عبد الله قبرصي شيخ الفكاهة والعنتريات.. لاحق فرنجية ومعوّض بحادثة مزيارة/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
هو شيخ الفكاهة والعنتريات بامتياز، وساقي مداعبات يسكبها في مجالسه بروح مرحة، ونَفَس ذوّاق، فينتشي سامعها طرباً ولا يكتفي، بل يظلّ يستزيد ولا يرتوي، ويطعّمها بأحاديث البطولات والمبالغات، فتظنّ نفسك للوهلة الأولى، في حضرة عنترة أو جبّار خارج من رحم التاريخ، مع أنّ قامته القصيرة وجسده النحيل لا يوحيان بالقوّة والعظمة على الاطلاق، ولكنّه مناضل جريء من الصفّ الأول، بلغت به إستماتته في الدفاع عن عقائده الحزبية ووطنه وأرضه وتحدّي الانتداب الفرنسي، إرتداءَ التشرّد، والفرارَ من الملاحقة سرّاً وجهاراً، وليلاً ونهاراً، ودخولَ السجن مراراً، وكان أوّلها في ليلة عرسه الموعود، من دون أن يتأثّر، أو ينحني، أو يلين، أو تتفتّت عزيمته وكبرياؤه، فحُقّ فيه القول إنّه شاعر المناضلين المُطَارَدين.
مدجّن القانون
وهو حقوقي لامع دائم الوقوف إلى جانب الحقّ، حتّى ولو كان مدعى عليه. بارز أعلاماً كباراً في القانون وبزّهم. وتشهد له المحاكم بطول باعه في تدجين قانون العقوبات بما يتلاءم ومصلحة موكّليه وكأنّه كان ينطق بالحكم قبل أن تتفرّد هيئة المحكمة بلفظه، إدانةً أو براءةً.
إنّه عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله قبرصي الذي ولد في بلدة التآلف الإسلامي المسيحي، السنّي الأرثوذكسي، دده من أعمال الكورة في شمال لبنان وذلك في 27 تشرين الأوّل من العام 1909. وقد شاع خطأ أنّه ولد في العام 1910 وذكر ذلك في الجزء الثالث من كتابه” عبد الله قبرصي يتذكّر”، ولكنّه يؤكّد أنّه من مواليد العام 1909 ويقول:” عندما نظم لي خالي حنّا الزاخم بطاقة الهوّيّة ذكر عمري الحقيقي وهو أنّني مولود في 27 تشرين الأوّل من العام 1909، وعندما عاد والدي من جزيرة كوراساوا في العام 1957، سألني في أيّ سنة سجّلت ولادتي؟ فقلت له: سنة 1909، فانتفض غاضباً قائلاً:” أنا تزوّجت أمّك في آخر العام 1909، فكيف تكون مولوداً في هذا العام. أنت مولود في العام 1910، فاذهب وصحّح هذا الخطأ وإلاّ فإنّك تكون قد وافقت على أن تكون أمّك قد حملت بك قبل أن نتزوّج. وهكذا ذهبت وأقمت دعوى قضائية وسجّلت ولادتي في العام 1910، غير أنّني لم ألبث أن أقمت دعوى ثانية أعدت فيها التاريخ عاماً إلى العام 1909، لأنّه عين الصواب”.
اليتم منذ الصغر
شاء القدر أن ينشأ عبد الله قبرصي يتيماً منذ الصغر. فبعد ثلاثة أشهر من سفر والده إلى جزيرة كوراساوا في جزر الكاريبي، وهو في الثالثة من عمره تقريباً، توّفيت والدته سعدى يعقوب عبد المسيح الزاخم، فعاش في كنف جدّيّه لأمّه يعقوب الزاخم ونسطة شيخاني وخاله حنّا، وفي منزل عمّه مختار البلدة ديب قبرصي، فربّوه وعوّضوه بعض الحنان المفقود، والكثير من التربية الصالحة.
مدرسة الإسكافي
تعلّم قبرصي التهجئة ومبادئ القراءة في البدء، لدى الإسكافي في قريته شحادة عبيد، ثمّ انتقل إلى المدرسة العثمانية الرسمية في القرية، فمدرسة ياسمين الحاج في بلدة بترومين، ومدرسة الخوري يوسف في بلدة برسا، ومدرسة القلمون، ومدرسة البلمند حيث كان تلميذاً داخلياً، وختمها في مدرسة الصفاء.
