أي مستقبل للمؤسّسة العامة في لبنان؟!/عصام اسماعيل
الدكتور عصام إسماعيل*:
المؤسسات العامة، التي استقر الفقه والاجتهاد على تعريفها بأنها “مـرفق عام، متخصّص، يتمتّع بالشخصية المعنوية، وبالاستقلال المالي والإداري والفني”. غايته الأساسية تلبية حاجة ملحة للمواطنين استدعت إنشاء هذه المؤسسة بغاية تحقيق هذه الغاية الكبرى،
لذا كانت الهدفية المرتبطة بتحقيق منفعة عامة واجبة، كانت مبرر إنشاء المؤسسات العامة، إلا أن ما يلاحظ حول إنشاء المؤسسات العامة هو انعدام التخطيط بحيث لم يكن انشاء كل المؤسسات العامة يرمي إلى تحقيق هدف حقيقي وجدي، كما سنرى لاحقاً.
وإنّ هذه المؤسسات العامة، إنما تقيّم من خلال أداء دورها في إدارة المرافق العامة، ومدى قدرتها على مسايرة الأساليب الحديثة في تسيير الخدمات العامة للمواطنين بسرعة وجودة عالية أسوةً بما تؤديه المؤسسات الخاصة وبصورة منافسة لها تظهر تفوق الإدارة العامة وقدرتها على توفير الخدمات المطلوبة منها للمواطن بصورة حضارية راقية.
فهل نجحت المؤسسات العامة في توفير الخدمات المطلوبة منها للمواطن بصورة حضارية راقية؟
هل نجحت مؤسسة كهرباء لبنان؟
هل نجحت مؤسسات المياه؟
هل نجحت الجامعة اللبنانية؟
هل نجح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟
هل نجح النقل المشترك؟
هل نجحت هيئة أوجيرو؟
هل نجحت المؤسسات العامة المنشأة لإدارة المستشفيات الحكومية؟
….
إنّ النجاح لا يرتبط بعدد المشتركين أو المنتسين، إنما بجودة الخدمة المؤادة وأنها تضاهي بل تفوق الخدمة المؤداة في السوق.
لا شك أن المنتسبين إلى المؤسسات العامة أو المنتفعين من خدماتها يفوق عددهم عدد المستفيدين من خدمات مؤسسات خاصة، فالمشتركين في مؤسسات المياه يفوق عددهم المشتركين في شركات المياه الخاصة، والمنتسبين إلى الجامعة اللبنانية يفوق عددهم بأضعاف المنتسبين إلى الجامعات الخاصة، ومشتركي الضمان الاجتماعي يفوق عددهم كافة المستفيدين من خدمات كل شركات التأمين مجتمعة.
وموازنات المؤسسات العامة تفوق بأضعاف موازنات المؤسسات الخاصة،فلماذا لم تنجح المؤسسة العامة في أداء الدور المطلوب منها؟
لجأت الدولة في مطلع الخمسينات إلى إنشاء مصالح مستقلة لإدارة مرافق عامة حيوية، معظمها مائية وكهربائية. ولاحقاً أصدرت أول شرعة للمؤسسات العامة خلال فترة السعي لبناء الدولة على أساس المؤسسات وفكر الإصلاح الإداري، فصدر المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 1959/6/12 بعنوان “قانون المصالح المستقلة”، معرّفاً المؤسّسة العامة وفق المهمة الكبرى لها: حيث جاء في المادة الأولى أنّه قد حدّدت غايتها عند إنشائها: إمّا بتنفيذ برنامج أشغال كبرى ذات منفعة وطنية معدّة للإستثمار في ما بعد يتطلب تنفيذها امكانيات فنية وادارية تفوق امكانيات ادارات الدولة او البلديات . واما باستثمار مؤسسة زراعية او صناعية او تجارية في سبيل الصالح العام. واما بالقيام بأبحاث إقتصادية أو علمية الغاية منها إنماء الموارد الوطنية وتحسين استثمارها وامّا بتنفيذ برنامج انعاش اجتماعي في البلاد. ثمّ ضيّق هذا القانون مفهوم الوصاية حيث نصّ في المادة الثالثة على أن تمارس الوصاية الادارية عليها دون التدخّل في شؤونها العادية، وذلك بغية التثبّت من أنّ نشاطها ينطبق على القوانين ويتوافق وغاية الصالح العام الذي أنشئت من أجله.
