الأوهام اللبنانية
كتب النقيب عصام كرم:
ما رئيس لبناني انتخبه اللبنانيون. وما مرّة “كان المجلس النيابي، في الإنتخابات الرئاسية، سيّد نفسه.ومرّات، إفتقد سيادته على نفسه… حتّى في التشريع. ومرّات أكثر في عملية الرقابة على السلطة التنفيذية. فلماذا يريدون أن يختلف الوضع مع ميشال عون؟ ميشال عون رئيساً نتيجة تسوية قسرية بين غالب ومغلوب.غالب أثبت قوّته. ومغلوب تحَامَل على نفسه بأن أثبت برغماتيته. دائماً هكذا.في لبنان. وفي العالم. في الحرب. وفي السياسة. لا غالب ولا مغلوب معادلة اخترعها الغالب إثباتاً لتواضع ظاهري وإرضاء للمغلوب… إرضاءً ظاهرياً وكلاهما… الغالب والمغلوب… يعرفان الحقيقة.لكنّ مقتضى الحال يحملهما على دخول اللعبة الصغيرة لتستمرّ اللعبة الكبيرة… لعبة الحكم.
والميثاقية … مع الأسف… وجه من وجوه هذه اللعبة. مع أنّها… الميثاقية … إنّما كانت ليقوم إنصاف بين الطوائف اللبنانية ولتسود بينهما “عدالة لبنانية”.
والميثاقية ما أُثيرت قضيةً إلاّ يوم يلحق الغبن بطائفة من الطوائف الثماني عشرة التي يتألّف منها لبنان. سامي الصلح كان يحكي عن “حقوق الطائفة”. مع أنّه لم يكن طائفياً. بدليل وقوفه في أحداث 1958 إلى جانب كميل شمعون. والميثاقية تثار، اليوم، لتأمين محاصصة الطوائف،لا من أجل مبادىء يكتبون، مصطنعين هَدْيها، سطور البيان الوزاري، وهم طليعة العارفين بأنّ هذه المبادىء صُوَريّة.
ميثاق 1943 أراد الميثاقية أرقى من هذا المفهوم. أرادها تطويراً للرسالتين 6 و 7 اللتين كتبهما إميل إده،رئيس الجمهورية، إلى داميان دو مارتيل، المفوّض السامي الفرنسي، في سنة 1937 … الرسالتان اللتان لم يُحفظ منهما إلاّ كلمة “6 و6 مكرّر” … الكلمة التي أملت نصّ المادة 95 من الدستور اللبناني.
من فَهِمَ الميثاق… وطبّقه … يستغني عن التلطّي بـ الميثاقية عندما تدعو الحاجة. نبيه برّي أثار الميثاقية متحدّثاً عن العودة إلى صيغة 1943. يعني ماذا؟ يعني تفاهُم الماروني والسنّي على قيادة البلاد … بشارة الخوري ورياض الصلح. تعديلات الدستور، بمحو آثار الإنتداب، كتبها رياض الصلح وأراد كتمانها بشارة الخوري… إلى أن كان ما كان من الإنتداب بعد تصويت المجلس النيابي على التعديلات. فكانت راشيّا. وكانت بشامون. وكان العَلَم اللبناني. وكان الإستقلال في 22 تشرين الثاني بعودة الذين اعتقلهم السينيغاليون بقرار من هيلّلو.
ميثاق 1943 كمّله الطائف بأن أعطى الشيعة… وأعطى السنّة… ولم يُعط المسيحيين. كأنّه جاء، لهذه الجهة، ردّ فعل على تعديلات الدستور في 8 تشرين الثاني 1943… فآلت سلطات المفوّض السامي إلى رئيس الجمهورية. الشيعة في الطائف أخذوا رئاسة المجلس النيابي طوال ولاية المجلس… أربع سنوات. وكان رئيس المجلس يُنتخب كلّ سنة. وقيل … وأنا سمعت هذا … إنّ الشيعة أخذوا، على جوانب النصّ المكتوب، أشياء تصير عُرفاً مع الزمن. منها وزارة المال. ويا ليت حسين الحسيني يحكي. حسين الحسيني الرجل العاقل الرصين العارف بما تقتضي سلامة الجولة اللبنانية.
