جرائم الحرب ومدى فعالية القضاء الدولي في حل النزاعات/نور دندش
إعداد المحامية نور محمد دندش:
منذ القدم كانت تعتبر الحرب الوسيلة الوحيدة لحل الخلافات التي تنشأ بين الدول مما أدى الى نشوء الجرائم وبالأخص جرائم الحرب.
وبما ان الحرب جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني على الأرض، وهي مسرح لجميع الأفعال التي ترتكب والتي نطلق عليها عبارة الجرائم في أوقات السلم، مثلا ان جرائم القتل والخطف والإغتيالات والإعتقالات كلها مباحة وغير معاقب عليها أثناء الحرب. والأكثر من ذلك شرعت ضمن باب قوانين وأعراف الحرب.
ان هذه الافعال الشنيعة والممنوعة أثناء الحروب والصراعات المسلحة ساهمت في تطوير جهود المجتمع الدولي للحد من الحروب، مما برز ذلك في المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة والتي تضمنت:” يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة او استخدامها ضد سلامة الاراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه لا يتفق ومقاصد الامم المتحدة.”
كما ورغبت أطراف الحرب في ايجاد قواعد تنطم نزاعاتهم نظرا للكم الهائل من الخسائر فأتى قانون الحرب. وهو يعود الى عدة قرون وأبرزها قانون الشعوب او الامم في القانون الروماني. وبرزت جرائم الحرب أكثر في القانون الدولي في بداية القرن العشرين. فكانت مؤتمرات لاهاي 1899 و1907 ومؤتمرات جنيف من أهم المؤتمرات التي ساهمت في وضع حد للعمليات القتالية للدول أثناء النزاعات المسلحة.
وكنتيجة لفظاعة الحرب العالمية الاولى والثانية، بدأت المطالبات بإنشاء قضاء جنائي دولي لبسط سلطة العدالة الدولية، وبالفعل أتت محاكمات نورمبرج بموجب اتفاقية لندن تاريخ 1945/8/8 ثم أتت اتفاقية طوكيو في 1946/1/19. وما ان انتهت هذه المحاكمات حتى بدأت الجرائم الدولية تخرق حقوق الانسان، فعاد القضاء الدولي الى الساحة الدولية بفضل النزاع المسلح في البوسنة والهرسك ونشأت على أثره المحكمة الدولية الخاصة بمجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة.
الا ان طبيعة هذه المحاكم كانت مؤقتة مما استدعى انشاء محكمة دولية جنائية دائمة، أقر نظامها مؤتمر روما في 17 تموز 1998.
أما السبب في التعرض لهذا الموضوع، فهو تبيان ما توصلت اليه المحاكم الدولية في ضبط الجريمة وقمع مرتكبيها، توصلا الى محاولة سد الثغرات التي تعتريها في حال وجودها.
فإلى أين وصلت المحكمة الجنائية الدولية في ضبط جرائم الحرب على ضوء القانون الدولي باعتبارها جريمة دولية؟
للإجابة على هذه الإشكالية، لا بد من التطرق لمفهوم جرائم الحرب، أنواعها، شروطها وأركانها، ومدى الجهود الدولية في ضبط الجريمة.
القسم الأول: النظام القانوني لجرائم الحرب
بعد الممارسات غير الانسانية والدمار والمجازر التي تشهدها الحروب، والانتهاكات الجمة للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، تضافرت الجهود لتشريع قانون إنساني يحدّ من هذه الويلات.
سوف نتطرق في هذا القسم الى تعريف جرائم الحرب وفقاً للإتفاقيات الدولية ومن ثم الأركان المكونة لجرائم الحرب من خلال المبحثين الأول والثاني. وسوف نتناول في المبحث الأول من الفصل الثاني أنواع جرائم الحرب من خلال اتفاقيات لاهاي وجنيف وتمييزها عن غيرها من الجرائم الدولية، لنصل إلى انعقاد صلاحية المحكمة الجنائية الدولية للنظر بهذا نوع من الجرائم وذلك في المبحث الثاني من الفصل الثاني.
الفصل الاول: تعريف جرائم الحرب
باعتبار جرائم الحرب جرائم دولية وواقعاً اجتماعياً تفرضه الدول لتحقيق أهدافها بأية وسيلة، فأتت الاتفاقيات الدولية والعرف الدولي لينظمها ويرتب المسؤولية على مرتكبي هذه الجرائم لفرض العقوبات اللازمة. من هنا سنتناول تعريف جرائم الحرب من خلال الاتفاقيات الدولية.
المبحث الأول: جرائم الحرب وفق المعيار الدولي
أدى مؤتمر لاهاي الأول والثاني اللذان تم خلالهما اعتماد اتفاقيات لاهاي 1907 و1899 الى تطوير القانون الدولي الإنساني بشكل كبير، وفرض حظر على بعض من الأفعال خلال الحرب. وكون هذه الاتفاقيات تمثل القواعد الرئيسية للقانون العرفي، فقد تم توسيع إطارها من خلال إتفاقيات جنيف, إتفاقية 1864 وإتفاقية 1949 الأربعة بالإضافة الى البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 والتي أخذت بعين الإعتبار الأشخاص المدنيين الذين لم يشاركون بالحرب(1).
ونلاحظ في اتفاقيات لاهاي وجنيف أنه لم يرد تعريف واضح لجرائم الحرب، إنما اقتصرت كل منهما على تعداد الأفعال التي يعد ارتكابها خروجاً عن قوانين وأعراف الحرب. وبالتالي تعد جريمة حرب بالنسبة لإتفاقية لاهاي: إستخدام أسلحة سامة، قتل وجرح من ألقى سلاحه، وتدمير ممتلكات العدو بدون ضرورة عسكرية(2).
أما إتفاقيات جنيف، فكانت أكثر دقة وشمولية في تعداد الجرائم الخطيرة، لا بل قررت العقاب على أية جريمة أخرى من جرائم القانون الدولي حتى لو لم تكن من ضمن الجرائم الثلاثة عشرة المنصوص عنها في اتفاقيات جنيف والتي تشمل:
القتل العمد، التعذيب، التجارب البيولوجيةـ، إحداث آلام كبرى مقصودة، إيذاءات خطيرة مقصودة ضد السلامة الجسدية والصحية، المعاملة غير الإنسانية، تخريب الأموال وتملكها بصورة لا تبررها الضرورات العسكرية والتي تنفذ على مقياس واسع غير مشروع تعسفي، إكراه شخص على الخدمة في القوات العسكرية لدولة الأعداء، حرمان شخص محمي من حقه في محاكمة قانونية وحيادية حسيما تفرضه الإتفاقيات الدولية، إقصاء الأشخاص ونقلهم من أماكن وجودهم بصورة غير مشروعة، الإعتقال غير المشروع، أخذ الرهائن، وأخيراً سوء استعمال علم الصليب الأحمر أو شارته والأعلام المماثلة(3).