تتلمذ قبرصي في مدرسة دير البلمند على يد الشاعر نعمان نصر من بلدة قلحات في قضاء الكورة، وتعلّم منه الاهتمام باللغة العربية والشغف بآدابها وذلك على مدى أربعة أعوام بين العامين 1921 و1924. وفي هذا الصدد يقول:” كان نصر، مُؤسِّس مدرسة الصفاء لاحقاً، من النوابغ، لأنّه استطاع أن ينال جائزة مجلّة” المرأة الجديدة” لصاحبتها جوليا طعمة دمشقية(1882-1954) متقدّماً على شعراء لبنان بقصيدة عن الأمومة دفعته قدماً في عالم الشهرة والأضواء. وبتاريخ 24 كانون الثاني من العام 1924، وقع أمامنا، نحن تلامذته، عن كرسيّه داخل الصفّ، مصاباً بنوبة قلبية أفقدته الحياة، وقد حزنت لفراقه كثيراً”. كانت طعمة دمشقية المولودة في أسرة مسيحية والمتزوّجة من مسلم، داعمة لتحرّر المرأة العربية، واتجهت نحو الصحافة وأطلقت مجلّتها المذكورة في اليوم الأوّل من شهر نيسان من العام 1921 لتنشد الروح والتربية الاستقلالية كما صدّرت صفحتها الأولى، ولتكون أوّل مجلّة نسائية عربية في هذا المضمار، وقد استمرّت لغاية العام 1926.
درس البكالوريا على نفسه
درس قبرصي القسم الأوّل من شهادة البكالوريا في مدرسة الفرير في مدينة طرابلس في العام 1925، وما لبث أن ترك قريته ونزح إلى العاصمة بيروت بسبب العوز الذي طوّق معيشته وضربها في أعماقها حتّى سقطت تحت سياطه اللاهبة، فتخلّى عن المدرسة شكلاً، ولكنّه اقترب أكثر من طلب العلم والمعرفة، وانكبّ على نفسه لتقصّي دروس القسم الثاني من شهادة البكالوريا ونجح في مسعاه.
واضطرّ إلى بيع الأملاك والأرزاق التي ورثها من ذويه، وانتسب إلى معهد الحقوق الفرنسي في لبنان والمتفرّع عن معهد ليون الفرنسي لإكمال دراسته والتخصّص في القانون، فتخرّج فيه بتاريخ 18 تشرين الثاني من العام 1932 حائزاً إجازة في الحقوق بمعدّل جيّد، وموقّعة من وزارة المعارف الفرنسية، وليصبح أوّل من ينال شهادة الحقوق في قرى القلع الثلاث عشرة في قضاء الكورة وهي: بترومين، كفرحزير، عفصديق، فيع، قلحات، بدبا، برصا، دار العين، رأسمسقا، بطرام، عابا، بشمزّين، ودده مسقط رأس قبرصي نفسه.
من رفاقه في معهد الحقوق الفرنسية رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق شارل حلو(1913-2001)، ومدير عام وزارة العدل القاضي الأسبق شفيق حاتم، والصحفي وجيه محمود الحفّار(1912-1969). ومن أساتذته كبار الحقوقيين والقضاة الألمعيين نجيب أبو صوّان أوّل رئيس لمجلس القضاء الأعلى بين العامين 1919 و1932 ، وشكري قرداحي ثاني رئيس للمجلس نفسه بين العامين 1932 و1943، وإميل تيّان الرئيس الرابع لهذا المجلس بين العامين 1948 و1949، والذي” كنت مُعجباً به أيّما إعجاب”.
معقّب معاملات ومحامي
عمل عبد الله قبرصي في مطلع شبابه معقّب معاملات في مكتب نقيب المحامين في بيروت والوزير الأسبق إدمون إلياس كسبار(1903-1989)، فاستفاد كثيراً من هذه الوظيفة التي عرّفته إلى القضاة والمحامين وقصر العدل القديم الكائن آنذاك قرب كنيسة الآباء الكبّوشيين في محلّة باب إدريس في وسط بيروت والذي كان في الأساس، مقرّاً عسكرياً للدولة العثمانية، وتحوّل في عشرينات القرن العشرين إلى بيت للعدالة إلى حين تشييد قصر العدل في محلّة بدارو في العام 1964.
