مقالات

هل لبيروت أمّ الشرائع أن تظلم مبدعيها؟/جهان الحايك

الدكتورة جهان الحايك:
لا يمكننا أن نسمع عن الحكم الصادر في قضيّة الفنّانين اليسا وزياد برجي إلّا أن نستحضر ضميرنا ونحكّم عقلنا ونستنبش جعبتنا القانونية علّنا نجد ما يفسّر دهشتنا واستهجاننا.
الواقع أنّه للملكية الفكرية عالم خاص بين القوانين، لأنّها ترتبط بأقدس قدسيات الإنسان أيّ بإنتاجه الفكري. فالمبدع حين يبتكر عملًا يكون قد أفاض بما أغدق الله عليه من موهبة ويكون العمل بذلك بالنسبة له إمتدادًا لشخصه، أفكاره وأحاسيسه، تمامًا كعضو من أعضائه.
من هنا، يطرح التساؤل حول أحقية منع إنسان ما من أداء عمل من إبتكاره، وما الجدوى من قانون لا يحمي مبدعينا؟!
بالنسبة لقانون حقّ المؤلف اللبناني، يهمّنا أن نوضح النقاط التالية: أوّلًا: إنّ هذا القانون يجعل المؤلّف في المرتبة الأولى، وثانيًا أنّه بالرغم من أنّ هذا القانون لم يُزل الغموض عن الطبيعة القانونية لحقّ المؤلّف ممّا يستوجب توضيحها، ولكن لا يجوز بأيّ حال إنتقال ملكية الحقوق المادية للمؤلّف.
أوّلًا: القانون يهدف أوّلًا إلى حماية حقوق المؤلف: لا شكّ أنّ قانون حقّ المؤلّف الذي وضع سنة 1999 جاء نتيجة تجاذبات سياسية وإقتصادية جعلته يشذّ قليلًا عن النموذج الفرنسي إلّا أنّه قد حافظ على المفاهيم الأساسية التي تجعله ينطوي تحت لواء المدرسة اللاتينية وليس المدرسة الانكلوساكسونية، وذلك لاعتماده الاعتبار الشخصي وليس الموضوعي. وبالتالي فإنّ هدف هذا القانون هو حماية المؤلّف وحقوقه، ويظهر هذا الاعتبار جليًا من خلال الحقوق المعنوية التي يتمتّع بها المؤلّف، وعدم فرض الايداع كشرط لنشوء الحقّ واشتراط أن يكون المؤلّف شخصًا طبيعيًا. أمّا الحقوق المادية فقد وضعت لتمكين المؤلّف من الاستفادة من أعماله وبالتالي لا يمكن أن تكون سببًا لحرمانه من هذه الأعمال.
ثانيًا: عدم جواز انتقال ملكية الحقوق المادية: إذا عدنا إلى تاريخ نشوء حقّ المؤلّف بشكل عام لوجدنا أنّ هذا الحقّ قد ولد مع إشكالية كبيرة لم يتمّ حلّها حتّى اليوم، وهي إشكالية تحديد الطبيعة القانونية للحقوق التي يتمتّع بها المؤلّف. صحيح أنّ نظريات عديدة قد تناولت هذا الموضوع، وقد تأرجحت بين اعتبار حقّ المؤلّف حقّ ملكية أو اعتباره حقًّا شخصيًا، فقد رسا كلّ من القانونين الفرنسي واللبناني على اعتباره حقّ ملكية فكرية. إلّا أنّ إضافة نوع جديد من الحقوق يوجب إيضاح طبيعة هذا الحقّ وكيفية انتقاله، وبالتالي فنحن نتطرّق إلى هذا الموضوع لكي نوضح أنّ حقّ المؤلّف ليس حقّ ملكية يمكن التنازل عنه بشكل كلّي وذلك للإعتبارات التالية:
– إنّ التعبير الذي استخدمته المادة 15 (يكون لصاحب حقّ المؤلّف…الحقّ الحصري في اجازة أو منع…) هو الأصحّ وليس التعبير الذي استخدمته المادة 16 (إنّ الحقوق المادية للمؤلّف تعتبر حقًّا منقولًا يمكن التفرّغ عنه كلّيًا أو جزئيًا) لأنّ التفرّغ يحمل في طيّاته معنى البيع، الأمر الذي يناقض أحكام المادة 17 التي تنصّ على إلزامية تعيين مدّة محدّدة لعقود التفرّغ عن الحقوق المادية (إذا لم تتضمّن تلك العقود مهلة محدّدة تعتبر حكمًا أنّها معقودة لفترة عشر سنوات…). فلا يمكن للقانون أن يناقض نفسه بين مادتين، وليس من المنطق التكلّم عن بيع أو تنازل.