ثـمّ، وبعد فترة، صدر المرسوم رقم 6474 بتاريخ 1967/1/26، بعنوان “النظام العام للمؤسسات العامة والمصالح المستقلة” معدلاً بعض ما كان يتضمّنه المرسوم الاشتراعي رقم 59/150، إنما دون تغيير جوهري.
إلى أن صدر المرسوم 4517 تاريخ 1972/12/13، بناءً على مشروع القانون الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم 3275 تاريخ 1972/5/24، فأصبح المرسوم 72/4517، هو النظام العام للمؤسّسات العامة وما زال ساري المفعول حتّى تاريخه، وقد عدّل تعريف المؤسّسة العامة بأنّها تلك التي تُولّى مرفقًا عامًا وتتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلاليين المالي والادراي. وكذلك عدّل مفهوم الوصاية حيث ألغى غايتها وحدودها وأصبح النص الجديد: يتضمن (أي مرسوم إنشائها) ربطها حسب طبيعة أعمالها بإحدى الوزارات التي تمارس الوصاية الادراية عليها.
وخلافاً لنظام العام 1959 أصبح للوصاية دور إعطاء التوجيه والتوصيات حيث ورد في المادة 21 :”يمارس الوزير المختص سلطة الوصاية على المؤسسات العامة الخاضعة لوزارته وفقًا للأحكام المنصوص عنها في هذا المرسوم وللأحكام الاخرى المتعلقة بالوصاية وذلك عن طريق التوجيه والتوصيات بكلّ ما يتسم بطابع مبدئي.
بالرغم من شوائب هذا المرسوم، فإنّ المجلس الدستوري بموجب قراره رقم 3020/4 تاريخ 2020/7/22 قضى بالقوّة التشريعية للنصّ الصادر بناء للتفويض الحكومي، بل وأسماه صراحة بـ “المرسوم التشريعي” فالمرسوم 72/4517 هو بنظر المجلس الدستوري: تشريع.
واليوم ورغم دمج عشرات المؤسّسات العامة ومصالح المياه، بأربع مؤسّسات عامة فقط، فإن عدد المؤسسات العامة في لبنان يتجاوز الستين مؤسسة عامة. ولعلَّ السبب الأساسي لهذا العدد الكبير من المؤسسات، هو ما ورد في المرسوم 72/4517 من إجازة صريحة للحكومة بإنشاء المؤسسات العامة.
فأدّت هذه الثغرة القانونية إلى طفرة كبيرة في المؤسّسات العامة، لعلّها أحد أبرز الأسباب على ضعف دورها، إذ تحولت المؤسسة العامة من أداة لإدارة المرافق العامة، إلى أداة للمحسوبية وتأمين الوظائف للأعوان. لذلك حرص المجلس الدستوري عندما أتيحت له الفرصة، على سدِّ هذه الثغرة، وأناط بالقانون حصراً صلاحية إنشاء المؤسسات العامة.