وزارة المال كانت مثلها مثل كلّ الوزارات … إلى أن تولاّها إميل لحود، الأُستاذ الكبير، البارع النكتة، الباهر المرافعة، الحافظ أرقام الموازنة في ذهنه يمليها على صحافي كان إسمه ميشال الحلوة. إميل لحود جعل لوزارة المال قيمة. أعطاها قيمتها لأنّه عرف كيف يمارس سلطة وزير المال. بعد إميل لحود صارت وزارة المال مطلباً. كان رشيد كرامي يستبقيها لنفسه يوم يترأس الحكومة.
ما وزارة أهمّ من وزارة. القصّة قصّة رجال. أو نساء. قصّة من يعرف كيف يتولّى في هَدْي الدستور والقوانين والأعراف والتقاليد. لأنّ الحكم مجموعة كلّ هذه المرتكزات. وطالبو الولاية ناسان: مستحقّون ونصّابون … والنصّابون أكثر. أنا أذكر أنّ وزارة المال، بعد الطائف، تولاّها ناس من الشيعة… أذكر منهم علي الخليل. ظلّ هذا حتّى جاء رفيق الحريري… فكانت وزارة المال له. وكان له مقعد شقيقته بهيّة في النيابة عن صيدا. مرّةً بعد… يا ليت حسين الحسيني يحكي بمعرفته وصدقه وحرصه على الميثاقية والميثاق.
لا! ما وزارة أفضل من وزارة …إذا نظرنا بمنظار التولّي النزيه.أهمّ وزارتين، عندي،هما وزارة التربية ووزارة الشؤون الإجتماعية.لأنّ الأُوْلى ترعى التنشئة. والثانية ترعى العدالة في المجتمع. تعمل على إزالة الفوارق بين طبقاته.
إزالة الفوارق!إنّها المعركة العالمية، اليوم. هي فاجأت العالم بـ البريكسيت الإنكليزي. وهي فاجأت العالم، مرةً ثانية، بمجيء دونالد ترامب رئيساً على الولايات المتحدة الأميركية. الغرب يعترف بأنّ المجتمعات الغربية مريضة. من الأزمة المالية… أزمة 2008 في وول سْتريت والـ سيتي تكرار لأزمة 1929 لأنّ الرأسمالية تكابرت لا تعترف بعثراتها والسقطات… خصوصاً بعدما جاء من يذكي الفوارق بعولمة فاجرة نشأت مع دونالد ريغن ومرغريت تاتشر في بداية ثمانينات القرن الماضي عبر ليبيرالية مطلقة… فازداد غنى الأغنياء وهُمّشت الطبقات الوسطى. إنّها،اليوم، معركة انعدام المساواة. وانعدام المساواة يعني انعدام الديموقراطية.الصوت الغربي يعلو مطالباً إسهام الجميع في إعادة الإعتبار إلى الديموقراطية.كأنّ الغرب يعود إلى شعارات الثورة الفرنسية:حرّية.مساواة.إخاء.
مجيء دونالد ترمب خوّف أوروبا. مع أنّ فيها دولاً يمينية جدّاً مثل المجر برئاسة فيكتور أُوربان. ذلك بأنّ اللامساواة ترسّخت. وخطر النزوح يزداد. والتهديد التركي الأردغاني بإطلاق النازحين صوب القارّة القديمة لا يُرى إليه بارتياح. والمسألة الإجتماعية تفدح. ويتخلّف النظام التربوي. ويتزايد فقْد الثقة بالنُخب التي تعميها مصالحها. الفكر المعتدل مهدَّد. أُوروبا اليوم تجهد لـ “اختراع” أُوروبا الغد… أُوروبا الطموح الواقعي المتطلّع إلى حماية أمن المواطن وتحسين حالته المعيشية وإزالة الفوارق الطبقية ورعاية الإنماء الذكي العادل المنصف. وخصوصاً التحديث المستقبلي، فيكون لـ أوروبا سياسة خارجية وسياسة دفاعية… وعلى الأخصّ أنّ اُوروبا مدعوّة إلى تلاقٍ في آذار 2017 لتستذكر أنّ معاهدة روما صارت بنت ستّين سنة. ففي النفسية الأُوروبية تَوْق إلى إيجاد شيء إسمه “الحقوق والحرّيات” في القرن الحادي والعشرين.
كلّ هذا يساور الشعور الأُوروبي خوفاً من الشعبوية.لأنّ الشعبوية، مثل العولمة، تعني سقوط الديموقراطية. المهمّشون جاؤوا بـ دونالد ترمب لأنّهم أرادوا الخلاص من الـ إستا بلشمنت الذي تمثّله هيلاري كلينتون. فهل يمكن إنصاف المهمّشين على يد ملياردير؟ الثورة الفرنسية… ثورة 1789 كانت لإطاحة ملك… فجاءت بإمبراطور. والإمبراطور ما تنازل أبداً عن مكاسب الثورة…خصوصاً ضفّة الرين وبلجيكا.