كما أنّه اكتسب خبرة من وجوده إلى جانب كسبار واشتغاله تحت جناحيه، خصوصاً وأنّه لم يكن قد تخرّج، بعد، في معهد الحقوق الفرنسي.
تدرّج قبرصي في مكتب المحاميين الشقيقين إبراهيم وفهيم جرجس الخوري قبل أن يصبحا خالي زوجته جورجيت بربر إبنة بلدة بتعبورة في قضاء الكورة. وفهيم الخوري هو أحد مؤسّسي حزب”عصبة العمل القومي” مع الرئيس تقي الدين الصلح (1908-1988)، والمجاهد والصحفي علي ناصر الدين(1894-1974)، والمحامي والسفير والصحافي كاظم منح الصلح(1909-1976)، وفؤاد نكد، والدكتور والمحامي عبد الرزاق الدندشي(1899-1935)، وصلاح بيهم، والأديب قسطنطين عبدو يني(1885- 1947)، وكان عضواً في مجلس نقابة المحامين في بيروت.
إنتسب قبرصي إلى نقابة المحامين في بيروت بتاريخ 29 كانون الأوّل من العام 1932 وأُعطي لاحقاً، البطاقة المهنية ذات الرقم 1093 في جدول النقابة العام، وظلّ يمارس المحاماة ويتنقّل بين المحاكم ودوائر قضاة التحقيق في مختلف قصور العدل ويقدّم المذكّرات ويتبادل اللوائح مع أطراف النزاع في الدعاوى، ويدلي بالمرافعات من دون تعب أو ملل مدّة تسعة وستّين عاماً، وتحديداً حتّى يوم السبت الواقع فيه 6 أيّار من العام 2001 حيث توقّف قسراً، وهو في سنّ الثانية والتسعين.
المرافعات صاخبة والمحكمة تصغي
شاهدت عبد الله قبرصي مراراً في قصر عدل بيروت يترافع أمام محكمة الجنايات، وهو كهل، علماً أنّ بصره شحّ وسمعه خفّ بعدما أصيب بفقدان السمع في أذنه اليمنى في العام 1977، وكان ينتظر دوره في الباحة الخارجية لقاعة المحكمة في الطبقة الثانية من قصر العدل، يدخّن سيجارة، أو يروي حادثة أو طرفة، وعندما يبدأ في مرافعته، تدخل المحكمة في صمت رهيب مصغية لكلامه وحججه وعذوبة لغته العربية الفصيحة التي صارت نادرة جداً في مرافعات المحامين الشفهية، وانتفت، ويا للأسف، لمصلحة الكلام العامي المتفلّت من الأصول اللغوية والأدبية الراقية، بسبب عدم الإحاطة الشاملة والوافية بجمالية اللغة العربية، ووجود ضعف معيب في الإلمام برقصات قواعدها الراسخة في أمّهات كتب النحو والتراث.
نظم الشعر في المدرسة
لم يترافع قبرصي شعراً في الدعاوى المعروضة عليه، ولم يكتب حرفاً، ولم يقل بيتاً واحداً، في أيّ منها طوال مواظبته على مهنة المحاماة، بل صوّب سهام قريحته منذ أن تفتّحت في العاشرة من عمره في مدرسة البلمند، نحو الغزل والوطنية والثورة والإنسانية. ونظم أوّل بيت من الشعر في العام المدرسي 1921-1922 في هذه المدرسة التي كان من رفاقه فيها الأديب والصحفي فؤاد سليمان(1911-1951)، والدكتور عفيف مفرج الذي أصبح لاحقاً نقيب الأطباء في لبنان مرّتين في دورتي العامين(1961-1962) و(1965-1966).
واستهوت الخطابة قبرصي وبرع في تطريزها منذ أيّام الدراسة الأولى حيث كان معلّموه يخْتَارونه من بين أقرانه ليلقي خطاباً أو قصيدة. ولما شبّ، ظلّ لألق الخطابة مكانةٌ في روحه، فراح يرأس المظاهرات الطلاّبية، ويُسْمع المحتشدين فيها قصائد ثورية تُلْهب الصدور بالحماس الوطني الصرف. وقد ضاع بعضها بفعل النسيان، وتشتّت بعضها الآخر في متون الصحف التي دأبت على نشرها باستمرار من دون أن يعمد قبرصي إلى الاحتفاظ بنسخة عنها، أو يخطر على باله أن يسطّرها في قرطاس.