فعمد المجلس الدستوري اللبناني إلى حصر صلاحية إنشاء المؤسّسات العامة بالمجلس النيابي وذلك في قراره رقم 1 تاريخ 2001/5/10 ومما جاء فيه:” .. بما أنّه بغياب نصّ دستوري يسمّي الأشياء بأسمائها لا بدّ من الرجوع إلى المبادئ الدستورية العامة ترسيماً لاختصاصات كلّ من السلطتين الإشتراعية والتنظيمية في حقل إنشاء وتنظيم المؤسسات العامة… وأنّه بمقدار ما يؤدّي إنشاء مرفق عام إلى الحد من الحريات تلبية لحاجات المجتمع، أو ما يعتمد عند إنشائه وتأسيسه من أساليب السلطة العامة وما تتطلّب عملية التأسيس من نفقات من الخزانة العامة بمقدار ما يكون اختصاص مجلس النواب محفوظاً له بتفرّد وامتياز. ولا يردّ على ما تقدّم بأنّ ثمّة مؤسّسات عامة قد انشئت سابقاً بموجب مراسيم أو بطريقة المادة 58 من الدستور قبل تعديلها، ذلك أنّ الأمر اذا كان صدف حصوله في السابق وأصبح محصّناً ربما من حيث دستوريته، لكنّه لم يعد جائزاً بعد صدور القانون الدستوري رقم 18 تاريخ 1990/9/21…”.
ولم تكن إشكالية العدد الكبير من المؤسسات العامة، هي العقبة الوحيدة أمام نجاح نظام المؤسسة العامة في لبنان، بل إنّ التنوّع في أنظمة التطبيقات التي يخضع لها كل نوع من هذه المؤسسات، فمنها ما يخضع لرقابة صارمة، ومنحها المتحرر من أي رقابة، ومنها له دور هام في الحياة العامة، ومنها دوره ثانوي، بل لا دور له أصلاً وكانت نشأته من باب التنفيعة أو من باب التخلص من مشكلة معينة فرمي الحمل على هذه المؤسسة، التي لا صلاحيات لها ولا مهام.
وفي ظلّ عدم التوحّد الشريعي في موضوع المؤسسات العامة، والهيمنة على إداراتها من قبل السلطة المركزية، كل ذلك منع أي محاولة إصلاحية جادة ، وبل حتى أي محاولة جادة للسماح للمؤسسات العامة بأن تؤدي الأدوار المطلوبة منها فعلياً.
لذا نعود للتساؤل الأول، هل أن المؤسسات العامة تمارس اختصاصاتها وفقاً لمبادئ اللامركزية الإدارية، أم أنها ذات استقلالية صورية، وفعلياً تكون الحاكمية هي للسلطة المركزية بشخص الوزير أو بشخص المرجع السياسي الذي تدين له المؤسسة بالولاء؟
ومن خلال متابعة أنظمة المؤسسات العامة، وأساليب عملها، أمكننا استخلاص الواقع الآتي:
1. ظاهرة انتشار المؤسسات العامة، وتجاوز عددها الستين مؤسسة، والعديد منها معطلة عن أداء أي دور، بسبب انعدام الموارد المالية والجهاز الوظيفي، وأخرى تمّ تعيين مجالس إدارتها دون استكمال تعيين الجهاز الوظيفي أو وضع الأنظمة اللازمة لها، وأخرى يوجد لديها جهاز إداري يتقاضى رواتبه ولكن ليس لها سلطة تقرير في المشاريع المكلفة بها، وغير ذلك من المشاكل.
2. عدم وجود تشريع موحّد للامركزية المرفقية، وعدم قدرة النظام العام للمؤسسات العامة الصادر بالمرسم 72/4517 على لعب دور التشريع العام للمؤسسات العامة. ذلك أنه اكتفى ببيان النظام الإداري والعلاقة بالسلطة المركزية دون التطرق إلى ضمان تحقق الاستقلال المالي والإداري لهذه المؤسسات ولا وضع تصوّر عام حول وجوب النهضة بالمرفق العام وتطويره وحسن إدارته بما يحقق الغاية منه.
3. قوة سلطة الوصاية وضعف الإمكانات المالية والإدارية والتقريرية للمؤسسات العامة. وتأثر هذه المؤسسات بأنظمة الإدارة المركزية، بحيث لم تستطع تطبيق أحكام القانون الخاص، ولم تستطع التحرر من سطوة القانون العام بالرغم من كونها خاضعة لأحكام القانون الخاص، وتستطيع التصرف بمرونة ويسر أسوة بأي مؤسسة خاصة.
