علم وخبر

مشاهدات من سجن بعبدا للنساء.. عقاب بلا عدالة/فاطمة سكرية

فاطمة سكرية:
في زيارتي إلى سجن بعبدا للنساء، وجدتُ نفسي أمام واقع بائس، واقع تتجسّد فيه المعاناة لا كحالة فرديّة، بل كنظام يوميّ تعيشه أكثر من مئة امرأة خلف الجدران. لم تكن المشاهدات عابرة، بل كانت صفعة على وجه العدالة، وصفعة أكبر على وجه الإنسانية.


لم تكن زيارتي إلى سجن بعبدا للنساء مجرد خطوة في سياق بحثيّ لإعداد رسالة الماجستير في إدارة المؤسسات الاجتماعية، بل كانت غوصًا صادمًا في عمق وجع إنسانيّ، لن تمحوه الذاكرة بسهولة. في سجن بعبدا، وجدت نساءً سُجنّ مرتين: مرّة بقرار قضائيّ، ومرّة ثانية بإهمال الدولة لحقوقهن الأساسيّة كنساء.
مشاهداتي هناك حفرت داخلي غضبًا وألمًا وشعورًا بالعجز. شعور أنّ الإنسان يمكن أن يُنسى بسهولة خلف جدران صامتة، لا يُسمع فيها سوى صوت المعاناة.

دخلتُ السجن أبحث في ملف بحثيّ، وخرجت أحمل في قلبي قصصًا مثقلة بالألم وقهرًا يصعب التعبير عنه بعد لقائي بالسجينات. نساء يعشن في ظروف لا تليق بالبشر: من مياه وأكل ومنامة وبنى تحتية وخدمات صحيّة وغيرهم، ولا أريد الغوص فيها أو ذكر تفاصيلها لأنّها موجعة وحالها معروف للجميع كحال بقية السجون في لبنان. فغياب الدولة في توفير الحدّ الأدنى من الخدمات الصحيّة والغذائية والمائية يُعرّي ضعف البنية التحتية القانونية والإدارية .
ولكن ما لفتني وهو الأهمّ والأخطر، ما لمسته من ظلم قانونيّ صارخ حيث يتجلّى التوقيف الاحتياطيّ الطويل كواحدٍ من أبرز مظاهر انتهاك العدالة . بعض النساء يمضين أكثر من 12 سنة دون صدور أيّ حكم قضائيّ. وأخريات لم تُعقد لهنّ جلسات منذ ثلاث سنوات أو أكثر. سجينة قالت لي: “لح انسى بعد شوي ليش جيت عالسجن”.وأخرى تقول: “أحيانا بكون عندي جلسة ما بروح لأنو ما في آلية نقل”.
كيف يمكن أن نبرّر هذا الانهيار في منظومة العدالة؟
أسئلة كثيرة راودتني كيف تُسجن امرأة دون أن يُمنح لها حق الدفاع عن نفسها؟ كيف يُسمح لذاكرة الانسان أن تتآكل خلف القضبان بلا أمل أو أفق؟
في سجن بعبدا، السجن ليس فقط جدرانًا وأقفالاً، بل هو أيضًا، غياب لروح الإصلاح الفعلي. عدد السجينات بلغ 102 في مبنى صغير. الاصلاح ليس جزءًا من سياسة الدولة، بل هو جهد تطوعيّ من قبل بعض الجمعيات.
فهو مبنيّ على المبادرات وليس السياسات، والبرامج الإصلاحية لا وجود لها إلّا بجهود فريدة من قبل بعض الجمعيات وعلى رأسها جمعية دار الأمل حيث تقدّم أنشطة توعوية ودعم نفسيّ واجتماعيّ وصحيّ على مدار العام ، وباقي المساعدات من قبل جمعيات متعدّدة تأتي على شكلّ نشاط ترفيهي هنا أو محاضرة هناك. لا نظام دائم. لا إستمرارية. لا رؤية واضحة. ولكن كيف لجهة واحدة أن تصلح حال 102 امرأة يعشن في ظروف تفوق طاقة البشر؟ فالسجن إذ يبدو مؤسّسة عقابية محضة، لا تمتلك أي بُعْد إصلاحيّ حقيقيّ مستدام.
وما لفتني، فتيات في عمر الورد سقطن ضحية عالم المخدرات ومعظمهن متعلّمات، يحملن شهادات جامعية، دخلن السجن بسبب المخدرات، غالبًا نتيجة علاقات سامة أو ظروف قاهرة، وما زلن يحلمن بإكمال تعليمهنّ وإصلاح أنفسهنّ حيث لمست في حديثهنّ ندمًا حقيقيًا. إحداهن قالت لي : ” انا مش مجرمة. انا وقعت بعالم المخدرات وغطست فيه. أنا إنسانة ضاعت وبدي كفّي تعليمي بس بدي إيد”. وأخرى تقول: “بدي ارجع لإبني وكفّي علمي، بس حدا يفتحلي الطريق وإلا حأرجع للمخدرات بعد ما اطلع”.
ولكن أين تلك اليد وذاك الطريق؟!
لا أقول هذا الكلام لأثير الشفقة، ولكن جلّ ما أريد قوله انهنّ ارتكبن جرمًا ويجب أن يتحملّن مسؤوليته، ولكن حاكموهنّ بما يرضي القانون والله، وافتحوا أمامهنّ طريقًا للإصلاح والتوبة وعدم الرجوع الى الجريمة، فلا نريد أن تدخل مجرمة لتخرج مجرمة أكبر أو تعود للسجن بجرم أكبر. بهذا الخلل نكرّس لزيادة عدد المجرمين في المجتمع . فإذا صَلُح حال الأمّ صَلُح الأبناء ومن ثَمّ المجتمع .
والمسؤولية في هذا الملف، لا تقع على جهة واحدة، بل هي مسؤولية الجميع، فالسجن حاله حال كلّ المؤسسات في هذا البلد ينهشه الاهمال والفساد. تتعدّد أوجه الخلل فيه بدءًا من غياب العدالة السريعة، إلى الإهمال الخدماتي، وصولًا إلى غياب برامج التأهيل المستدامة.
فالإصلاح الحقيقي يبدأ بإرادة سياسية، وهيكل مؤسّساتي منسّق ووضع خطّة إصلاحية هدفها بناء الانسان عبر التشبيك بين الوزارات كافة، من وزارة العدل ووزارة الصحة والداخلية، إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وعدم رمي الحمل على عاتق وزارة الداخلية، لتكريس البعد الإصلاحي لا الأمني فقط . وينتهي باعتراف مهنيّ بالأدوار الاجتماعية والسعي الى قوننة عمل الاخصائي الاجتماعي في السجون لما له من أهمية في تأهيل السجناء وتعزيز الدعم النفسي والاجتماعي والوساطة الأسرية والتنسيق مع الجهات القانونية والطبية. لتصبح السجون جزءًا من مشروع عدالة إصلاحية وليس أمنية عقابية فقط.
وإلى حين تحقيق ذلك،
إنّه سجن بلا إصلاح، عقاب بلا عدالة ، وبؤس بلا مخرج.
“محكمة” – الأحد في 2025/5/11

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!