وبالنسبة للمحكمة الدولية الجنائية الدائمة، فقد حددت الأفعال التي تعد من جرائم الحرب بشكل حصري، فعرفتها على الشكل التالي:
_ الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لسنة 1949.
_ الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف التي تطبق في المنازعات المسلحة الدولية في إطار القانون الدولي القائم حاليا.
_ الانتهاكات الجسيمة للمادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 في حال وقوع نزاع مسلح غير ذي طابع دولي.
_ الانتهاكات الخطيرة الاخرى للقوانين والأعراف التي تطبق في المنازعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي في إطار القانون الدولي القائم(4).
بينما تضمن نظام روما الأساسي في المادة 8 منه تحديداً شاملاً لجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة والنزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي.
من هنا تعد جرائم حرب تلك الأعمال التي تبدأ مع العمليات الحربية، المخالفة للإتفاقيات والأعراف الدولية على أي شخص مدني أو أسير أو جريح، او على الاموال العائدة له او على الاموال العامة، وقد تقتصر الافعال فقط على استعمال أسلحة خطيرة أثناء العمليات العسكرية.
المبحث الثاني: أركان جرائم الحرب
بالمبدأ لا جريمة ولا عقوبة دون نص. فما هو مدى تطبيق المبدأ في ظل القانون الدولي الجنائي القائمة قواعده على الأعراف الدولية؟
نصت المادة 38 من دستور محكمة العدل الدولية على مصادر القانون الدولي: وهي الإتفاقيات الدولية الخاصة والعامة، العرف الدولي المقبول بمثابة قانون التي أقرتها الأمم المتحدة، أحكام المحاكم، مذاهب كبار الموظفين في القانون العام في مختلف الأمم، مبادئ العدل والانصاف متى وافق الاطراف على ذلك(5).
وبالتالي يجب على الدول الإلتزام وإحترام القواعد والقوانين والأعراف الدولية التي تنظم سير العمليات الحربية. اذاً لا يجوز تجريم أي فعل اذا لم يكن يشكل جريمة بموجب القانون الجنائي في وقت ارتكابها.
أما بالنسبة للركن المادي: يقوم الركن المادي على القيام بعمل يشكل انتهاكا للاتفاقيات والاعراف الدولية التي تنظم العمليات الحربية خلال فترة الحرب.
قد يكون عملاً ايجابياً (كضرب المستشفيات ودور العبادة بالقنابل سندا للمادة 12/2 من مشروع تقنين الجرائم ضد السلام وأمن الانسانية) أو سلبي ( حرمان الأشخاص الذين تقرر لهم اتفاقية جنيف حمايتهم من حق مقاضاتهم بصورة نظامية دزن تمييز)، كما قد يكون امتناع عن عمل (كالقتل عن طريق حرمان أسير من الطعام).
اما النتيجة فتتمثل بالإعتداء، الذي قرر القانون حمايته(6) الا اذا كانت الجريمة شكلية، يعني بمجرد ارتكاب الفعل المادي تتحقق الجريمة كوضع ألغام اتوماتيكية تتفجر بمجرد التلامس(7).
وتتحقق الصلة السببية بين النتيجة والفعل. يجب أن يكون الفعل الذي أتى به الجاني تسبب بإحداث النتيجة.
وقد نصت المادة 13 من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 على ما يلي: ” أي عمل غير مشروع او امتناع من قبل السلطة المحتجزة يسبب حدوث الموت او يعرض سلامة أسرى الحرب للخطر، يعتبر ممنوعا، ويعد من الخروق الخطيرة لهذه الاتفاقية.”
وبالتالي سواء كان الفعل إمتناعاً عن عمل أو القيام بالعمل يقع على الجاني نفس العقاب.
وباعتبار جرائم الحرب من الجرائم المقصودة، يتمثل الركن المعنوي بالعلم والإرادة أي بالقصد العام فقط.
يعني يجب ان يعلم الجاني بمخالفة القواعد والقوانين والأعراف الدولية وعادات الحرب المبيّنة في المعاهدات والأعراف الدولية وأن تتجه إرادته الى إحداث تلك الأفعال(8).
إلا أنه وبالعودة الى نظام روما الأساسي، لم ينص على الركن المادي لجريمة الحرب. فقط إكتفى بتحديد أركان المسؤولية الجنائية الفردية وشروط الإعفاء منها في المواد 25، 30 و31(9).
وكانت المادة 25 من نظام روما إقتصرت على الأشخاص الطبيعين فقط دون الدولة وذلك عكس ما جاء في محكمة نورمبورغ التي شملت الأشخاص المعنويين أيضاً، إلا أن هذا الإعفاء ليس مطلقا، فالدولة تتحمل المسؤولية في حال إهمالها في إتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم أو في حال لم تتخذ مثل هذه التدابير(10). أما بالنسبة لمسؤولية الدولة عن الاشخاص الذين لم تتجاوز أعمارهم الـ الثامنة عشر، إعتبرت المادة 26 من النظام ان المسؤولية مدنية بحق الدولة.
أما في ما يتعلق بالعقوبة فحددتها المادة 27 وهي عقوبة الحبس او الغرامة المالية ومع إمكانية مصادرة الممتلكات.
هل الشروع في جرائم الحرب معاقب عليه؟
المحاولة في ارتكاب جرائم الحرب هو معاقب عليه ايضا في الفقرات ب، ج، د من المادة 25 نظرا لخطورة الجريمة مع إمكانية مراعاة الظروف المحيطة بإرتكاب الجريمة. إلا أننا نجد في الفقرة 3 من المادة 25 أنه في حال العدول عن إتمام الجريمة دون إظهار معالمها إلى العالم الخارجي لا يعاقب على الشروع في جرائم الحرب.
وتعد جريمة الحرب جريمة دولية في حال كان كل من المعتدي والمعتدى عليه منتميا لدولة في حالة النزاع المسلح مع الأخرى(11).
إذا لقيام جريمة الحرب يقتضي توفر أربعة أركان، شرعي، مادي، معنوي ودولي، ويخضع هذا النوع من الجرائم إلى القانون الدولي الجنائي.