فلا تستطيع هذه المؤسسات وضع الأنظمة التي تتيح لها ممارسة مهامها، فمثلاً الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لم يستطع اصدار الانظمة ذات الصلة بالمضمونين لكونها تحتاج إلى مراسيم تصدر في مجلس الوزراء ومع كل حكومة ترفع المراسيم ولا يبت بها المجلس وترحّل من حكومة إلى أخرى وكذلك فشل الضمان في إيصال مشاريع قوانين اصلاحية إلى مجلس النواب لإقرارها.
وكذلك فرضت الحكومات تعرفة مخفّضة على خدمات الكهرباء والمياه، بحيث أدت هذه التعرفة إلى عجز هذه المؤسسات عن تحقيق إيرادات تسمح لها بتأدية مهامها وبقيت مستمرة في عملها على سلفات الخزينة ومساهمات الحكومة، ما أفقدها الاستقلال المالي، وأوقعها بعجز دائم حرمها من تطوير أجهزتها وصيانتها.
وذات الأمر بالنسبة للجامعة اللبنانية حيث تحصل الرسوم المخفضة لصالح الخزينة العامة وليس لصالح الجامعة وهي بكل الأحوال لا تتجاوز 3% من نفقات الجامعة ما يجعلها مستمرة بمساهمة مالية من الدولة ما أفقدها أيضاً الاستقلال المالي.
4. التناقض الظاهر بين أنظمة المؤسسات العامة، فلا معايير موحدة في عملها وإدارتها، وبلغت الفروقات بين تعويضات مدير عام مؤسسة عامة عن مؤسسة عامة أخرى الأضعاف، فمثلاً لا يمكن مقارنة تعويضات مدير عام “هيئة أوجيرو” عن غيره من المدراء العامين. وكذلك تعويضات أعضاء مجالس الإدارة، فمنهم من يتقاضى بدل حضور عن جلسة، ومنهم من يتقاضى تعويضات مقطوعة، وتقديمات عينية ومادية عديدة.
وهناك مؤسسات عامة يتولى الوزير رئاسة مجلس إدارتها (كالمؤسسة الوطنية للاستخدام)، وهناك مؤسسات يعيّن أعضاء مجلس الإدارة من جهازها العامل وبطريقة شبيهة بالانتخاب (كالجامعة اللبنانية) وهناك مؤسسات يتوزع أعضاء مجالس إدارتها على عدة فئات يصار الى اختيار كل فئة من جهة معينة ويصادق على اختيارها مجلس الوزراء بمرسوم (كمجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي).
وكذلك تفقد هذه المؤسسات القدرة على تعيين مستخدميها، لكون التعييين متوقفًا على موافقة مجلس الوزراء المسبقة، حتى أضحت هذه القاعدة عرفاً إدارياً مستنداً إلى نصٍ دستوري. وقد تعزَّز هذا العرف بقراراتٍ متتالية تصدر عن مجلس الوزراء بمنع الاستخدام أو التعاقد في مختلف الإدارات العامة والمؤسسات العامة بشتى الأشكال بما فيه الفاتورة وذلك اعتبارًا من العام 1997 إلا في الحالات الضرورية التي يقرِّرها مجلس الوزراء (قرار مجلس الوزراء رقم 45 تاريخ 1997/12/2، وكان مجلس الوزراء يجدّد هذا المنع سنوياً، حيث دأب مجلس الوزراء على تجديد قراراته بمنع التعاقد في جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات إلا بموجب قرار صادر عنه.
ثم بموجب المادة 54 من القانون رقم 583 تاريخ 2005/4/23 (قانون الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2004 ) اصبح كل تعيين وتعاقد في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة والمجالس والهيئات والصناديق العامة التي لا تخضع لرقابة مجلس الخدمة المدنية (باستثناء مصرف لبنان) يتم بموجب مباراة يجريها مجلس الخدمة المدنية وفقا للشروط المطلوبة للتعيين أو الاستخدام في كل منها.
