بركان سعد الرئيس الحادي عشر للتفتيش القضائي في لبنان في 55 سنة
كتب علي الموسوي:
إذا كان القاضي هو سيّد نفسه في إصدار الأحكام المتجانسة مع القواعد القانونية التي ترعاها تحت عباءة الحرص الشديد على إحقاق الحقّ كمبدأ لا غنى عنه في إرساء العدالة المطلوبة إنطلاقاً من بوصلة الضمير الحيّ، والنبل الإنساني، فإنّ التفتيش القضائي هو الركن الأساسي لقيام قضاء نزيه ومستقلّ وشفّاف، وذلك من خلال السهر على انتظام العمل، وجلسات المحاكم، وإصدار الأحكام في مواعيدها، ومن دون أيّة شائبة تذكر، إذ إنّ وجود خطأ ما في التقدير في متن الحكم البدائي يتيح لهذا الحكم أو القرار أن يسلك الطرق القانونية المتبعة باستئنافه وتمييزه ضمن المهلة المحدّدة، لكن أن يجيء الخطأ من هذا القاضي أو ذاك، جسيماً وعظيماً، ومفتعلاً ومقصوداً، وبأساليب ملتوية تثير الشكوك وتفتح باب التساؤلات، فلهو أمر يستدعي التوقّف عنده، لأنّه يؤذي سمعة القضاء برمّته، ومن هنا أهميّة وجود تفتيش قضائي قوي وقادر على التحرّك والعطاء ومكافحة كلّ أنواع الفساد.
وبسبب الدور المحوري للتفتيش في تنقية الجسم القضائي من العثرات والزلّات، وفي الحؤول دون اختلال ميزان العدالة، وفي توجيه الحركة القضائية نحو الاستمرار في العطاء بحكمة وروية ومصداقية وشفافية وبدون تعب أو ملل، أُعطي مكانة كبيرة لا تقتصر على المراقبة والمساءلة والمحاسبة وتقويم الإعوجاج في حال حدوثه، بل له دور إستباقي في صون هذا الجسم من مفاسد الحياة والإنزلاق فيها سهواً، أو عن سابق إصرار وتصميم!.
ولذلك، فإنّ وجود التفتيش في الجسم القضائي أكثر من ضروري، ويعوّل عليه في لجم أيّ تدهور غير قانوني سواء في الملفّات، أو في مكانة القاضي في ذهن الناس وثقتهم بعمله إنطلاقاً ممّا يؤتيه من قرارات وأحكام وتصرّفات يجب أن تكون في الدرجة الأولى بنت العقل وبنت القانون.
التفتيش العثماني والفرنسي
وتنبّه المشترع العثماني خلال فترة خضوع لبنان لنفوذ الإمبراطورية العثمانية، إلى أهمّية وجود التفتيش في التنظيمات والممارسة القضائية، فبعثه مراقباً وأطلق يده “في كلّ محكمة استئناف والمحاكم البدائية التابعة لها”على ما ينقل القاضي خليل جريج في كتابه”معهد الدروس القضائية في خدمة القضاء”(الصفحة 65 من طبعة العام 1966)، ومع مجيء الإنتداب الفرنسي صار التفتيش”منوطاً بمفتّش عام يجمع بين يديه وظيفة قضائية عليا، بالإضافة إلى صلاحياته في مراقبة تنظيم القضاء من اقتراح للتعيين والنقل والتأديب”، مركّزاً دوره على تنقية الجسم القضائي ممّا اعتراه من شوائب برزت بشكل واضح في العهد العثماني.
وعلى هذا الأساس، أنشأ المندوب الفرنسي في 20 آب من العام 1923 مفتّشية عامة مرتبطة بمدير العدلية وأوكل أمر إدارتها، بطبيعة الحال، إلى مفتّش فرنسي.
وبعد نحو سنة ونيّف من نيل لبنان استقلاله، صدر قانون في 14 تشرين الأوّل من العام 1944، فقانون آخر في 10 أيّار من العام 1950 نصّ على أنّ مدير العدلية العام ومفتّشاً عاماً يعاونه قاض، يتولّيان مسألة التفتيش بالنيابة عن وزير العدل الذي كانت المحاكم والنيابات العامة والدوائر تخضع لإشرافه. واستمرّ الأمر على هذا المنوال إلى حين صدور المرسوم رقم 7855 تاريخ 16 تشرين الأوّل من العام 1961 والذي أتاح إنشاء هيئة خاصة للتفتيش مستقلّة عن ملاك القضاء تتألّف من رئيس وثلاثة مفتّشين عامين وثلاثة مفتّشين، على أن يكونوا من القضاة العدليين، أو الإداريين، أو من ملاك ديوان المحاسبة.
