سلطة التشريع في زمن الإنتخاب/وليد حدرج
المحامي الدكتور وليد حدرج*:
تكوّنت الديمقراطية في كنف مجموعة من المبادئ، صاغتها أفكار وآراء وكتابات لثوارِ فقه تُرجِمت على امتداد العصور بدساتير وإعلانات أعلت من شأن الأفراد ووضعت المجتمعات على سكك النهوض الدستوري والقانوني والمجتمعي.
كان مبدأ الفصل بين السلطات من أبرز هذه المبادئ والذي حاكه مونتيسكيو بكثير من الحنكة والحكمة، محاكياً تطوّرات مجتمعية أرادت الانتقال بالمجتمعات من الفوضوية إلى نهج المؤسّساتية.
مع تقدّم الفكر القانوني وتطوّر المجتمعات، إستطاع هذا المبدأ إحتلال مركز الصدارة في تكوين الدساتير، بل والدول الساعية إلى التقدّم الفكري، فتمحورت الأنظمة الدستورية ودارت حول مدى الفصل بين السلطات أو ذوبانها ببعضها البعض.
إختار لبنان النظام البرلماني القائم على الفصل المرن بين السلطات والمشبع بروح التعاون، وأكّدت النصوص الدستورية على هذا الأمر لا سيّما في التعديلات الأخيرة والتي أسّست الجمهورية الوارثة لجمهورية الاستقلال، معتبرةً أنّ البرلمان أو مجلس النوّاب هو نقطة الارتكاز والسلطة الأولى في نظامنا البرلماني وحافظةً له اختصاصات تشريعية ومالية وسياسية.
اليوم وبعد انقضاء عقود ثلاثة على التعديل الدستوري الكبير ودخولنا نادي البرلمانية، عادت لتطفو على سطح الجدال بعض الإشكاليات والتي تطلّ برأسها عند كلّ استحقاق سياسي أو دستوري.
إحدى هذه النقاط كانت المدى المعطى لمجلس النوّاب في الفترة الممتدة بين الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية واليوم الفعلي لانتخابه، وقد كان مردّ هذا التساؤل هو صريح نصّ المادة 75 من الدستور والتي قالت إنّ “المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أيّ عمل آخر”.
هذه الإشكالية قد تجد طريقها للحلّ إذا ما التأم البرلمان في المهل الدستورية ونجح بانتخاب رئيس جديد. أما وقد اعتاد اللبنانيون على إطالة أمد الفراغ وووصول عدد المحاولات البرلمانية لانتخاب رئيس للجمهورية إلى 46 محاولة كما في المرّة الأخيرة، فقد أضحى لزاماً حسم هذه الاشكالية والتصويب مباشرة على النقطة الجدلية ومعرفة الرأي النهائي.
اليوم ومع انفضاض عقد الجلسة الأولى المنعقدة في 29 أيلول 2022 لانتخاب الرئيس دون نتيجة، طفا على السطح، نقاش مستدام ذو وجهين سياسي ودستوري ، فالبعض رأى أنّ المجلس النيابي ليس له بعد شروعه في انتخاب رئيس الجمهورية أن يقوم بأيّ عمل آخر وذلك حتّى انتهاء هذه المهمّة، وبالطبع أخذ هذا الرأي بعداً سياسياً من خلال السعي إلى منع البرلمان من مناقشة البيان الوزاري –إن وُجد- أو مناقشة الموازنة في حال ردّها رئيس الجمهورية أو حتّى التشريع العادي، في حين يرى البعض الآخر أن لا تقييد لعمل المجلس التشريعي تحت أيّ ظرف كان.