ولما صدر القانون رقم 46 تاريخ 2017/8/21 فإنّه حسم الأمر بصورة قطعية عندما منع بموجب مادته رقم 21 جميع حالات التوظيف والتعاقد بما فيها القطاع التعليمي والعسكري بمختلف مستوياته واختصاصاته وفي المشاريع المشتركة مع المنظمات الدولية المختلفة إلا بقرار من مجلس الوزراء بناءً على تحقيق تجريه إدارة الأبحاث والتوجيه.
وكذلك فإنّ القانون رقم 144 تاريخ 2019/7/31 (الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2019) فلقد أوقف التوظيف والتعاقد في الإدارات والمؤسسات العامة بموجب المادة 80 منه التي نصّت على أنّه: خلافاً لأيّ نصّ آخر، وإلى حين انتهاء عملية المسح المذكورة أعلاه، توقّف جميع حالات التوظيف والتعاقد الجديد في الإدارات والمؤسسات العامة بما فيها القطاع التعليمي والعسكري والأمني بمختلف تسمياته واختصاصاته تحت التسميات كافة: تعاقد، مياوم، شراء خدمات، (باستثناء الإنفاق ضمن حدود الاعتمادات المخصصة لكل إدارة والعقود التي تجدّد سنوياً) أو ما شابه في القطاع العام بما فيها عملية التطويع بدل المحالين على التقاعد.
5. التمايز بين المؤسسات العامة لناحية الخضوع لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة: إن المادة 26 من النظام العام للمؤسسات العامة تنص على أن:”..تخضع المؤسّسات العامة لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة”، إلا أن بعض أنظمة المؤسسات العامة تنصّ على إعفاء هذه المؤسسة من الخضوع للرقابة المسبقة للديوان، كمجلس الإنماء والإعمار وهيئة أوجيرو ومؤسسة كهرباء لبنان، وهناك مؤسسات عامة أخرى تخضع لهذه الرقابة كالجامعة اللبنانية، مع الإشارة إلى أنه سبق لديوان المحاسبة بموجب رأيه الاستشاري رقم 90/14 تاريخ 1990/9/20 أن رأى بأنّ:”… الاكتفاء برقابة ديوان المحاسبة المؤخرة في النطاق المبحوث فيه بما يحجب … الرقابة الادارية المسبقة ، فإن مثل هذا الامر يتطلّب اعتماد نصّ تشريعي يقضي به خلافًا لأحكام قانون تنظيم ديوان المحاسبة او استثناء منها، باعتبار أنّ شؤون الرقابة الموكولة الى ديوان المحاسبة تدخل في عداد الامور التشريعية ، وان اى اجراء مغاير لها يقتضي اعتماده من قبل السلطة التشريعية، مما لا مجال معه للأخذ به من قبل السلطة التنفيذية بموجب مرسوم بعد موافقة مجلس الوزراء …”.
6. المحسوبية في تعيين أعضاء مجالس الإدارة والمدير العام، بحيث أدى تغييب الكفاءات القيادية إلى فشل المؤسسة في القيام بدورها. وكانت المحاصصة هي معيار التعيين وإذا لم تنجح المحاصصة في تعيين أعضاء مجالس إدارات المؤسّسات العامة فإنّ السلطة التنفيذية لا تجد حرجاً في ترك هذه المؤسّسات بدون جهاز قيادي، ولقد تنبّه المشترع لهذه الثغرة القاتلة في المؤسسات العاملة حيث بلغ الشغور في مجالس إدارات ومراكز المدراء العامين في نحو ثلاثة أرباع المؤسّسات العامة بحسب دراسة أعدّتها الدولية للمعلومات، ولإزالة هذا التعطيل المتعمّد، أوجبت المادة 14 من القانون رقم 79 تاريخ 2018/4/18 (الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2018)، على مجلس الوزراء تعيين الهيئات الناظمة ومجالس إدارة المؤسسات العامة خلال مدّة ستّة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون. وقد انتهت المهلة وفوقها أربع سنوات ولم يصر إلى تنفيذ القانون المذكور.
