نظراً لعدم تمثيل القضاة الإداريّين والماليّين فيه.
وانطلاقًا من هذه الحيثيّات، إنتهى الديوان إلى اعتبار أن وزير الأشغال، في حينه، قد خالف النصوص المتعلقة بإدارة أو استعمال الأموال العموميّة، وألحق بذلك ضرراً بالأموال العموميّة ويقتضي تغريمه بما يتناسب والضرر المحقق، وقرر ديوان المحاسبة، بصورة نهائية وفي نطاق الرقابة القضائيّة على الموظفين، ردّ دفاع الوزير وفرض غرامتين عليه، سنداً إلى أحكام المادتين 60 و 61 من قانون تنظيمه، وإحاطة مجلس النواب علمًا بالمخالفات المرتكبة من قبل “الوزير السابق”، سندا” لأحكام المادة 64 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة.
أما القضية الثانية فتتعلق بعدم الموافقة على توظيف عاملين تابعين لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ((UNDP في الوزارات، خلافاً للقانون، وذلك بتاريخ 2020/10/27، حيث أصدرت الغرفة الخاصة لدى ديوان المحاسبة قرارين بالرقم 54 و 55 إنتهيا إلى رفض الموافقة على ما مجموعه خمسين عقداً استثنائياً تعود لموظفين في برنامج الأمم المتحدة المذكور، بناءً على موافقة استثنائية صادرة عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء.
أما أسباب الرفض، حسب القرارين، فتعود إلى أن عملية تغطية الاتفاقيات المذكورة كانت تتم عبر مساهمات مالية سبق أن وافق ديوان المحاسبة عليها بعد توصية الإدارة بوجوب إجراء هذا التوظيف وفقاً للأصول والإجراءات القانونية، وعدم منح أية مساهمة مستقبلاً إلى أية منظمة لتقوم بهذا التوظيف. وبالتحديد في القرار رقم ١٥٥٦ / ر. م تاريخ 2017/7/13. وقد اعتبر الديوان في قراريه بالرفض أن توصية الديوان هذه لا يمكن أن تفسر بالاتجاه الذي يفيد إجراء عقود استثنائية على النحو المعروض في الملف الراهن، ولا تجيز إجراء عقود استثنائية على النحو المعروض عليه لثلاثة أسباب:
1- وجوب العودة إلى قانون الموظفين الذي يحصر شؤون اختيار الموظفين بمجلس الخدمة المدنية.
2- تجميد عمليات التوظيف في الإدارات والمؤسسات العامة بموجب أحكام المادة 80 من قانون موازنة عام 2019 التي أوجبت وقف جميع حالات التوظيف والتعاقد تحت التسميات كافة (متعاقد، مياوم، شراء خدمات)، باستثناء الاتفاق ضمن حدود الاعتمادات المخصّصة لكلّ إدارة والعقود التي تجدد سنوياً.
3- خروج العقود المعروضة في ظل استقالة الحكومة وسياسة وقف التوظيفات بشكل عام عن مفهوم النطاق الضيّق لتصريف الأعمال.
وقد أشير في القرارين إلى إمكانية إجراء عقود مصالحة مع أصحاب العلاقة للتعويض عن كل عمل أو استشارة أو خدمة قام بها الخبراء حتى تاريخه شرط ألا يكونوا تقاضوا عنها بدلات من البرنامج نفسه.