الفصل الثاني: أنواع جرائم الحرب وصلاحية المحكمة الجنائية الدولية
في هذا المبحث سوف نتناول أنواع جرائم الحرب وفقا لقانون إتفاقيات لاهاي وجنيف، ثم تبيان أوجه الشبه والإختلاف مع غيرها من الجرائم الدولية، وذلك في سبيل التوصل الى مفهوم موحد لها وحصرها.
وفي المبحث الثاني سنوضح إنعقاد صلاحية المحكمة الجنائية الدولية للنظر بجرائم الحرب.
المبحث الأول: جرائم انتهاك قانون لاهاي وقانون جنيف
تنقسم جرائم الحرب الدولية بين جرائم استعمال أسلحة وأدوات محظورة وتسمى بانتهاكات قانون لاهاي، وبين جرائم ذات أساليب وتصرفات ممنوعة وتسمى بانتهاكات قانون جنيف.
تشمل جرائم استخدام الاسلحة والمواد المحظورة ما يلي:
جريمة استخدام الأسلحة المتفجرة أو المحشوة بمواد ملتهبة، كالقذائف في البر والبحر والجو(12). وإعتبرت اتفاقتي لاهاي لسنة 1899 و1907 أن هذا الحظر في الحرب ملزم للمجتمع الدولي ككل وأن كل مخالف لهذا الحظر يعتبر مجرم حرب سندا للمادة 8 من نظام روما الأساسي. أما بالنسبة لجريمة استخدام الرصاص الممنوع دوليا، كونه ينتشر ويتمدد في جسم الإنسان بسرعة كالرصاص ذي الغشاء الصلب، فيعد مستخدمه مجرم حرب. مثلا إرتكبت اسرائيل، بالاستناد الى المادة 8 من نظام روما الاساسي، جريمة حرب كونها إستخدمت هذا النوع من الأسلحة في حربها مع فلسطين 1948 (13). كما جريمة استخدام بعض الألغام البحرية، وهي التي تكون مثبتة وتصبح ضارة بمجرد إنفصالها عن مرساها وحرمتها المادة 1 و2 و6 من إتفاقيات لاهاي.
أما في ما يتعلق بالمواد الممنوعة، فحظرت إتفاقيات لاهاي والإتفاقيات الخاصة بالمواد الكيميائية إستخدام بعض المواد، كجريمة إستعمال السلاح الكيميائي مثل الغازات والسموم لكونها تحتوي على مواد سامة تؤدي الى التسميم والخنق والشلل، والذي يتناول المقاتلين والمدنيين مما يتجاوز قواعد الحرب (14). وتعتبر هذه الجرائم من جرائم الحرب وتدخل في اختصاص المحكمة الدولية الجنائية سندا للمادة 8 من نظام روما الاساسي. ومن الأمثلة على هذه الجرائم إقدام فرنسا على قصف المغرب في العام 1923 و1926 بإستخدام غاز الخردل ضد الجلد مباشرة عبر القذائف المدفعية والطائرات (15). أما فيما يتعلق بجريمة استخدام السلاح البيولوجي أو الجرثومي والذي يستخدم فيه قذائف تحتوي على ميكروبات تحمل أمراضاً خطيرة ويصيب الجسم مباشرة من خلال التكاثر السريع فيه (16). وجريمة استخدم النووي، لا سيما عند إقدام الولايات المتحدة على إطلاق قنبلتين ذريتين على كل من هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين (17). والحظر لم يقتصر فقط على المنع، إنما حظرت محكمة العدل الدولية التهديد بإستخدام الأسلحة النووية، وإعتبرت انه لا القانون الدولي العرفي ولا الإتفاقي يسمح باستخدام الاسلحة النووية (18).
أما بالنسبة لانتهاكات قانون جنيف الهادفة إلى معاقبة مرتكبي الجرائم لتعرضهم للمقاتلين والمدنيين ومعاملتهم معاملة لا إنسانية ولتعرضهم للممتلكات المدنية والأموال. ومن الأمثلة على تلك الجرائم المعتبرة جرائم حرب:
القتل العمد، نصت عليه المادة 8 من النظام الاساسي للمحكمة الدولية الجنائية، وهي تقع سواء على شخص او أكثر من الأشخاص المحميين بإتفاقيات جنيف 1949، كالجرحى والمرض وأسرى الحرب والسكان المدنيون. كما نصت المادة 13 من إتفاقية جنيف الثالثة على أنه:” يعتبر قتلا بالإمتناع القتل بالتجويع أي منع الطعام كلّياً أو بالتخفيض من النصيب اليومي من الطعام لأسرى الحرب المعتقلين المدنيين بقصد موتهم (19). وجريمة التعذيب والمعاملة اللاإنسانية وإجراء التجارب البيولوجية، نصت عليها المادة الاولى من الإتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب 1948 سواء بإستخدام وسيلة تقليدية او حديثة معروفة او غير معروفة (20) بالإضافة الى جريمة إحداث المعاناة او الخطر الجسيم بالجسم أو الصحة في المادة 8 من نظام المحكمة، وجريمة الإجبار على الخدمة في صفوف قوات الدولة المعادية، جريمة الحرمان من المحاكمة العادلة، جريمة الإبعاد أو النقل او الحبس غير المشروع للأشخاص المحميين باتفاقية أو أكثر من اتفاقية جنيف، وذلك عن طريق ترحيل الاشخاص المحميين بموجب الاتفاقية الرابعة من اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين الموجودين تحت الاحتلال من الاراضي المحتلة الى اماكن اخرى (21). وكذلك جريمة أخذ الرهائن من الجرائم غير المشروعة اذا وقعت على الاشخاص المحميين بموجب اتفاقية جنيف لعام 1949 سنداً للمادة 34 والمادة 147 من إتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
ومن ثم الجرائم التي تمس الممتلكات والتي نصت عليها المادة 46 من اتفاقية جنيف الاولى والمواد 18، و21، و22 من إتفاقية جنيف الرابعة، كالتدمير الشامل للممتلكات سواء أكانت مدنية او عسكرية كالمستشفيات المدنية والعسكرية والاجهزة والأدوات والمعدات الموجودة فيها أينما وجدت. كما ألزمت الاتفاقيات الاربع لجنيف بحماية الجسور والسدود ومحطات توليد اطاقة الكهربائية والمدارس والمساجد(22). ومن الأمثلة على هذه الجرائم الفظاعات التي قامت بها إسرائيل على أرض فلسطين عندما ضربت المستشفى المعمداني في قطاع غزة، كذلك جريمة الاستيلاء على الاموال الخاصة في المادة 55 والمادة 75 من اتفاقية جنيف الرابعة.