ولتلافي المحسوبيات في تعيينات الفئة الأولى، أقرّ مجلس النوّاب آلية التعيين في الفئة الأولى في الإدارات العامة وفي المراكز العليا في المؤسسات العامة بموجب القانون النافذ حكماً رقم 7 تاريخ 2020/7/3 الذي أنشأ مهمات تتولها جهات عامة أو ممثلين عن هذه الجهات العامة، حيث إنّ مواصفات المرشحين تتولى صياغتها ثلاثة هيئات عامة بالتنسيق في ما بينها (مجلس الخدمة، مكتب وزير الدولة لشوؤن التنمية الإداري، الوزير المختص)، وفرز ملفات المرشحين يتولاه لجنة مؤلفة من (ممثّل عن الوزير المختص وممثل عن رئيس مجلس الخدمة المدنية وممثل عن وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية) أما المقابلات الشفهية واختيار المرشّحين الثلاثة فيتولاه (رئيس مجلس الخدمة المدنية والوزير المختص ووزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية أو ممثل عن كل منهم من داخل الإدارة)، إلّا أّن المجلس الدستوري قد قضى بإبطال هذا القانون برمّته بموجب قراره رقم 2020/4 تاريخ 2020/7/22 لأنّه يمسّ بصلاحية الوزير باقتراح اسم المرشّح لهذا المركز ويقيّد سلطة مجلس الوزراء في التعيين.
7. التخلّي عن المؤسسات العامة، لقد أدرك المشترع هذا الخلل في المؤسّسات العامة وعدم جدوى عدد كبيرٍ منها، ولهذا فرضت المادة 43 من القانون رقم 79 تاريخ 2018/4/18 (الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2018)، إلغاء عدد من المؤسّسات العامة والمصالح المستقلة، وأوجبت على مجلس الوزراء خلال مهلة أقصاها 2020/12/31 – إلغاء المؤسسات العامة التي يرى انتفاء الجدوى الاقتصادية والخدماتية من استمرارها ودمج المؤسسات التي تتشابه المهام والخدمات التي تقدمها. وقد انتهت هذه المهلة منذ سنتين ولم يصر إلى تنفيذ هذا القانون.
8. التوجه نحو الخصخصة: بعد الفشل الذي لحق بنظام المؤسسة العامة وتقصّد السلطة المركزية تجفيف مواردها البشرية، اضطرت للتعاقد مع شركات تقديم خدمات من أجل تنفيذ مهام تدخل في صلب مهام جهازها الوظيفي، وأصبح الشركات المتعاقدة مع المؤسسات العامة هي المشّغل الأساسي لهذه المرافق بحيث يقتصر دور المؤسسة على الرقابة والمتابعة، حتى في “أوجيرو”، فإنّ تنفيذ المشاريع تتولاه شركات خاصة، وكذلك فإن الخدمة الأفضل التي يتلقاها المواطن هي من شركات خاصة كشركات المياه التي تقدّم مياه الشرب للمواطنين، وشركات الانترنت الخاص التي تقدّم خدمات الانترنت بجودة عالية وأسعار تنافسية وغيره .. ، ثم استتبعت هذه السياسة بإقرار قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص (القانون رقم 48 تاريخ 2017/9/7) حيث برز اندفاع الإدارة المركزية نحو الخصخصة كبديل عن نظام المؤسسة العامة في إدارة المرافق العامة.
وبرأيي إن الخصخصة ليس البديل عن المؤسسة العامة، بسبب التداعيات الناجمة عن الخصخصة في ظل الفساد التي تعني التنازل الكامل عن هذه المرافق بالمجان لصالح النافذين.