وتذكّر بدعة الموافقات الاستثنائية واختزال الحكومة خلال فترة تصريف الأعمال بظاهرة السير بتنفيذ بمشاريع الموازنات دون إقرارها في المجلس النيابي، بما في ذلك من مخالفة فادحة للدستور، اعتباراً من العام 2007 وحتى أوائل 2011، حيث جرى الإنفاق، قبل أو دون صدور قوانين الموازنة العائدة لكل منها، وذلك بطرق كانت تختلف بين سنة وأخرى، لا بل أنها كانت تتغير في السنة الواحدة عدة مرات. وقد تراوحت بين: الإنفاق على أساس القاعدة الإثنتي عشرية، والإنفاق على أساس مشاريع الموازنات بموجب قرارات صدرت عن مجلس الوزراء، بسبب غياب قوانين الموازنة وبحجة عدم كفاية الاعتمادات الإثنتي عشرية. وقد تراوح موقف ديوان المحاسبة من السير بهذه القرارات بين الموافقة على هذا التطبيق استناداً لنظرية الظروف الاستثنائية، وعدم الموافقة إلا في حدود ضيقة وبناءً على تبريرات جدية تقدمها الإدارة المعنية، أو الاستناد إلى المادة 59 من قانون المحاسبة العمومية، حتى في استعمال اعتمادات الجزء الثاني قبل صدور قانون الموازنة، وذلك تبعاً لطبيعة عمل كل وزارة.
وبالرغم من أهمية موقف ديوان المحاسبة المتشدد في عدم الموافقة على ما عرض عليه من معاملات وملفات وعقود واتفاقات مبنية على موافقات “استثنائية”، والتي لم يكن أوّلها عقود الموظفين في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي(UNDP)، فإنه ومن باب الموضوعية والحيطة والحذر، نتساءل عن خلفية ودوافع هذا التغيّر ومحاولة رصد الأسباب والتغيرات التي طرأت على ظروف ديوان المحاسبة بين فترة تفهّم السير في الإنفاق غير الدستوري، والتشدد، مؤخراً، تجاه البناء على الموافقات الاستثنائية المخالفة هي أيضاً للدستور.
ولعلّ أهم أوجه الاختلاف بين المرحلتين تمثلت في أمرين: الأول هو الشغور في رئاسة ديوان المحاسبة وقيام رئيس الغرفة الأعلى درجة مقامه، أو حتى مدعي عام الديوان لتسيير شؤونه الإدارية بسبب إحالة جميع رؤساء الغرف بالأصالة على التقاعد خلال الفترة بين 2006، بعد إحالة الرئيس رشيد حطيط على التقاعد و2010، بتاريخ تعيين الرئيس عوني رمضان. أما الوجه الثاني من حيث الأهمية فهو أن رؤساء الغرف من الجيل الجديد من القضاة الذين كان يتم تعيينهم، خلال الفترة نفسها، بالوكالة لمدة سنة قابلة للتجديد، بما يعكسه ذلك من عدم استقرار، يمكن أن يكون ساهم في إضفاء المرونة على موقف بعض غرف ديوان المحاسبة في التعاطي مع ظاهرة السير بتنفيذ بمشاريع الموازنات دون إقرارها في المجلس النيابي.
وبنتيجة ما تقتضيه ظروف انهيار مالية الدولة في غياب الرقابة الكافية والفاعلة، وإيداع الديوان، خلال العام 2019، حسابات المالية العامة العائدة للسنوات اعتباراً من 1997، لا بدّ أن تكون هذه المتغيرات والمستجدات مجتمعة قد حصّنت ديوان المحاسبة وزادت منعته ورفعت درجة تهيّبه وتأهّبه، وساهمت في إحداث ذلك التغيير، بما حمله من تحوّل ملفت في أدائه والاتجاه نحو تفعيل رقابته ودوره في حماية المال العام ووقف الهدر والفساد.
وأخيراً، لا بد من التساؤل حول إمكانية استمرار ديوان المحاسبة لاحقاً على هذا النهج والاجتهاد، فيتابع ملاحقة الوزراء خلال ولايتهم وليس بعد انتهائها بسنوات، وكذلك الموظفين، وعن الفائدة من قطوعات الحساب بعد كل تلك السنوات التي انقضت على الحاجة إليها، وعن إمكانية استناد السلطة التشريعية إلى تقاريره حولها، والاستفادة منها قبل ودون البت بحساب المهمة، وعن مواقف الحكومات من وجود ديوان المحاسبة وتعزيز قدراته!
وعلى أمل الاستمرار على هذا المنحى من الممارسة في جميع الملفات، ما علينا إلا أن ننتظر ونتابع ونرى!
* مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه.
“محكمة” – الإثنين في 2021/12/27