وبهدف تحديد جرائم الحرب بدقة أكثر، يقتضي التمييز بينها وبين جرائم دولية أخرى من خلال المقارنة بينها عبر الجدول التالي:
المبحث الثاني:إختصاص المحكمة الدولية الجنائية الدائمة في جرائم الحرب:
سوف نتطرق الى الأركان العامة الواجب توافرها في المحكمة الدولية من أجل النظر بجرائم الحرب، وفي الفقرة الثانية سوف نتناول صلاحية المحكمة الجنائية الدائمة للنظر بجرائم الحرب المرتكبة من قبل إسرائيل.
أ – الأركان العامة لانعقاد صلاحية المحكمة الجنائية الدولية:
المحكمة الدولية الجنائية الدائمة، قضاء دولي دائم مهمته متابعة الجرائم الدولية عامة وجرائم الحرب خاصة بهدف ردع مجرمي الحرب ومعاقبتهم وفقا للقانون الدولي الانساني.
دخلت هذه المحكمة حيز التنفيذ في الأول من تموز عام 2002 على أثر الفاجعة التي وقعت في يوغوسلافيا السابقة لعام 1991.
وتم تنظيمها بموجب المادة الاولى من نظام روما الأساسي: ” تم إنشاء محكمة دولية جنائية كجهاز دائم يسمح بتطبيق اختصاصه في مواجهة الأشخاص عن الجرائم الأكثر جسامة ذات البعد الدولي مكملة للقضاء الوطني، ومقراها في لاهاي.”
تختص موضوعيا بأشد الجرائم خطورة كجرائم الحرب التي تم عرضها سابق وفقا للمادة 5 من نظامها الاساسي، وشملت المادة 8 منه جريمة الحرب بشكل خاص، وتختص شخصيا بمحاكمة الاشخاص الطبيعيين فقط وليس المعنويين، وبالتالي لا مسؤولية على الدول أو المنظمات سندا للمادة 25 من النظام الاساسي للمحكمة.
أما بالنسبة للصلاحية من حيث المكان، فتختص فقط بالجرائم الواقعة فوق إقليم كل دولة تصبح طرفا في نظام روما الاساسي وإلا تكون غير مختصة ما عدا حالة موافقة الدولة سندا لمبدأ نسبية المعاهدات والمادة 12 من نظام المحكمة (23).
ويكون للمحكمة صلاحية نظر الجرائم من حيث الزمان، المرتكبة بعد دخول النظام الاساسي حيز التنفيذ سندا للمادة 11 من نظامها وسندا لمبدأ عدم رجعية القوانين إلا إذا قبلت الدولة بإختصاص المحكمة سندا للمادة 34 منه.
بما أن صلاحية المحكمة هو مكمل للقضاء الوطني وفقا للمادة الاولى منه، نتيجة لذلك سمحت للقضاء الوطني بمتابعة الجرائم الدولية، وبالتالي لا يجوز إعادة محاكمة الشخص عن ذات الجرم مرة ثانية. غير أنه اذا وجدت المحكمة الدولية أن القضاء الوطني قد تساهل في ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب ولم ينظر بعين الاعتبار مقتضيات العدالة يجوز لها إعادة محاكمة الشخص عن ذات الجرم مرة أخرى مع حفظ حقه بما نفذ من عقاب لدى القضاء الوطني (24).
ب – انعقاد صلاحية المحكمة للنظر بجرائم الحرب الإسرائيلية
وبالعودة إلى قضية فلسطين، وهل أنها بلغت الغاية المرجوة من إنشائها خاصة اليوم في ظل الأوضاع الراهنة في قطاع غزة؟
لم تبدأ المحكمة الدولية الجنائية الدائمة محاكمتها لمرتكبي جرائم الحرب في قطاع غزة، مع العلم أن إسرائيل قد تناولت في حربها المستشفيات والممتلكات المدنية والبنى التحتية، مما يحتم ضرورة تطبيق المادة 15 من نظام روما الأساسي للمحكمة ومباشرة المدعي العام التحقيق من تلقاء نفسه لإكتمال أركان جرائم الحرب المقترفة، ولا يبررها ادعاء إسرائيل بأنها تمارس حق الدفاع المشروع لكونه خارج إطار قواعد القانون الدولي، وذلك من أجل التوصل لمحاكمة المسؤولين الإسرائليين أمام المحكمة الجنائية الدولية وتوقيع العقاب بحقهم لخرقهم قواعد القانون الدولي وإتفاقيات جنيف لحقوق الانسان، وبالتالي يقتضي وقف إطلاق النار والعنف وإنهاء الإحتلال الإسرائيلي كون تحقيق السلام هو من مهمة المجتمع الدولي.
وبما أن إسرائيل ليست طرفاً في نظام روما الأساسي الخاص بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، فبالمبدأ لا يمكن للمدعي العام تحريك الدعوى العامة من تلقاء نفسه فتكون المحكمة غير مختصة.
أما الإستثناء على المبدأ فيتجلى على الشكل التالي:
اولا” في المادة 146 من إتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم الدول الاطراف في تقديم مرتكبي جرائم الحرب من قبل مواطنيها واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمعاقبتهم، وإسرائيل طرف في الإتفاقية إلا انها كما هو واضح من التطبيقات العملية لم تلتزم بمضمون المادة المذكورة إلا بصورة شكلية (25). وإما بمقتضى المادة 4 والمادة 12 من نظامها الأساسي الذي تلزم كل دولة بتقديم مجرمي الحرب للمحكمة الجنائية والذي لم تفعله اسرائيل.
والإستثناء الثاني يظهر بالمادة 12 التي تسمح للمحكمة بالنظر في جرائم الحرب المقترفة من مواطني دولة غير طرف على أساس التبعية عندما تقترف الجريمة على أرض دولة طرف أو قبلت باختصاص المحكمة، وبما ان فلسطين أصبحت في العام 2012 دولة مراقب ومنحت بذلك عضوية الأمم المتحدة، ينعقد الإختصاص للمحكمة الجنائية الدولية أو بموجب المادة 13 من النظام الأساسي للمحكمة بموجب إحالة من مجلس الأمن.
وعدم مباشرة المحكمة لصلاحيتها، يطرح التساؤل هل إن المحكمة الجنائية الدولية محايدة ام مسيسة؟
وللإجابة على هذا التساؤل ننتقل الى القسم الثاني لتبيان مدى فعالية المحكمة الجنائية الدولية في تقرير العقاب بحق المجرمين ومساءلتهم.