ملاحقة فرنجية ومعوّض
وترافع قبرصي في دعاوى شهيرة لاقت صدى واسعاً في المجتمع وتداولتها ألسن الرأي العام ومنها: حادثة مزيارة التي وقعت بين عائلتي فرنجية والدويهي في العام 1957 على إثر إطلاق نار في كنيسة هذه البلدة الشمالية، فسقط عدد كبير من القتلى والجرحى من الجانبين، ممّا دعا مجلس الوزراء إلى إحالتها، بمرسوم، على المجلس العدلي، وهو أعلى هيئة قضائية في لبنان ولا تقبل أحكامه الطعن والنقض وأيّ طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية، وإنّما إعادة المحاكمة فقط بحسب التعديل الحاصل لبعض مواد قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني في العام 2005.
وكان المجلس العدلي يومذاك برئاسة القاضي والوزير لاحقاً بدري المعوشي الذي ارتأى لضرورات الجريمة أن يعقد جلسات المحاكمة يومياً وبشكل متواصل، فدامت المحاكمة خمسة عشر يوماً متتالياً، وأبدى قبرصي مرافعته عن موكّليه من آل الدويهي ثلاث ساعات قبل الظهر وساعتين بعد الظهر، وطلب إنزال عقوبة الإعدام بكلّ من سليمان قبلان فرنجية(1910-1992) ورينيه معوّض(1925-1989)، فحكم على الأوّل بعقوبة الأشغال الشاقة مدّة عشر سنوات غيابيّاً لتواريه عن الأنظار في سوريا وفراره من وجه العدالة قبل أن يصدر عفو عنه، فيما أُعْلنت براءة الثاني. واللافت للنظر أنّ هذين الشخصين أصبحا في ما بعد رئيسين للجمهورية اللبنانية، فرنجية بين 17 آب من العام 1970 وأيلول من العام 1976، ومعوّض بين 5 تشرين الثاني من العام 1989 و22 تشرين الثاني من العام نفسه بسبب اغتياله.
وكان الوزير والنائب والمحامي مخايل الضاهر ونقيب المحامين في بيروت بين العامين 1968 و1970 فايز حدّاد وكيلين عن آل فرنجية.
التوكّل بقضيّة مقتل عسيران
كما وقف قبرصي إلى جانب رئيس مجلس النوّاب عادل عسيران(1905-1998) في قضية مقتل إبنه عبد الله غدراً في منزله في مدينة صيدا في العام 1970 على يد سميح الزين الذي سيق إلى المحاكمة أمام المجلس العدلي برئاسة القاضي إميل أبو خير ونال بتاريخ 22 كانون الأوّل من العام 1971 حكماً بالاعدام، ولكنّ هذه العقوبة لم تنفّذ بحقّه، واستغلّ نشوب الحرب ليهرب من السجن مع قوافل السجناء الفارين، ثمّ صدر عفو خاص عنه مذيّل بتوقيع رئيس الجمهورية إلياس الهراوي(1926-2006) الذي بقي في الحكم تسع سنوات بين العامين 1989 و 1998. ومن المفارقات أنّ سميح الزين صار في ما بعد رئيساً لبلدية حارة صيدا.
الدفاع عن دروز جبل العرب
وذات يوم من العام 1944، لم يعد يذكره قبرصي، جاءه صديقه حامل الصفات الثلاثة الصحفي والمحامي والقاضي المرحوم سليم أبو اسماعيل، وكلّفه بالترافع عن إثني عشر شخصاً من طائفة الموحّدين الدروز من جبل العرب في سوريا متهمّين بمقاتلة الانتداب الفرنسي ومحاربة جيشه في الثورة الكبرى التي نشبت في العام 1925، وكانت قد صدرت بحقّهم أحكام غيابية بالإعدام عن المجلس العدلي المختلط، واتفق معه على إعطائه مكتبه الكائن في بناية العبد في شارع المعرض في حال حصل على أحكام مخفّفة لهؤلاء، ونجح قبرصي في أداء مهمّته وخفّضت العقوبات ووفى أبو اسماعيل بوعده وتنازل له عن مكتبه الذي طوّره وجنى منه أموالاً إعتاش منها.