المهام والصلاحيات
وتُطاول صلاحيات هيئة التفتيش، القضاء العدلي والإداري والمالي، أي المحاكم العدلية، ومجلس شورى الدولة، وديوان المحاسبة، والهيئات والوحدات والدوائر في وزارة العدل.
وقد اعْتُبر رئيس هيئة التفتيش القضائي أحد الأعضاء الحكميين الثلاثة في مجلس القضاء الأعلى مع رئيس المجلس والنائب العام التمييزي، ويمكنه من خلال موقعه الإستراتيجي هذا، الإطلاع على ملفّ كلّ قاض، وعلى نتاجه، وما إذا كانت توجد بحقّه شكاوى، أو صادرة ضدّه عقوبات تأديبية من تنبيه، ولوم، وتأخير في الترقية لمدّة لا تجاوز السنتين، وكسر وإنزال الدرجة، والتوقيف عن العمل بدون راتب لمدّة لا تتجاوز السنة، نتيجة ارتكابه خطأ لا ينسجم والقوانين المرعية الإجراء.
ويفترض أن يؤخذ رأي رئيس هيئة التفتيش بعين الاعتبار، عند الحديث عن قاض مشكو منه، خصوصاً عند إجراء تشكيلات أو مناقلات قضائية، للحؤول دون تسليمه منصب لا يتوافق ومؤهّلاته ومواصفاته العلمية والقانونية والشخصية.
حصانته الأقوى
على أنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو أنّ رئيس هيئة التفتيش القضائي يتمتّع بنفوذ وحصانة يجعلانه أهمّ من الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز ورئيس مجلس شورى الدولة، فهو لا يحال على التأديب على الإطلاق ولم يشر القانون إلى ذلك أبداً، بينما يمكن إحالة هذين الأخيرين إلى مجلس التأديب، ولا “يوجد نصّ في القانون يحول دون إمكان إحالتهما إلى مجلس التأديب” على ما يقول جريج في كتابه المذكور آنفاً، فتكون حصانته في ذلك أقوى من حصانتهما.
كما أنّ عمل التفتيش القضائي يشمل المساعدين القضائيين من المباشرين، والكتّاب، ورؤساء الكتبة، ورؤساء الأقلام والمصالح والديوان، وكلّ موظّف بالتعاقد يقدّم خدمة مأجورة للقضاء في المحاكم وقصور العدل والمجالس واللجان، فضلاً عن كتّاب العدل، ووكلاء التفليسة، والخبراء، ومراقبي الصلح الإحتياطي، وله الحقّ بالإطلاع على كلّ المستندات والوثائق والسجّلات خلال قيامه بتحقيق ما، فضلاً عن الإستماع إلى من يراه ضرورياً من الموظّفين والأشخاص الذين لهم علاقة ما بالحادثة حتّى ولو كان صحفياً، وذلك على غرار ما حدث مع الصحفيين المعتمدين في قصر عدل بيروت عند “حادثة” تحطيم باب مكتب المحامي العام المالي القاضي خالد حمود، أو اتصال هذا الأخير بهم لموافاته إلى “مسرح المداهمة” خلال النظر في الملفّات الصاخبة في فترة حكومة الرئيس سليم الحصّ في عهد الرئيس إميل لحود، وتحديداً في العامين 1999، و2000.
ويستطيع رئيس هيئة التفتيش القضائي أن يقوم شخصياً بتفتيش محكمة التمييز، ومجلس شورى الدولة، وديوان المحاسبة، والمديرية العامة لوزارة العدل، والتحقيق مع القضاة العدليين ممن هم من الدرجة السابعة وما فوق، ويمكنه في الوقت نفسه تكليف مفتّش عام للإضطلاع بهذه المهمّة، بالإضافة إلى التحقيق في كلّ شكوى ترده مباشرة، أو بواسطة وزير العدل، وبمقدوره أن يسند هذا الفعل إلى أحد المفتّشين العامين والعاديين.
وإذا كان التفتيش القضائي بخير، فحتماً القضاء برمّته بخير، ذلك أنّ التصدّي لأيّة شائبة، أو إخلال بالواجبات الوظيفية، لا يكون بالتغاضي عنها، وإنّما بالإضاءة عليها ومعالجتها في سبيل إبقاء هيبة القضاء من دون مسّ، ولكي يظلّ القضاء ملجأ الناس في كلّ الأوقات والأماكن والأزمنة والأزمات.