9. الهيئات الإدارية المستقلة: إنّ الخلل في التخطيط وتقليد دول متقدمة دون دراسة جدّية حوّل انظار المحاسيب نحو فكرة الهيئات الإدارية المستقلة، بحيث لم تعد المؤسسة العامة مغرية في التوظيف.
في الدول الأخرى: كانت الهيئات الإدارية المستقلة هي فكرة متطورة عن المؤسسة العامة وبمقتضاه إنشاء هيئات تتمتع باستقلالية شبه تامة عن الإدارة المركزية، فهي لا تخضع للسلطة الرئاسية ولا لسلطة وصاية، ويراعي الحيادية والكفاءة والجدارة عند اختيار أعضاء مجالس الإدارة : كهيئة الشراء العام، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. ومنها الهيئات الناظمة.
وفي لبنان وقعنا في المحاصصة، وكان تعيين أعضاء مجالس إدارتها رهينة التوافقات السياسية والتوزيع بين الأحزاب مما ضرب مفهوم هذه الهيئة وحوّلها إلى شبيه للمؤسسة العامة من خلال كونها مجرّد مراكز انتفاع لا أكثر.
والدليل الأساسي: الهيئة الناظمة للاتصالات التي أفشلت بعد انتهاء ولاية أول مجلس لها (المجلس الأوّل 2007-2012) ومنذ ذلك التاريخ لم تنجح السلطة في تعيين مجلس إدارة الهيئة الناظمة للاتصالات، وبقيت معطلة حتى تاريخه.
وبخلال فترة عمل المجلس الأول للهيئة امتنعت الوزارة عن رفع مشاريع الأنظمة التي أعدتها الهيئة إلى مجلس الوزراء لإقرارها، وبعدم استصدار هذه الأنظمة عجزت الهيئة عن تأدية مهامها، وهذه الثغرة الكبرى الثانية في إنشاء هذه الهيئة بحيث كان يجب أن تبقى سلطة اصدار الانظمة عائدة لهذا وإلا لم يعد من معنى لاستقلاليتها.
ومن الأمثلة عن الهيئات الإدارية المستقلة في لبنان:
– «الهيئة العليا لإدارة الدين العام: القانون رقم 17 تاريخ 2008/9/5.
– الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً: القانون رقم 105 تاريخ 2018/11/30.
– الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد : بناء على القانون رقم 175 تاريخ 2020/5/8 .
– الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب: القانون رقم 62 تاريخ 2016/10/27.
– الهيئة الوطنية لشؤون المرأة: قانون رقم 720 تاريخ 1998/11/5.
– الهيئة الوطنية لشؤون المعوقين : القانون رقم 220 تاريخ 2000/5/29
– الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء: (قانون سلامة الغذاء)
– هيئة الشراء العام (قانون رقم 244 تاريخ 2021/7/19)
– الهيئة الناظمة للإتصالات (قانون رقم 431 تاريخ 2002/7/22).
من خلال هذا العرض الموجز، وحيث إنّ ضعف أداء المؤسسات العامة إنما كان بفعلٍ خارجي أكثر منه داخلي، لذا ومن خلال ما توصّل إليه المشترع والمجلس الدستوري والمقاربات الإدارية لهذا الملف، فإنّه يمكن استخلاص الحلول الآتية:
1- العمل فوراً على تنفيذ المادة 43 من القانون رقم 79 تاريخ 2018/4/18 (الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2018)، وإلغاء عدد من المؤسسات العامة والمصالح المستقلة التي انتفت الجدوى الاقتصادية والخدماتية من استمرارها ودمج المؤسسات التي تتشابه المهام والخدمات التي تقدمها. ومن ثمّ توزيع العاملين فيها على بقية المؤسسات العامة لرفدها بعنصر جديد لمن يرغب منهم بالعمل الجاد.