إحراق مرسوم الزعامة
إذا كنت تريد أن تتعرّف إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي فاجلس إلى قبرصي، واغرف من ينابيعه الفيّاضة، فهو يجسّد تاريخ هذا الحزب الذي نشأ سرّيّاً في العام 1932، ونما على الرغم من كلّ المضايقات والانشقاقات الداخلية حتّى صار من أركان الدولة وأهل السلطة في تسعينيات القرن العشرين. ولكنْ حذار أن”يورّطك” قبرصي في مبادئه، فهو داعية ناجح، متوقّد الذهن، وسريع البديهة والخاطر، و” الأخطر” من هذا كلّه، هو أنّه مغرم بمؤسّس الحزب أنطون سعادة(1904-1949).
إنتمى قبرصي إلى هذا الحزب في أواخر شهر أيلول من العام 1934 وأقسم اليمين أمام سعادة ونعمة ثابت الذي كان يشغل منصب رئيس مجلس العمد وعميد الداخلية وطرح الأسئلة المنصوص عليها في النظام الداخلي للحزب عليه.
تولّى قبرصي مسؤوليات مختلفة في هذا الحزب هي: مسؤول عمدة الدعاية والنشر بين العامين 1934 و1936 والتي غُيّرت تسميتها لاحقاً فصارت عمدة الإذاعة وهو بذلك أوّل عميد للإذاعة في الحزب، وزعيم بالوكالة من 23 تشرين الثاني من العام 1935 ولغاية أواخر العام 1936، وقد أناط به هذه الزعامة الموقّتة سعادة بموجب مرسوم أصدره في سجن” الرمل” وأخفاه خشية أن يُنْتزع منه ويُمزّق.
وفي هذا الخصوص، يخبر قبرصي أنّ “سعادة سلّمني مرسوماً مكتوباً بخطّ يده عيّنني فيه زعيماً بالوكالة مع كلّ صلاحيات الزعامة، وبعدما أخرجتني نقابة المحامين من السجن، أصدرتُ بدوري مرسوماً عيّنت فيه لجنة إدارية عليا تتولّى إدارة الحزب طوال غياب الزعيم والعمد، وأشرفتُ على عملها، وعندما اطّلعت عروسي ونحن عائدان من شهر العسل في مدينة اللاذقية على مرسوم الزعيم بالوكالة، كادت تُجَنّ، فأوقفت السيّارة وأحرقت المرسوم”.
مسؤوليات بالجملة
وتابع قبرصي رحلته داخل الحزب وتحرّك في غير مسؤولية فحلّ رئيساً لمجلس العمد، ورئيساً للمكتب السياسي، ورئيساً للشعبة السياسية اللبنانية، وعميداً للثقافة، ورئيساً للمجلس الأعلى لمدّة خمس سنوات من 9 كانون الثاني من العام 1955 وحتّى العام 1960، وعميداً للقضاء في دورات عدّة آخرها في العام 1962. ويقول قبرصي” كانت حياتي الحزبية طويلة في القيادة بحيث إنّني لا أذكر أنّني كنت عضواً من دون مسؤولية إلاّ فترات قصيرة لا تُذْكر، واستمرّيت عضواً في المجلس الأعلى حتّى أحلْتُ نفسي على التقاعد في العام 1998″.
السجن مع سعادة
ومن المصادفات الخيّرة، أنّ قبرصي عرف بوجود الفتاة التي هتف قلبه لها وأحبّها سرّاً وهي جورجيت نخوّل بربر في منزل سليم أبو اسماعيل في طرابلس، لأنّها كانت صديقة زوجته في المدرسة، “فقصدْتُها على جناح البرق وسهرتُ معها واتفقنا على الزواج وأصبحنا عريسين في العام 1935″، ولكنْ من دون أن ينتعش كثيراً بهذه البشارة، إذ إنّه أُدْخل السجن قبل أن يتسنّى له أن يحضن عروسه ويشرب معها كأس الوفاء وفرح اللقاء، “فقد كنت عائداً إلى مكتبي عندما فاجأني مدير عام الأمن العام المعيّن من قبل الانتداب الفرنسي الأمير فريد حارس شهاب(1905-1985) والمفتّش في الأمن العام نديم أبو عرّاج وانقضا عليّ واقتاداني إلى سجن” الرمل” بتهمة الاعتداء على أمن الدولة الداخلي والخارجي من خلال الانتماء إلى تنظيم سرّيّ، وأُحلْتُ مع رفاقي على المحكمة المختلطة في قصر العدل القديم برئاسة القاضي الفرنسي جان روشا الذي تكوّنت لديه القناعة بأنّنا لا نشكّل حزباً إرهابياً وليست بحوزتنا أسلحة ولم نكن نخطّط للقيام بثورة واستلام الحكم، فتحوّلت التهمة الرهيبة من جناية إلى جنحة وهي الانتماء إلى حزب سرّي”، وحُكم على الزعيم سعادة بالسجن ستّة أشهر، وعلى قبرصي والعُمد نعمة ثابت، والمؤرّخ والدكتور زكي النقّاش(1898-1988)، وجورج صليبي، ومأمون إيّاس، بالسجن مدّة شهرين مع وقف التنفيذ وخرجوا من السجن في 24 تشرين الثاني من العام 1935.