رئيس من الدرجة 14
ويعيّن مجلس الوزراء رئيس هيئة التفتيش والمفتّشين العامين الأربعة، والمفتّشين العاديين الستّة، بمراسيم، “بناء” على “اقتراح” وزير العدل من بين القضاة العدليين، ويجب أنّ يكون الرئيس من القضاة العاملين المصنّفين ضمن الدرجة الرابعة عشرة وما فوق في سلّم الدرجات المعمول بها في القضاء العدلي.
ومع أنّ العرف درج على أن يكون رئيس التفتيش من القضاة العدليين، إلاّ أنّه لا يوجد أيّ مانع يحول دون تعيينه من بين قضاة مجلس شورى الدولة أو ديوان المحاسبة، على أن تكون درجته موازية للدرجة الرابعة عشرة وما فوق في ملاكين القضاءين الإداري والمالي، وهو عضو في مكتب مجلس شورى الدولة، والذي يتألّف عادةً، من رئيس المجلس، ومفوّض الحكومة، ورؤساء الغرف.
بينما يجب أن يكون المفتّش العام من الدرجة التاسعة وما فوق، والمفتّش العادي من الدرجة السابعة وما فوق.
ومن أبرز القضاة الذين تولّوا رئاسة هيئة التفتيش القضائي وتركوا بصمات لا تمحى، نذكر عبد الباسط غندور(1924-2008) الذي يحتفظ بالرقم القياسي في البقاء في هذا المنصب لمدّة أربع عشرة سنة على التوالي بين العامين 1978 و1992، وطارق زيادة صاحب الدور الريادي في إعطاء التفتيش هيبة كبيرة.
تأخّر في التعيين
وللمرّة الثالثة على التوالي، تأخّرت السلطة التنفيذية في تعيين رئيس لهيئة التفتيش القضائي من بين قضاة الطائفة السنّية بحسب العرف الطائفي المتبع في توزيع مناصب الفئة الأولى في لبنان، إثر خلو هذا المركز من شاغله بالتقاعد، ممّا استدعى حلول المفتّش العام الأعلى درجة بين زملائه في هذه الرئاسة بصورة مؤقّتة، وهذا ما حصل عند تقاعد القاضي محمّد علي عويضة في العام 2008، فأنيطت المسؤولية بالقاضي الماروني أنطوني عيسى الخوري الذي سمح تعيينه رئيساً للغرفة العاشرة في محكمة التمييز، بانتقال رئاسة التفتيش إلى القاضي الشيعي محمّد سمير حاطوم إلى حين تعيين القاضي السنّي أكرم بعاصيري رسمياً، وعند تقاعده في 29 كانون الأوّل 2016، حلّ مكانه القاضي الماروني مالك صعيبي رئيساً مؤقّتاً.
بركان سعد في سطور
وعيّن مجلس الوزراء خلال التئامه يوم الأربعاء الواقع فيه 8 آذار 2017، في قصر بعبدا، القاضي بركان سعد رئيساً لهيئة التفتيش القضائي، فمن هو هذا القاضي؟.
كلّ من تابع مسيرة القاضي بركان عبد القادر سعد في السلطة الثالثة، لمس عن كثب، نجاحه في الشقّ الجزائي، سواء من خلال حلوله مستشاراً في محكمة الجنايات في بيروت، أو عند ترؤسه لها، أو عند تعيينه عضواً في المجلس العدلي، إذ كان بصفة مستشار في محكمة التمييز ويوجد قضاة من طائفته تناوبوا على رئاسة غرفتين في محكمة التمييز وأعلى منه في الدرجة، ولكنّه أبلى بلاء حسناً، وقدّم صورة ناصعة عن القاضي المتمرّس، وكانت له اليد الطولى في القيام بعدد من الاستجوابات التمهيدية ودرس ملفّات المحاكمات وبعضها في عين الإرهاب، وإعداد الأسئلة الملائمة وتسليمها لرئيس المجلس لكي يقوم بطرحها على المتهمّين عند استجوابهم، وهذا ما استشفّ في ملفّ التفجير الإرهابي الذي استهدف حافلتين لنقل الركّاب في محلّة عين علق في قضاء المتن الشمالي في 13 شباط 2007، في عهد رئيس المجلس العدلي القاضي غالب غانم.