القسم الثاني: دور المحكمة الجنائية الدولية في تطبيق القانون على جرائم الحرب
يقتصر دور المحكمة الجنائية الدولية على جمع الأدلة، ويقع عليها مسؤولية تنزيل العقاب بحق مواطني الدول الأطراف في إتفاقية روما التي نشأت بمقتضاها المحكمة الجنائية الدولية وبالأخص الأشخاص الذين لم يستطع قضاؤهم الوطني محاكتهم بشكل عادل.
وبما أن ليس جميع الدول وخاصة الكبرى لم تنضم الى المحكمة الجنائية الدولية يخلق ذلك تبايناً في موقف الدول من المحكمة مما يؤثر بشكل كبير على دورها في تقرير المسؤولية بحق مرتكبي جرائم الحرب.
فما هي الثغرات التي تعترض المحكمة الجنائية الدولية قي تنفيذ مهمتها خاصة؟ (المبحث الأول)
الفصل الأول: الثغرات التي تعترض دور المحكمة الجنائية الدولية
ان النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يتضمن عقبات تقف حائلا أمام فعالية المحكمة إن لناحية الإختصاص وإن لناحية الجانب السياسي.
سنوضح هذه الثغرات من خلال المطلبين التاليين.
المبحث الاول: مبدأ نسبية المعاهدات الدولية
تنص المادة 12 على ما يلي:
” 1- الدولة التي تصبح طرفاً في هذا النظام الأساسي تقبل بذلك إختصاص المحكمة في ما يتعلق بالجرائم المشار إليها في المادة 5.
2 – في حالة الفقرة (أ) أو (ج) من المادة 13، يجوز للمحكمة أن تمارس إختصاصها إذا كانت واحدة أو أكثر من الدول التالية طرفا في هذا النظام الأساسي أو قبلت باختصاص المحكمة وفقا للفقرة 3.
(أ) الدولة التي وقع في إقليمها السلوك قيد البحث أو دولة تسجيل السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن سفينة أو طائرة؛ (ب) الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها.
3 – إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازما بموجب الفقرة 2 جاز لتلك الدولة، بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة، أن تقبل ممارسة المحكمة إختصاصها في ما يتعلق بالجريمة قيد البحث. وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء وفقا للباب 9.”
وتنص المادة الفقرة ب من المادة 13 من النظام على ما يلي:
” اذا أحال مجلس الأمن، متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت؛” باعتبار اسرائيل ليست عضواً في المحكمة الدولية الجنائية وغير مصادقة على نظام روما الأساسي، تواجه المحكمة عقبة التعاون مع الدول غير الأطراف، فهي لن تسمح بامتثال جنودها أمام المحكمة سندا لمبدأ أن المعاهدة لا تلزم إلا أطرافها.
فإن النظام الاتفاقي يقف عائقا أمام المحكمة بملاحقة مرتكبي جرائم الحرب الدولية والحد منها لإشتراط قبول الدولة باختصاص المحكمة، فتكون المحكمة غير مختصة إلا بالجرائم المرتكبة على أرض الدولة الطرف في اتفاقية روما من جانب وطنيين تابعين لدولة طرف وعلى وطنيين تابعين لدولة طرف، بالإضافة الى الجرائم الواقعة بعد نفاذ اتفاقية روما بالنسبة لهذه الدولة.
وبالعودة الى المادة 12 من نظام المحكمة أشارت الى أن للمحكمة ان تمارس صلاحياتها على مواطني الدول غير الأطراف عند التحقيق في إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادة الخامسة من النظام الأساسي متى ارتكبت الجريمة على إقليم دولة طرف أو على إقليم دولة غير طرف في النظام الأساسي ووافقت على اختصاص المحكمة بموجب اتفاق خاص مع تلك الدولة.
وإسرائيل بمصادقتها على اتفاقيات جنيف 1949 أضحت ملزمة بموجب التعاون مع المحكمة، حيث اعتبر الفقيه Zhu Wenqi أن الدول غير الطرف ولا سيما إسرائيل يقع عليها موجب التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية سندا للموجبات المترتبة عليها نتيجة انضمامها الى إتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكولها الأول لسنة 1977 الذي يتضمن قواعد القانون الدولي الإنساني ويفرض إحترامه والإلتزام بقواعده، عدا عن واجب التعاون بموجب قرار الإحالة الى المحكمة من مجلس الأمن وفقا للفصل السابع منه (26).
علاوة على أن الهدف من المحكمة الجنائية الدولية هي ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية التي تعد بمعظمها انتهاكات جسيمة لقواعد القانون الدولي وبالتالي على الدول الغير طرف التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية (27).
إلا أننا نرى أن غياب نص واضح يلزم الدول الأطراف كما ذكر الفقيه Zhu ، يقتضي أن لا يتضمن التعاون أي شرطا كي تستطيع المحكمة ممارسة صلاحيتها بمقتضى النظام.
لكل ذلك لا تستطيع إسرائيل التنصل من تحقيقات المحكمة بحجة أنها غير عضو لكون الجريمة المدعمة بالدلائل وقعت على أرض فلسطين ونالت من مواطنيها، حتى لو كانت توجد بعض الإنتقادات حول نظام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، خاصة أن إسرائيل رفضت التصويت على المادة 8 المتعلقة بتعريف جرائم الحرب، في ما يتعلق بجريمة التحويل المباشر او غير المباشر من طرف السلطات المحتلة لمجموعات مدنية في الإقليم الذي تحتله، أو التنقل أو التحويل إلى داخل أو خارج الإقليم المحتل لمجمل أو لمجموعة من شعب هذا الإقليم، والذي لا يتناسب مع ما تفعله في أرض فلسطين المحتلة (28).
وبرأينا ان التسييس القضائي في التحقيق بجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، يظهر في المادة 16 من نظام روما الأساسي الذي يسمح لمجلس الأمن الطلب بتأجيل المحاكمة لمدة عام وتمديد التأجيل لمدة سبع سنوات، وذلك لمنع متابعة الجرائم الدولية.