التآلف مع السجن
أدخل قبرصي السجن مراراً حتّى تآلف معه واعتاد وحدته ووحشته وقساوة قضبانه الحديدية وبرودة جدرانه، فحفر إسمه في سجون”الرمل”، و”القلعة”، و”الميّة وميّة”، وتجلبب بزيّ الحقول، وتستّر في قرى قضاءي الكورة والبترون للاختباء من الحملات والمداهمات، وذلك خشية الايقاع به، ومن عمليات الدهم تلك أنّ فؤاد صبّاغ زوج مهيبة المنذر إبنة الشاعر والخطيب والمحامي والنائب إبراهيم ميخائيل المنذر(1875-1950)، “قاد إحدى هذه الحملات ضدّي وانتهت باستسلامي بعد تهديد الفرنسيين للأهالي بالأذى، وساقوني إلى معتقل”الميّة وميّة”.
وتشرّد قبرصي سنوات وأبعد عن عائلته ووطنه بسبب التزامه العقائدي، ولكنّ ذلك لم يُثْنه عن التعمّق بالحزب السوري القومي الاجتماعي والتشابك معه روحاً وجسداً.
وتمكّن خلال اعتقاله في سجن” الميّة وميّة” من تأليف كتاب “مصرع السُمَّنة”، وكان من أصدقائه في هذا السجن علي ناصر الدين، والنائب معروف سعد01910-1975)، والوزير والنائب ناظم القادري(1914-1989)، والحقوقي والصحفي والمؤرّخ واللغوي عارف أمين النكدي(1887-1975) الذي ترأس مجلس شورى الدولة في سوريا بين العامين 1946 و1948 مع أنّه لبناني.
ومن رفاق قبرصي في الحزب في السجن المذكور الأديب جورج مصروعة(1910-1989)، وأسد الأشقر(1908-1986) الذي ترأس الحزب لاحقاً، ويوسف منصور الدبس.
طرائف وقصائد
لا يتوقّف قبرصي عن إطلاق الطُرف واللطائف، واستخراج القصص من” أرشيف” ذاكرته التاريخية، على الرغم من أنّ جسده آخذٌ في الضمور. ولا يتأخّر في إسماع مجالسيه والمحيطين بسريره نتفاً من أشعاره الغزلية وكأنّه نظمها قبل لحظات، فلا تردّد في إلقائها ولا تلعثمٌ ولا توقّفٌ لاسترجاع مقتطفات أو محطّات أو كلمات، حتّى أنّ نَفَسَها لا يقاربه إلاّ الشباب. يقول في قصيدته”إلى مجهولة”:
“أتيتِني في الزمنِ الأخيرِ
شفّافةً أوهى من الحريرِ
بريئةً مثل الصبا خاطفةً
مثلَ الصدى والسهْمِ والنفيرِ
بعيدةً كالجردِ في شُموخها
قريبةً كالله في الضميرِ
تسيرُ في مواكبٍ مسحورةٍ
منَ الغوى والغنجِ والعبيرِ
رشفتُ من شهدِك بعضَ حُلْوهِ
من فمِكِ المُكوَّرِ الصغيرِ
لأرتوي وأينَ لي أنْ أرتوي
إلاّ من الضبابِ والأثيرِ
أتيتني والعمرُ في أفولِه
بعد نضوبِ الماءِ في الغديرِ
أتيتني والقلبُ في غلوائِه
يخفقُ بالأوهامِ والغرورِ
هل تقبلينَ النارَ في خُمودِها
والحبُّ في بستانِه المهجورِ؟”.