– إنّ عبارة (التفرّغ كلّيًا) لا تجوز، لأنّ المادة 17 توجب النصّ على كلّ حقّ على حده، والمادة 19 توجب أن يكون التفرّغ محصورًا بالحقّ المتفرّغ عنه، وأن تفسّر العقود تفسيرًا ضيّقًا. وبالتالي فإنّ المؤلّف الذي يتنازل تنازلًا كلّيًا عن حقوقه المادية هل من المنطق أن يكون قد وافق على تعديل عمله أو تحويره أو غيرها من الحقوق المادية التي نصّت عليها المادة 15 والتي قد تمسّ جوهر إبداعه وينشأ عنها عمل إبداعي آخر لمؤلّف آخر؟
– بحسب المادة 22 (لا يجوز التصرّف بحقوق المؤلّف المعنوية ولا يجوز إلقاء الحجز عليها، إنّما يجوز انتقال تلك الحقوق إلى الغير عن طريق الوصية أو قوانين الإرث)، ونستخلص من ذلك أنّ الحقوق المعنوية تبقى أبدًا للمؤلّف بالرغم من تنازله عن الحقوق المادية. والمادة 21 تقدّم لائحة بالحقوق المعنوية ومنها: (التراجع عن عقود التنازل أو التصرّف بالحقوق المادية حتّى بعد نشرها إذا كان ذلك التراجع ضروريًا للمحافظة على شخصيته وسمعته لتغيير في معتقداته أو ظروفه شرط تعويض الغير عن الضرر…). فهل يمكننا التكلّم عن تنازل عن ملكية عندما يمنح القانون المؤلّف صراحة حقّ التراجع عن هذا التنازل ويربط ذلك بأسباب تتعلّق بمعتقدات وظروف وشخص المؤلّف بشكل عام، وكلّها اعتبارات ذات مفاهيم واسعة غير محدّدة، وشخصية غير موضوعية؟
– إنّ جرم الاعتداء على الأعمال الأدبية والفنية هو جرم التقليد الذي نصّت عليه المادة 85 من قانون حقّ المؤلّف، وليس جرم السرقة الذي يتناول الأموال والذي نصت عليه المادة 638 من قانون العقوبات. وبالتالي هل يمكن الادعاء على المؤلّف بجرم التقليد إذا قام بأداء عمل قد تنازل عن أدائه؟ وبعبارة أخرى هل يمكن للمؤلّف أن يقلّد نفسه؟
– لقد نصّت المادة 22 من قانون 2000/240 المتعلّق ببراءات الاختراع على كيفية انتقال الحقوق الناشئة عن البراءة وهي (…إجازة استثمار حصرية أو غير حصرية، أو عقد ارتهان كما تنتقل عن طريق الإرث أو الوصية). إنّ انتقال الحقوق المادية للمؤلّف عن طريق الترخيص أو الإجازة هو أكثر ملاءمة من انتقالها بطريق التفرّغ المنصوص عليه في المادة 16 وذلك لأنّ التفرّغ يحمل في طيّاته نقلًا للملكية، أمّا الترخيص فهو ينقل الحقّ مؤقّتًا إلى المرخّص له، وهو الأثر المطلوب في عقود انتقال الحقوق المادية للمؤلّف. والواقع أنّ الحقوق الأدبية والفنّية هي أكثر التصاقًا بشخصية مبتكرها من الحقوق الناتجة عن براءة الاختراع بدليل وجود الحقوق المعنوية التي تحميها وتحمي شخصية مؤلّفها، فيجدر اختيار أكثر العقود حرصًا عليها لتنظيم انتقالها.
بناء على ما تقدّم شرحه، نوجز أنّه قد يكون من الصعب تحديد الطبيعة القانونية لحقّ المؤلّف، ولكن من حيث المنطق القانوني ووجوب احترام الروح العامة لهذا الحقّ التي تولي الاهتمام الأوّل بشخص المؤلّف، يمكننا الجزم أنّه ليس حقّ ملكية يمكن التنازل عنه.
ويبقى أن نختم أنّ القوانين التي تواكب التطوّر الفكري والتي تقدّم أقصى حماية قانونية لمبدعيها، تعكس مستوى الرقي والتحضّر في المجتمعات، لأنّ الحماية تدفع إلى الإبداع فترقى هذه المجتمعات، فماذا نفعل نحن لمبدعينا وكيف نحثّهم على الابداع؟
“محكمة” – الأربعاء في 2023/6/14

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!