إلى جانب هذه العقبات، إن رغبة الدول في عدم محاكمة إسرائيل تقف أيضا عائقا أمام مهمة المحكمة خاصة أن هذه الدول الداعمة لإسرائيل هي الممول لهذه الأخيرة كألمانيا مثلا التي تتبرع بنسبة 40% لها، حتى أن بريطانيا ترفض ملاحقة إسرائيل مع العلم أن المدعي العام للمحكمة هو ” كريم خان ” وهو من الجنسية البريطانية، فكيف له ان يقوم بمهمته بكل تجرد؟ بالإضافة إلى تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية في حال تمت ملاحقة أي من حاملي الجنسية الأميركية او الإسرائيلية.
المبحث الثاني: المادة 124 من نظام المحكمة ومبدأ عدم الرجعية عائقان أمامها في تنفيذ مهمتها
أ – المادة 124 من نظام المحكمة:
نصت المادة 124 من نظام المحكمة الأساسي على ما يلي:
“بالرغم من أحكام الفقرتين 1 و 2 من المادة 12 يجوز للدولة، عندما تصبح طرفا في هذا النظام الأساسي، أن تعلن عدم قبولها إختصاص المحكمة لمدة سبع سنوات من بدء سريان هذا النظام الأساسي عليها، وذلك في ما يتعلق بفئة الجرائم المشار إليها في المادة 8 لدى حصول ادعاء بأن مواطنين من تلك الدولة قد ارتكبوا جريمة من تلك الجرائم أو أن الجريمة قد ارتكبت في إقليمها. ويمكن في أي وقت سحب الإعلان الصادر بموجب هذه المادة. ويعاد النظر في أحكام هذه المادة في المؤتمر الاستعراضي الذي يعقد وفقا للفقرة 1 من المادة 123.”
مما يشير الى أن لكل دولة طرف في المحكمة الجنائية الدولية أن تودع لدى المحكمة إعلانا يتضمن تعليق إختصاص المحكمة النوعي لناحية النظر في جرائم الحرب المرتكبة في إقليم الدولة الطرف أو تلك التي ترتكب من قبل مواطنيها وذلك لمدة سبع سنوات.
إلا ان هذه المادة لم تأت من العدم انما كانت رغبة فرنسا في إدراجها كشرط أساسي للإنضمام الى الى نظام المحكمة الأساسي (29). فالمبرر الوحيد لإشتراط هذه المادة هو من أجل عدم مثول مواطنيها الفرنسيين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
إلا أن فرنسا في العام 2008 تراجعت عن المادة 124 بموجب اعلان لدى الأمين العام للأمم المتحدة (30)، وذلك كون هذه المادة تدل على انها وضعت لكي تسمح للدول بإرتكاب الجرائم دون حسيب ولا رقيب. وفرنسا بتراجعها عن هذا الإعلان وسحبه يبرر رغبتها بأن تمارس المحكمة الجنائية دورها دون اي عائق قانوني يسمح لمرتكبي الجرائم من الإفلات من العقاب.
ب – مبدأ عدم رجعية القوانين:
تنص المادة 11 من نظام روما الاساسي على ما يلي:
” 1 – ليس للمحكمة اختصاص إلا في ما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام الأساسي.
2 – إذا أصبحت دولة من الدول طرفاً في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه، لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة، ما لم تكن الدولة قد أصدرت إعلاناً بموجب الفقرة 3 من المادة 12.”
مبدأ عدم رجعية القوانين يعني ان القانون لا يسري إلا على الجرائم الواقعة في ظله ولا يسري على الجرائم المرتكبة قبل نفاذه ويعتبر نتيجة حتمية لمبدأ شرعية الجرائم.
إلا ان الإشكالية المطروحة هنا هي أن الجرائم المنصوص عليها في المادة 29 من نظام المحكمة لا تسقط بمرور الزمن (31). لا بل أن طائفة من الجرائم الدولية هي جرائم مستمرة تستدعي من الفاعل إرتكاب أفعال جرمية يستمر نشاطه لفترة من الزمن طويلة نسبية أي أن الركن المادي يستمر فترة من الزمن ، وطائفة أخرى تعد جرائم متمادية كالجرائم البيولوجية التي يرتكب فيها الفعل مثلا قبل دخول النظام حيز التنفيذ وتحصل النتيجة بعد دخول النظام حيز التنفيذ.
وبالتالي لن تتمكن المحكمة من ممارسة مهمتها على هذه الجرائم تطبيقا لمبدأ عدم رجعية القوانين المنصوص عنه في المادة 11 من نظام روما الاساسي مما يشكل ذلك عائقا كبيرا أمام المحكمة الجنائية الدولية وكما يسمح للمرتكبي الجرائم الخطيرة الإفلات من العقاب.
الفصل الثاني: التطبيق العملي لظام روما الأساسي
إن إلتزام الدول بتنفيذ موجباتها الدولية وتحقيق التعاون بحسن نية مع المحكمة الجنائية الدولية وإحترام طبيعة المحكمة كلها تصب في مصلحة المحكمة الجنائية الدولية في تنفيذ مهمتها التي نشأت من أجلها ألا وهي محاكمة مرتكبي جرائم الحرب.
المبحث الأول: الممارسة العملية للمحكمة الجنائية الدولية
يقتضي التذكير قبل عرض التطبيق العملي لنظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية، بأنه يتم تحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 13 من النظام الاساسي والتي تحصر أحقية تحريكها بثلاث أطراف وهي اما الدولة الطرف وإما مجلس الأمن وإما المدعي العام للمحكمة.
إستطاع مجلس الأمن بموجب سلطته التي منحته إياها المادة 13 من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية الى تحريك قضية إقليم دارفور في السودان إلا أن المادة 53 إعتبرت أن هذه الإحالة من قبل مجلس الامن غير ملزمة للمحكمة ويعود لها السلطة في المباشرة بالتحقيق أم لا.
فما هو دور مجلس الأمن في الإحالة خاصة أن السودان دولة غير طرف في نظام روما الأساسي؟
نتيجة الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان قي إقليم دارفور والجرائم المرتكبة بحق المدنيين أصدر الأمين العام للأمم المتحدة في العام 2004 قرارا” بتشكيل لجنة دولية بموجب قرار مجلس الامن رقم 1541، حيث رفعت تقريرها إلى الأمين العام وأحاله الأخير بدوره الى مجلس الأمن(32). تضمن التقرير مسؤولية الأطراف في خرق القانون الدولي الإنساني، وعدم رغبة القضاء السوداني في محاسبة مجرمي الحرب (33). ومن هنا كان للمجلس الأمن ان يصدر قرارا يتضمن وجوب إحالة قضية الإقليم إلى القضاء المختص أي إلى المحكمة الجنائية الدولية استنادا الى القرار رقم 1593 مستندا بهذه الاحالة إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وبمقتض هذا القرار، باشر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية التحقيق في قضية إقليم السودان مستندا إلى المعلومات المحالة إليه والواردة في تقرير الامين العام للامم المتحدة (34) ومن ثم توصل الى أدلة تفيد وجود جرائم قتل وتعذيب في دارفور وأنه سيحيل ما توصل اليه إلى الجهة المختصة في المحكمة فور الإنتهاء من جمع الأدلة حيث طلب من دولة السودان التعاون معه لتفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية.