ويُتْبع القصيدة بأخرى ومن الغزل الشفّاف الذي يأتي على كبر موشّى بحسرة على الشباب، فيقول “إلى راغدة”:
“أعدتِ لي قريحتي يا عائدةْ
فزغردَ الشعرُ لعيني راغدةْ
تألَّقتْ في لُطفها وحُسْنها
فانْحَنَتِ الرُؤوسُ نشوى ساجدةْ
لم يبقَ من عمريَ إلاّ أنْ أرى
وجهَكَ المحبوبَ بالمشاهدةْ”.
عندما ينتهي من كلامه يردف:” لم تعد هناك قبلات” ويضحك كثيراً. وتلفت نظره إلى أنّ عجز البيت الأخير يعاني اختلالاً في الوزن وتحديداً في مطلعه” وجهك”، ويحتاج إلى تصحيح، فيردّ ضاحكاً كعادته:” البيت جميلٌ حتّى ولو كان مكسور الوزن”. والحقّ معه، فالمهمّ الفكرة والصورة ولو طليقتين من أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي والتي لا تعتبر مقياساً موحّداً لنجاح القصيدة أو فشلها وضعفها.
قبرصي الصحفي
إشتغل قبرصي في الصحافة، فأنشأ بتاريخ الأوّل من شهر كانون الثاني من العام 1966 مجلّة” الندوة” وهي شهرية، سياسيّة، إجتماعيّة، إقتصاديّة، باللغتين العربية والإسبانيّة، في مدينة كاراكاس في فنزويلا خلال إقامته فيها هرباً من الملاحقة، وذلك ” لغرض مادي صرف وتأمين مورد رزق أحيا بوساطته معزّزاً ومكرّماً” وكان من أبرز كتّابها الأديب والمؤرّخ إبراهيم طنّوس.
واستمرّت المجلّة ستّ سنوات، أيّ لغاية العام 1972 وليس العام 1971 كما ذكر يوسف أسعد داغر في كتابه” قاموس الصحافة اللبنانية 1858-1974″ الصادر في العام 1978. وقد صدر من هذه المجلّة إثنان وسبعون عدداً فقط محفوظة وموجودة في مؤسّسة المحفوظات الوطنية في فنزويلا.
دخل قبرصي في ” اتحاد الكتّاب اللبنانيين”، وانتخب عضواً في الهيئة الإدارية العليا مدّة عشر سنوات، وانضوى في جمعية” أهل القلم” التي ضمّت نخبة من الشعراء والأدباء والكتّاب اللبنانيين.
بتاريخ 14 تشرين الثاني من العام 1992، أقامت نقابة المحامين في بيروت حفلة تكريمية في فندق” البستان” في بلدة بيت مري في قضاء المتن الشمالي، للمحامين الذين أمضوا أكثر من خمسين سنة في ممارسة المهنة، وكان قبرصي من بين المُكرَّمين، وقلّدهم النقيب سمير أبي اللمع الميدالية النقابية الذهبية.
إبنتي تزوّجته شهيداً
تزوّج قبرصي من جورجيت بربر في 24 تشرين الثاني من العام 1935، ورزق منها خمسة أبناء هم: المحامي صباح، ورجل الأعمال ضياء، والدكتور الجامعي عاطف، وضحى أرملة سامي إبراهيم حدّاد، وحنان أرملة مسؤول العمليات الفدائية في الأراضي المحتلّة الضابط الفلسطيني مأمون مريش الذي اغتاله الإسرائيليون في العاصمة اليونانية أثينا في 20 آب من العام 1983، حيث “قلت في رحيله عبارتي الشهيرة: إبنتي تزوّجته شهيداً”.
عاش قبرصي مع زوجته ثلاثة وثلاثين عاماً إلى أن توفّيت في كندا في العام 1968 ” فخسرت فيها سنداً مهّماً في حياتي” كما يقول بحسرة.
وضع قبرصي سبعة مؤلّفات هي: “مصرع السُمَّنة” في العام 1943، و”وحي الظلام”(شعر) في العام 1945، و” نحن ولبنان” في العام 1954، و”عبد الله قبرصي يتذكّر”( ثلاثة أجزاء، أوّلها صدر في العام 1982 وآخرها في العام 1996)، و”قبل الطوفان وبعده”(شعر ونثر) في العام 2001.
توفّي عبدالله قبرصي يوم السبت الواقع فيه 6 تشرين الأوّل من العام 2007، وشيّع بعد ثلاثة أيّام، إلى مثواه الأخير في مسقط رأسه بلدة دده في قضاء الكورة.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 8 – حزيران 2016)