دورة الكبار
ولد القاضي بركان سعد في بيروت في العام 1954، وحاز إجازة في الحقوق من كلّيّة الحقوق في الجامعة اللبنانية في محلّة الصنايع في بيروت في العام 1978، ودخل إلى القضاء في الأوّل من شهر تشرين الأوّل من العام 1981، ضمن دورة تكوّنت من القضاة سمير حمود، مالك صعيبي، ماري دنيز المعوشي، هيلانة اسكندر، غسّان فوّاز، غسّان عويدات، رياض أبو غيدا، محمّد برّي، وجمال الخوري، وهم يعتلون حالياً مناصب رفيعة في القضاء من نائب عام تمييزي، إلى مفتّش عام، ورئيسة هيئة التشريع والإستشارات، ورئيسة هيئة القضايا، ورئيس غرفة في محكمة التمييز، وقضاة تحقيق أُوَل في بيروت والنبطية والعسكرية، ورئيسة محكمة جنايات، ورئيسة محكمة استئناف، وقد برز القاضي بركان سعد بتفوّقه حيث حلّ طليع هذه الدورة وعن جدارة.
وتأخّر صدور مرسوم تخرّج هذه الدفعة من القضاة من معهد الدروس القضائية بسبب ذهابهم في دورة تدريبية إلى قصر عدل باريس لمدّة ثمانية شهور بدءاً من شهر تشرين الأوّل من العام 1984 ولغاية 15 أيّار من العام 1985، وقد أدّوا اليمين القانونية أمام رئيس محكمة استئناف باريس حفاظاً على سرّ المذاكرة بعدما سمح لهم بالمشاركة في الجلسات دون إصدار الأحكام والقرارات، وتنقّلوا في مختلف المحاكم ودوائر التحقيق والنيابة العامة في باريس، ولمّا عادوا إلى لبنان، إنتظروا حتّى 18 كانون الثاني من العام 1986 ليصبحوا قضاة أصيلين.
أصغر أعضاء”العدلي”
شغل القاضي بركان سعد المناصب القضائية التالية: عضو محكمة البداية في بيروت(المحكمة التجارية)، مستشار في الهيئة الإتهامية في جبل لبنان في العام 1988، مستشار في الهيئة الإتهامية في بيروت بين العامين 1990 و1999، مستشار في الغرفة السادسة لمحكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي رالف رياشي، مستشار في محكمة الجنايات في بيروت، رئيس محكمة الجنايات في بيروت لمدّة خمس سنوات، رئيس الغرفة السابعة لمحكمة التمييز الجزائية بدءاً من أواخر العام 2014 إلى حين تعيينه رئيساً لهيئة التفتيش القضائي.
في شباط من العام 2003 صدر مرسوم تعيين القاضي بركان سعد عضواً في المجلس العدلي ليكون أصغر القضاة سنّاً وبقي 14 عاماً إلى حين استلامه منصبه الجديد.
فنّ التحقيق
وإلى جانب العمل القضائي، فإنّ القاضي سعد أستاذ محاضر في معهد الدروس القضائية لمادتي “فنّ التحقيق” و”قانون المخدّرات” اللتين تدرسان في السنة الثالثة، وهو رئيس لجنة الاعتراض على رسم الطابع المالي في وزارة المالية منذ العام 2003، ولا يزال، وعيّن عضواً في اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل النيابية، والتي كُلّفت درس اقتراح القانون الرامي إلى إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في القطاع العام. وشارك في مؤتمرات قانونية وقضائية دولية في اسطنبول وتونس ومالطا تناولت جرائم مختلفة منها الإرهاب.
تأهّل القاضي سعد من السيّدة سمر الربعة، ولهما دينا وهي قاضية في القضاء العدلي منذ العام 2009، وسامر الذي تخرّج بشهادة إدارة الأعمال من الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت. وتبلغ درجة سعد الحالية 18، ويحال على التقاعد في الأوّل من تموز العام 2022.
ولم يكن تعيين سعد في رئاسة التفتيش مفاجئاً على الإطلاق، إذ عرف عنه سيرته الحسنة ومناقبيته وتهذيبه الجمّ، وقدرته الفائقة على إدارة جلسات المحاكمات من دون أن يرفّ له جفن، أو يضعف أمام تدخّل من هنا أو هناك. وفي جعبته مئات الأحكام والقرارات الجزائية التي تنمّ عن براعة في تنفيذ القانون بعدل وإنصاف.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 16 – نيسان 2017). *حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.