2- وضع تشريع موحد للامركزية المرفقية يدعم استقلالية هذه المؤسسات وتحريرها من هيمنة السلطة المركزية وإيجاد مصادر تمويل فعلية كافية لتأمين هذه المؤسسات لمواردها اللازمة لتنفيذ مهامها، وحصر سلطة الوصاية في أضيق الحدود وفي حالات محددة على سبيل الحصر.
3- منح المؤسسات العامة صلاحية إصدار الأنظمة التي تتيح لها تنفيذ مهامها المتصلة بإدارة المرفق العام، لا سيما صلاحية إصدار نظام الرسوم التي تسوفيها مقابل الخدمات التي تؤديها.
4- التناسب بين رواتب وتعويضات المدراء العامين في المؤسسات العامة وأعضاء مجالس إدارتها، ومنح أعضاء المجالس التعويضات المناسبة لحسن تأدية المهام المنوطة بهم.
5- ضبط عدد أعضاء مجالس الإدارة بين 5 أعضاء كحدٍ أدنى و9 أعضاء كحدٍّ أقصى.
6- وضع ملاك إداري تفصيلي لكلّ مؤسسة عامة، ومنح مجلس الإدارة صلاحية التعيين حصراً في إطار هذا الملاك دون تجاوز على أن يخضع هذا التعيين لمصادقة وزير الوصاية وبناء لمباراة تجريها المؤسسة بإشراف مجلس الخدمة المدنية، وفرض عقوبات صارمة على المخالفين لا سيما حق رئيس الحكومة بعزل أعضاء الإدارة المخالفين وإحالتهم أمام ديوان المحاسبة لتغريمهم بكلفة الرواتب والأجور المسددة لأشخاص معينين خلافاً للأصول.
7- إخضاع جميع المؤسسات العامة إلزامياً لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة والمؤخرة، وكذلك لرقابة التفتيش المركزي، واخضاع كافة مشترياتهم لأحكام قانون الشراء العام.
8- تعزيز نظام التدقيق الداخلي وتفعيل الرقابة الداخلية في المؤسسات العامة، وأن يمنح لجهاز الرقابة الداخلية حق التواصل المباشر مع أجهزة الرقابة الرسمية (وزير الوصاية، التفتيش المركزي، وديوان المحاسبة).
9- اعتماد قاعدة الكفاءة والتخصص في اختيار المدراء العامين وأعضاء مجالس الإدارة وإعطاء الأولوية للتعيين من داخل ملاك المؤسسة والخيار الثاني يكون من خارج المؤسسة، وإلغاء قاعدة الاستمرارية حتى تعيين البديل، بحيث يصار إلى تحضير ملف التعيينات قبل ستة اشهر من انتهاء الولاية ويرفع إلى مجلس الوزراء قبل ثلاثة اشهر من انتهاء الولاية وفي حال عدم صدور مرسوم التعيين يتولى رئيس الحكومة بناء لاقتراح الوزير المختص تعيين المدير العام أو أعضاء مجلس الإدارة من بين مستخدمي المؤسسة حصراً وذلك بصورة مؤقتة إلى حين صدور مراسيم التعيين عن مجلس الوزراء على أن لا تتجاوز مدة التعيين المؤقت مدة الولاية الأساسية.
10- تأجيل تطبيق قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص (القانون رقم 48 تاريخ 2017/9/7) إلى حين تحقيق الإصلاحات الإدارية، لأن الشراكة لن تكون بديلاً ناجحاً عن المؤسسة العامة، إذ إنّ الخصخصة أو الشراكة في ظل الفساد تعني التنازل الكامل عن هذه المرافق العامة بالمجان لصالح النافذين.
* أستاذ محاضر في قسم الدراسات العليا كلية الحقوق- الجامعة اللبنانية، وفي المعهد الوطني للإدارة.
“محكمة” – الجمعة في 2022/12/2