هذا عدا عن تحرك المحكمة الجنائية الدولية بعدة قضايا كالقضية المتعلقة بالرئيس السوداني عمر البشير في العام 2008، حيث أقدم المدعي العام للمحكمة على تحريك الدعوى بوجه الرئيس السوداني متهما إياه بارتكاب جرائم حرب في دارفور لتوجيهه هجمات مقصودة ضد المدنيين والإستيلاء على الممتلكات، وطلب إصدار مذكرة إلقاء القبض بحقه(35). الا ان اللافت أنه رغم هذه القرار لم تنفذ بحقه مذكرة إلقاء القبض، لا بل راح يتنقل من دولة الى أخرى دون عقبات تمنعه (36). وغيرها من القضايا المعلقة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
المبحث الثاني: أحكام المحكمة الجنائية الدولية
إعتمدت المحكمة الجنائية الدولية في إصدار أحكامها على مبدأ التعاون الدولي من أجل الحد من إنتهاكات قانون الدولي الإنساني والقدرة على القبض على مرتكبي جرائم الحرب. فقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3074 تاريخ 1973/12/3 المتعلّق بضرورة التعاون بين الدول من أجل ملاحقة وتسليم المسؤولين عن جرائم الحرب.
نصّ القرار على تسعة مبادئ على الشكل التالي:
1 – تكون جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أيا كان المكان الذي ارتكبت فيه، موضع تحقيق، ويكون الأشخاص الذين تقوم دلائل على أنهم قد ارتكبوا الجرائم المذكورة محل تعقب وتوقيف ومحاكمة، ويعاقبون إذا وجدوا مذنبين.
2 – لكل دولة الحق في محاكمة مواطنيها بسبب جرائم الحرب أو الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
3 – تعاون الدول بعضها مع بعض، علي أساس ثنائي ومتعدد الأطراف، بغية وقف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والحيلولة دون وقوعها، وتتخذ على كلا الصعيدين الداخلي والدولي التدابير اللازمة لهذا الغرض.
4 – تؤازر الدول بعضها بعضا في تعقب واعتقال ومحاكمة الذين يشتبه بأنهم ارتكبوا مثل هذه الجرائم، وفي معاقبتهم إذا وجدوا مذنبين.
5 – يقدّم للمحاكمة الأشخاص الذين تقوم ضدهم دلائل على أنهم ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ويعاقبون إذا وجدوا مذنبين، وذلك، كقاعدة عامة، في البلدان التي ارتكبوا فيها هذه الجرائم. وفي هذا الصدد، تتعاون الدول في كل ما يتصل بتسليم هؤلاء الأشخاص.
6 – تتعاون الدول بعضها مع بعض في جمع المعلومات والدلائل التي من شأنها أن تساعد على تقديم الأشخاص المشار إليهم في الفقرة 5 أعلاه إلى المحاكمة، وتتبادل هذه المعلومات.
7 – عملاً بأحكام المادة /1/ من إعلان اللجوء الإقليمي الصادر في 1967/12/14، لا يجوز للدول منح ملجأ لأي شخص توجد دواع جدية للظن بارتكابه جريمة ضد السلم أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية.
8 – لا تتخذ الدول أيّة تدابير، تشريعية أو غير تشريعية، قد يكون فيها مساس بما أخذته علي عاتقها من التزامات دولية في ما يتعلق بتعقّب واعتقال وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
9 – تتصرّف الدول، حين تتعاون بغية تعقّب واعتقال وتسلّم الأشخاص الذين تقوم دلائل على أنهم ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ومعاقبتهم إذا وجدوا مذنبين، وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة وإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاق الأمم.
في هذا المبحث سوف نعرض أول قضية تأخذ المحكمة الجنائية الدولية حكما بشأنها وهي قضية الكونغو الديمقراطية.
باشر المدعي العام من نظام المحكمة تحقيقاته بموجب إدعاء موجّه من رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية وهي دولة طرف في النظام الأساسي لروما، ومن أجل تحقيق العدالة الدولية وقعت جمهورية الكونغو الديمقراطية إتفاق تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية (37). وبالفعل توصل المدعي العام إلى جمع ادلة كافية للطلب من الدائرة التمهيدية في المحكمة بإصدار مذكرة توقيف بحق زعيم حركة إتحاد الوطنيين الكونغوليين المسؤولة عن جرائم الحرب في شمال شرق الكونغو(38).
وبالفعل طلبت الدائرة التمهيدية من حكومة المتهم الإمتثال لقراراتها، وحضر زعيم الحركة جلسات أمام الدائرة التمهيدية للمحكمة بحضور المدعي العام ومحاميه، ثم أصدرت الدائرة قرارا بإحالة المتهم الى المحكمة الجنائية الدولية. وبعد ذلك عقدت المحكمة عدة جلسات من أجل اصدار الحكم الذي قضى بإدانتة المتهم زعيم إتحاد الوطنيين الكونغوليين وإنزال عقوبة الحبس 14 سنة مع انقاص مدة الاحتجاز(39).
كذلك أصدرت الدائرة الإبتدائية التابعة للمحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 2014/9/11، في قضية اقليم دارفور في السودان أمرا بالقبض على عبدالله بندا أبكر نورين لارتكابه جرائم حرب وطلبت من الحكومة السودانية التعاون الدولي معها من أجل تنفيذ مذكرة إلقاء القبض بحق الأخير وتقديمه إلى المحكمة عملا بالمادتين 89 و91 من نظام روما الأساسي.
الخاتمة
تم تقسيم الدراسة إلى قسمين، حيث تناولنا في القسم الأول مفهوم جرائم الحرب وتبيان أركانها ومن ثم تمييزها عن غيرها من الجرائم الدولية كما تتطرقنا الى صلاحية القضاء الدولي في النظر بجرائم الحرب.
وفي القسم الثاني تناولنا دور المحكمة الجنائية الدولية في الحد من جرائم الحرب الدولية مع تبيان الثغرات التي تعتري نظامها ومن ثم بعض الممارسات العملية للمحكمة.