على الحاكم، حتّى ينحج، أن يؤلّف بين الليبيرالية العاقلة ومبادىء العدل الإجتماعي. مثلما على الفيلسوف أن يؤلّف بين الحداثة وتقاليد “الأنوار” … من جان جاك روسّو إلى جان بول سارتر. لأنّ الحاكم المعتمد سياسة التخويف لن يذهب بعيداً. ظلّ اليمين الفرنسي بعد ديغول يخوّف الفرنسيين من اليسار حتّى انتخبوا فرانسوا ميتيران… فأنهى يساريته بيمينية طبعت ولايته السباعيّة الثانية. والتخويف من شعبوية ترمب قد تعزّز خطوط مارين لوبين.
* * *
ميشال عون تولّى. هنيئاً له! وهو حرٌّ في أن يأتي بمن يشاء يتعاون وإيّاه على تسيير شؤون الحكم. على أن يفتح باب المساءلة. أشياء كثيرة مطلوبة. من الأشياء البسيطة… تأمين الماء والكهرباء ورفع الزبالة من الطرقات… إلى الأشياء المهمّة، وهو قد جاء مع حلفاء ما أحد منهم يستطيع القول إنّ حليف حليفي حليفي. وفي طليعة الأشياء المهمّة قضيّة المسيحية المشرقية بعدما صار المشرق العربي ساحةً مستباحة للتكفيريين المتطرّفين… على ألاّ يمسّ ذلك المعادلة العادلة القائلة بشرعية قيام مقاومة في وجه الإحتلال. مع الحرص على أن تكون بندقية المقاومة موجّهة إلى العدوان لصدّه.
* * *
ميشال عون معروف بأنه يُستثار، فيغضب. فاستثاروه قبل أن يصير رئيساً.
إستثاروه ليسبّب إرجاء الإنتخاب. لكنّ الرجل تحامل على نفسه واحتمل… إلى أن انتُخب، ولو في الدورة الثانية، رئيساً.ومعروفٌ النائب الذي رمى الورقتين مكرِّراً. ومعروفٌ من قال له أن يفعل.
قوّة الأعصاب نعمة حلّت على ميشال عون في جلسة 31 تشرين الأوّل 2016.
الميثاقية قَدَر اللبناني العائش على “الحمايات” التي نشأت في ظلّ الحكم العثماني . فلنحافظ عليها بشرط ألاّ تُحفظ كرامة على حساب كرامة. ولا يتعزّز حقّ على حساب حقّ. ولتبق لـ الدستور مهابته. فلا يتعدّل عندما تقضي الحاجة. وليكن قانون انتخاب عادل يتمتّع بالدستورية… فلا تعدّل أحكامه كلّ أربع سنوات… وفي آخر ربع ساعة.
* * *
نحن، في نقابة المحامين، حَرِصْنا دوماً على الميثاقية. ومؤسف ألاّ تكون الإنتخابات الأخيرة جاءت بمحام شيعي عضو مجلس نقابة. نقابة المحامين نقابة وطنية. أنا ما اْنتخبت، يوماً، إلاّ مسيحيَيْن ومسلَميْن. ويوم كنت نقيباً، وكانت الحالة الأمنيّة تحول دون حضور المحمّدَيْن… محمّد الساحلي ومحمّد شهاب… كنت أُعطّل الجلسة. وعندما كان يُقال لي إنّ النصاب متوافر، كنت أقول: هذا هو النصاب العددي. أنا أُريد توافر النصاب الوطني.
وحقيقةٌ بعد. هي أنّ زملائي الشيعة كثّروا عدد مرشّحيهم فتوزّعت الأصوات.
نقابة المحامين واحة يرعاها ميثاق شرف ما أخلّ به المحامون. فلنترك لهم حرمتهم في الإنتقاء، وهم يعرفون كيف يستفتون ذمّتهم في طريقهم إلى صندوق الإقتراع.
* * *
الوهم اللبناني.لا غالب ولا مغلوب وجه من وجوهه. وإلغاء الطائفية حكاية من حكاياته.على أنّي لا أصل إلى القول إنّ العيش المشترك… والنصاب الوطني… يمكن أن يكون واحداً من هذه الأوهام!.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 12 – كانون الأوّل 2016).