باستعراض السوابق الدستورية لهذه الأزمة وبالعودة إلى أرشيف التصريحات والمواقف والممارسات، نرى أنّه في العام 2014 اعتبر دولة رئيس مجلس النوّاب نبيه بري أنّ المجلس النيابي هو “أب وأم كلّ المؤسّسات” ورأى في الأمر “حقيقة دستورية جينية” لا يمكن القفز فوقها، رافضاً إقفال مجلس النوّاب وتعطيله مستعيناً بسابقات بدأت في العام 1945 ولم تنته قبيل “اتفاق الدوحة” الشهير، حيث استمرّ البرلمان في أداء مهامه الدستورية رغم غياب رئيس الجمهورية أو حتّى الشغور في سدّة الرئاسة، وخير دليل على ذلك إقرار “اتفاق الطائف” والتعديل الكبير للدستور اللبناني.
هذا الرأي دعمه رأي دستوري للعلامة الأستاذ حسن الرفاعي الذي اعتبر أنّ الجلسة التي ينعقد فيها المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية هي التي يُعتبر فيها المجلس هيئة ناخبة وليس هيئة مشترعة ، مضيفاً أنّه سواء تمّ الانتخاب أم لم يتمّ، فإنّ رئيس المجلس بإمكانه الدعوة إلى جلسة تشريعية “وفوراً” ، مختتماً الرأي بعبارة أنّ “الدستور فوق الجميع”.
في هذا السياق وبالاطلالة على اجتهادات المجلس الدستوري، نرى أنّه قرّر في العام 2001 “أنّ سلطة التشريع هي سلطة أصيلة ومطلقة وقد حصرها الدستور بهيئة واحدة دون غيرها هي مجلس النوّاب، على ما جاء صراحة في المادة 16 من الدستور، وأنّ هذه السلطة هي حقّ من حقوق السيادة والتي تستمدّ مصدرها وقوّتها وشرعيتها من الشعب الذي يمارسها عبر المؤسّسة التي تتولاها أيّ مجلس النوّاب وفقاً لما يستفاد من الفقرة “د” من مقدّمة الدستور”.
من هنا، ومن خلال كلّ ما ورد سواء باجتهادات المجلس الدستوري أو بالآراء الفقهية المقدّرة والتي ذكرناها ، فإنّ مجلس النوّاب هو سيّد نفسه وهو الأب الشرعي لكلّ المؤسّسات وهو السلطة الأولى التي لا يجوز تقييد عملها التشريعي أو حصره أو تغييبه سيّما أنّ فترات الفراغ قد تطول كما حصل في الدورة الرئاسية الأخيرة عام 2016 ، مع التأكيد على أنّ اعتبار المجلس الدستوري أنّ سلطة التشريع هي حقّ من حقوق السيادة الأصيلة والمطلقة، يضع هذا الأمر في أعلى المراتب الدستورية ولا يمكن تقييده أو محاصرته.
لذلك، فإنّ الرأي الدستوري الأنسب والأقرب للواقعية والمصلحة هو أنّ مجلس النوّاب تبقى له سلطة التشريع السيادية والمناقشة والممارسة الدستورية ضمن الفترات الفاصلة بين جلسات انتخاب رئيس للجمهورية. أمّا ما ورد في نصّ المادة 75 من الدستور فهو محصور في ذات جلسة الانتخاب والتي يُعتبر فيها المجلس هيئة ناخبة وليس له سلطة التشريع ، فإذا ما انفضّت الجلسة لأيّ سبب كان، عادت الحياة التشريعية للبرلمان الذي يملك سلطة المحاسبة والمناقشة للحكومة وسلطة التشريع والسنّ للقوانين وحتّى إعادة مناقشة الموازنة العامة إذا ما كان من سبب لطرحها مجدّداً عليه.
في الختام، نرى أنّ الجدل الدستوري في لبنان على وجه الخصوص يأخذ منحى سياسياً أحياناً، وقانونياً في أحيان أخرى، لذلك فإنّ على مجلس النواب بوصفه السلطة الوحيدة المخوّلة تفسير الدستور أن يخصّص جزءاً من جلساته لإقرار قوانين تفسيرية لبعض مواد الدستور قد تجنّب البلاد مخاطر انشقاقات وانقسامات دفع الوطن ثمنها باهظاً ولا يزال.
* باحث دستوري.
“محكمة” – الثلاثاء في 2022/10/4