إن جرائم الحرب هي صنف من الجرائم الدولية التي تخرق القانون الدولي الإنساني خلال الحرب بوجه الأشخاص او الممتلكات.
إقتصرت الدراسة على القضاء الدولي الجنائي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة المنصوص عليها في نظام روما الأساسي الذي دخل حيّز التنفيذ في 1 تموز 2002، والجهود المبذولة من قبلها في محاسبة مرتكبي جرائم الحرب.
وبالرغم من كل الثغرات التي تعتري نظامها والتي تم تبيانها خلال الدراسة، وبالرغم من الضغوطات السياسية والقانونية الموجودة في التنظيم القانوني للمحكمة خاصة في سلطة مجلس الأمن، والتي تحد من سلطة المحكمة في ملاحقة إسرائيل بخصوص جرائم الحرب إلا أنها تبقى القضاء الدولي الوحيد القادر على تحقيق المصلحة الدولية وضمان إحترام القانون الدولي الإنساني عبر البدء بمباشرة التحقيق تمهيدا لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب وإنزال العقاب بهم خاصة أن هذه الجرائم لا تسقط بمرور الزمن عليها.وبالتالي من الممكن ان نقترح بعض التوصيات على الشكل التالي:
– إلغاء المادة 16 من نظام المحكمة والمتعلق بمنح مجلس الامن سلطة واسعة بتأجيل النظر في قضايا معينة لمدة سنة قابلة للتجديد.
– إلغاء المادة 8 المتعلقة بالسماح للدول المنضمة او المصادقة تأجيل إحالة قضايا جرائم الحرب لمدة سبع سنوات.
– إلغاء المادة 124 لأن تطبيقها يحد من إختصاص المحكمة.
– تفضيل القضاء الدولي على القضاء الوطني في التصدي لجرائم الحرب والتقدير في إحالة القضية الى المحاكم الوطنية اذا رأت امكانياتها في محاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب وفقا للقانون الدولي الإنساني.
– جعل صلاحية المحكمة الجنائية الدولية يشمل الدول الطرف وغير الطرف.
– السماح للمنظمات الحكومية وغير الحكومية في إحالة القضايا الى المحكمة الجنائية الدولية.
– بذل الجهود في مصادقة جميع الدول على نظام روما الأساسي.
– بإعتبار دولة فلسطين دولة مراقب عليها التوقيع على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من أجل تحريك الدعوى أمامها.
المراجع والمصادر:
1. علي عبد القادر القهوجي، القانون الدولي الجنائي، الطبعة الاولى، لبنان، منشورات الحلبي، 2001، ص 75.
2. عبد الغنى محمود، القانون الدولي الانساني، الطبعة الاولى، دار النهضة العربية، ص 7.
3. المادتين 50 و53 نت اتفاقية جنيف الاولى، المادتين 44 و54 من الاتفاقية الثانية، والمادة 130 من الاتفاقية الثالثة والمادة 147 من الاتفاقية الرابعة.
4. المادة 8 من اتفاقية من نظام المحكمة الدولية الجنائية الدائمة.
5. المادة 38 من دستور محكمة العدل الدولية
6. محمود نجيب حسني، محاضرات في القانون الجنائي الدولي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1960، ص 120.
7. المادة 8 من اتفاقية لاهاي 1907.
8. عبدالله سليمان، المقدمات الاساسية في القانون الدولي الجنائي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ص 109.
9. محمود شريف بسيوني، التفاوض على معاهدة روما، هامش 18، ص 464.
10. أبو الخير أحمد عطية، المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، مرجع سابق ص 259.
11. علي عبد القادر القهوجي، ص 111.
12. علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص 87.
13. علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص 88.
14. علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص 88.
15. نزيه سعيد شلالا، الإرهاب الدولي والعدالة الجنائية، الطبعة الأولى، منشورات الحلبي الحقوقية، 2003، ص 29.
16. علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص 89.
17. أشرف توفيق شمس الدين، مبادئ القانون الدولي الجنائي، الطبعة 2، دار النهضة العربية، 1999 ص 200.
18. عامر الزمالي، مدخل الى القانون الدولي الجنائي، الطبعة 2، المعهد العربي لحقوق الإنسان، تونس، 1997، ص 83.
19. علي عبد القادر القهوجي، ص 102.
20. علي عبد القادر القهوجي، ص 106.
21. ابو الخير احمد عطية، المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، ص 229.
22. ابو الخير احمد عطية، المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، ص 223.
23. علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص 329.
24. علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص 331.
25. صلاح الدين عامر ، اختصاص المحكمة الجنائية بملاحقة مجرمي الحرب، القانون الدولي الانساني، دليل للتطبيق على الصعيد الوطني، الطبعة الاولى، من اصدارات اللجنة الدولية للصليب الاحمر، دار المستقبل، القاهرة 2003، ص 477.
26. Zhu Wenqi, on co – operation by states not party to the International Criminal Court, in International Review of the Red Cross, N. 861, marsh 2006, p.92.
27. Zhu Wenqi, op.cit.pp.92.
28. Daniel Fontanaud, p.61
29. Hubert Verdine, intervention devant le Senat, le 22 mars 2000.
30. Journal de la coalition pou la cour Penal Internationale, N37, novembre 2008.
31. Serge SUR, le droit international penal entre l Etat et la sosciete international. Paris, octobre 2001, www.ridi.org.
32. UN doc.Sc/RES/1564/2004, 18/9/2004
33. قرار 1591 العام 2005 صادر عن مجلس الأمن، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان .
34. تقرير الامين العام عن أداء يرامج الأمم المتحدة للفترة 2004 – 2005, الوثيقة A/61/64 تاريخ 2006/4/20، فقرة 36.
35. قرار الدائرة التمهيدية في المحكمة http://www.icc-cpi.int/
36. تقرير المحكمة الجنائية الدولية للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 69 تاريخ 2014/9/18، الوثيقة رقم A/69/321 ص 15.
37. تقارير المحكمة الجنائية الدولية لسنة 2005.
38. تقرير المحكمة الجنائية الدولية للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة 63 تاريخ 2008/8/22 الوثيقة رقم A/63/323 ص 7.
39. تقرير المحكمة الجنائية الدولية الى الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 67 تاريخ 2012/8/14، الوثيقة رقم A/67/308، ص8
“محكمة” – الأربعاء في 2023/11/22